بازگشت

الرقابة المشددة علي الامام


ولذا فـلانـعـجـب إذا شـدّد مـعـاويـة الرقـابـة علي الامام (ع)، ورصد عليه الصغيرة والكبيرة من سكناته وحركاته في حياته الخاصّة والعامّة، وفي حِلّه وترحاله.

وكان معاوية يتعمّد تحسيس الامام (ع) وإشعاره بهذه المراقبة، وإعلامه بأنّ الصغيرة والكبيرة مـن مـجـريـات حياته مرفوعة إليه آنا فآنا بلاانقطاع بواسطة جواسيسه، لعلّ ذلك ينفع في ردع الامام (ع) عن الفكرة بالخروج والقيام!!

والامـثـلة عـلي هـذه الحـقـيـقـة كـثـيـرة، نـنـتـقـي مـنـهـا هـذا المـثـال الدال عـلي أنّ مـعـاويـة كـان قـد رصـد عـلي الامـام حـتـّي شـؤونـه الخـاصـّة فـي مـنـزله، يـقـول التـأريخ: (وكان لمعاوية بن أبي سفيان عين بالمدينة يكتب إليه بما يكون من أمور النـاس وقـريـش،


فـكتب إليه: أنّ الحسين بن علي أعتق جارية له وتزوّجها، فكتب معاوية إلي الحسين:

من أمير المؤمنين معاوية إلي الحسين بن عليّ:

أمـّا بـعـدُ: فـإنّه بلغني أنّك تزوّجت جاريتك، وتركت أكفأك من قريش، ممّن تستنجبه للولد، وتمجّد به في الصهر، فلالنفسك نظرت، ولالولدك انتقيت.

فكتب إليه الحسين بن علي (ع):

(أمّا بعد: فقد بلغني كتابك، وتعييرك إيّاي بأنّي تزوّجت مولاتي، وتركت أكفائي من قريش، فـليـس فـوق رسـول اللّه مـنـتهي في شرف، ولاغاية في نسب، وإنّما كانت ملك يميني خرجت عن يـدي بـأمـرٍ التـمـسـت فـيه ثواب اللّه تعالي، ثمّ ارتجعتها علي سُنّة نبيّه (ص)، وقد رفع اللّه بالاسلام الخسيسة، ووضع عنّا به النقيصة، فلالوم علي امريٍ مسلم إلاّ في أمر مأثم، وإنّما اللوم لوم الجاهليّة).

فـلمـّا قـرأ مـعـاويـة كـتـابـه نـبـذه إلي يـزيـد، فـقـراءه وقال: لشدّما فخر عليك الحسين! قال: لا، ولكنّها ألسنة بني هاشم الحداد التي تفلق الصخر، وتغرف من البحر! [1] .

ولاريب أنّ الامام (ع) وإن اقتصر في ردّه علي معاوية بالاحتجاج عليه فيما يتعلّق بموضوع هذه الجـاريـة، إلاّ أنـّه قـد أدرك مـراد معاوية الخفيّ من وراء هذه الرسالة، وهو أنّني علي علم بكلّ ما تـفـعـله حـتـّي شـؤونـك الخـاصـّة فـي داخـل مـنـزلك! فـمـابـالك بعلاقاتك الاجتماعيّة وشؤونك السـياسيّة العامّة!؟ فاحذر ولاتتجاوز


تربّصك بنا إلي القيام بفعلٍ لاتكون عاقبته إلاّ وقوع السيف بيننا!

لقـد كـانت الموازنة دقيقة وحسّاسة جدّا في المتاركة القائمة بين الامام الحسين (ع) وبين معاوية، لكـنّ بـعـض الامـويـّيـن مـمـّن كـانـت قـلوبـهـم تـغـلي بـنـار الحـقـد عـلي أهـل البـيـت (ع)، وليـس لهـم دهاء معاوية، كانوا يستعجلون معاوية في تقاريرهم التي يبعثونها بـالاخـذ عـلي يـد الامـام (ع) أخـذا شـديـدا أو التـخـلّص مـنـه قبل أن تستفحل الامور وتستعصي معالجتها علي بني أميّة!

وأشدّ هؤلاء الامويّين حقدا علي أهل البيت (ع)، وأكثرهم عجلة وخرقا، كان مروان بن الحكم الذي كـانـت تـقـاريـره تـتـوالي عـلي مـعـاويـة، وتـشـعُّ بـالانـدفـاع والاسـتـعـجـال، فـقـد كـتـب إلي مـعـاويـة ذات مـرّة (يـعـلمـه أنّ رجـالامـن أهـل العـراق قـدمـوا عـلي الحـسـيـن بـن عـليّ (ع)، وهم مقيمون عنده، يختلفون إليه، فاكتب إليَّ بالذي تري). [2] .

وقـال البـلاذري: (وكـان رجـال مـن أهـل العـراق وأشـراف أهـل الحـجـاز يـخـتـلفـون إلي الحـسـيـن يجلّونه ويعظّمونه، ويذكرون فضله، ويدعونه إلي أنـفسهم، ويقولون إنّا لك عضدٌ ويدٌ، ليتّخذوا الوسيلة إليه، وهم لايشكّون في أنّ معاوية إذا مات لم يعدل الناس بحسينٍ أحدا.

فـلمـّا كـثـر إخـتـلافـهـم إليـه أتـي عـمـرو بـن عـثـمـان بـن عـفّان مروان بن الحكم ـ وهو إذ ذاك عامل معاوية علي المدينة ـ فقال له: قد كثر اختلاف الناس إلي حسينٍ، واللّه إنّي لاري أنّ لكم منه يوما عصيبا.

فكتب مروان ذلك إلي معاوية...). [3] .


وكـتـب إليـه أيـضـا: (إنـّي لسـت آمـن أن يـكـون حـسـيـن مرصدا للفتنة، وأظنّ يومكم من حسين طويلا!). [4] .

لكـنّ مـعـاويـة الذي كـان يـري أنّ مـن مـصـلحـته أن يبقي الامام الحسين (ع) ملتزما بالهدنة ولو ظـاهرا، لم يكن ليرغب في الخروج عن حال المتاركة مع الامام (ع)، فكان يردّ مروان عن تجاوز هذه المتاركة، ويأمره بالصبر وينهاه عن الخرق والعجلة، فقد كتب إليه:

(اتـرك حسينا ما تركك ولم يظهر لك عداوته ويُبدِ صفحته، واكمن عنه كمون الثري إن شاء اللّه، والسلام). [5] .

ومـع هـذا فـإنّ مـروان الذي كـان أشـدّ ولاة المـديـنـة الامـويـّيـن عـلي أهـل البـيـت (ع) لم يـكـن ليطيق وجود الامام الحسين (ع) في المدينة وهويري التفاف الامّة حوله وانشدادها إليه، فاقترح علي معاوية إبعاد الامام عن المدينة وفرض الاقامة الجبريّة عليه في الشام، لينقطع بذلك اتصاله بأهل العراق، لكنّ معاوية رفض هذا الاقتراح أيضا، وردّ عليه قائلا:

(أردت واللّه أن تـسـتريح منه وتبتليني به، فإن صبرتُ عليه صبرتُ علي ما أكره، وإن أسأتُ إليه قطعتُ رحمه). [6] .

وفوق الرقابة المشدّدة علي الامام (ع) كان بعض ولاة المدينة الامويّين يتدخلون عمليّا فيمنعون وفـود الامـّة مـن لقـاء الامـام (ع) خـوفـا مـن تـطـوّر الامـور عمليّا لصالح الامام (ع)، فقد روي البلاذري عن العتبي أنّ الوليد بن عتبة حجب


أهل العراق عن الامام الحسين (ع).

فـقـال الحـسـيـن (ع): يـا ظـالمـا لنـفـسـه، عـاصـيـا لربـّه، عـلامـَ تحول بيني وبين قوم عرفوا من حقّي ما جهلته أنت وعمّك!؟

فـقال الوليد: ليت حلمنا عنك لايدعو جهل غيرنا إليك، فجناية لسانك مغفورة لك ما سكنت يدك، فلاتخطر بها فتخطر بك، ولوعلمت ما يكون بعدنا لاحببتنا كما أبغضتنا!!). [7] .

وإضـافـة إلي مـا قـدّمـناه قبل ذلك في أن تصريح الوليد هذا كاشف عن حقيقة ما يعنيه الحكم الامـويّ فـي دعـوي (الدم المـضـنـون)، نـلفـت هـنـا الانـتـبـاه إلي أن قـول الوليـد (ولو عـلمـت مـا يكون بعدنا لاحببتنا كما أبغضتنا) ربّما كان إشارة إلي أنّ هذه المـتـاركـة الموزونة بيننا وبينك سوف لن تتحقّق في غير عهد معاوية، وأنّ يزيد الذي سيخلف أبـاه شـخـصـيـّة أخـري، لاتري في التعامل معك غير الشدّة والصرامة، وسوف تضيق عليك الارض بما رحبت، وعندها إذا التفتَّ إلي وراء ستذكر أيّامنا وعفونا وسماحتنا!! فكأنّه يمنّ علي الامام (ع) بهذه المتاركة الموزونة التي هي في نفعهم هم أوّلا وأساسا!!


پاورقي

[1] زهر الاداب، 1: 101.

[2] الاخبار الطوال: 224.

[3] أنساب الاشراف، 3: 152، حديث 13.

[4] تأريخ ابن عساکر (ترجمة الامام الحسين (ع) تحقيق المحمودي: 197، حديث 254.

[5] أنساب الاشراف، 3: 152، حديث 13.

[6] حياة الامام الحسين بن علي (ع)، 2: 223.

[7] أنساب الاشراف، 3: 156 ـ 157، حديث 15.