بازگشت

الفصل بين الاموية و الاسلام


مـرّ بـنـا فـي المـقـالة الاولي مـن مدخل هذا الكتاب: كيف أنّ معاوية بن أبي سفيان (الذي انتهت إليه قيادة حركة النفاق آنذاك) قد أضـلّ جـلّ هـذه الامـّة إضـلالابـعـنـوان الديـن نـفـسـه! حـيـث عـتـّم عـلي ذكـر أهـل البـيـت (ع) وعـلي ذكـر فـضـائلهـم تـعـتـيـمـا تـامـّا، وافتعل من خلال وضّاع الاحاديث-افتراءً علي النبيٍّّ (ص) ـ قداسة مكذوبة له ولبعض من مضي من


الصـحـابـة الذيـن قـادوا حـركـة النـفـاق أو سـاروا فـي ركـابـهـا، وتـآزروا عـلي غـصـب أهل البيت (ع) حقّهم الذي فرضه اللّه لهم، وخدّر معاوية بن أبي سفيان الامّة المسلمة عن القيام والنـهوض ‍ ضدّ الظلم من خلال تأسيس فرق دينيّة تقدّم للناس تفسيرات دينية تخدم سلطة الامـويّين وتبرّر أعمالهم، كما في مذهب الجبر ومذهب الارجاء وأعانه علي ذلك ما بذله من جهدٍ كبير في تمزيق الامّة قبليّا وطبقيّا، وفي اضطهاد الشيعة اضطهادا كبيرا.

ومـع طـول مـدّة حـكمه، انخدع جلّ هذه الامّة بالتضليل الديني الامويٍّّ، واعتقدوا أنّ حكم معاوية حكم شـرعيّ، وأنّه امتداد للخلافة الاسلاميّة بعد رسول اللّه (ص)، وأنّ معاوية إمام هذه الامّة، وأنّ مـن يـنوب عنه في مكانه إمام لهذه الامّة وامتداد لائمتها الشرعيّين!! ومن المؤسف حقّا أنّ جلّ هذه الامـّة خـضـع خـضـوعـا أعـمـي لهذا التـضـليـل وانـقـادله، فـلم يـعـد يـبـصـر غـيـره، بل لم يعد يصدّق أنّ الحقيقة شي آخر غير هذا!

هـذا ابـن زيـاد يـخـطـب فـي النـاس فـي خـطـبـتـه التـي خـذّلهـم فـيـهـا عـن مـسـلم بـن عقيل (ع) فيقول فيها:

(إعتصموا بطاعة اللّه وطاعة أئمّتكم!!). [1] .

وهذا مسلم بن عمرو الباهلي يخاطب مسلم بن عقيل (ع) مفتخرا بضلاله قائلا:

(أنـا ابـن مـن عـرف الحـقّ إذ أنـكـرتـه!، ونـصح لامامه إذ غششته!، وسمع وأطاع إذ عصيته وخالفت!) [2] .


وهـذا عـمـروبـن الحـجـّاح الزبـيـدي -مـن قـادة الجـيـش الامـويّ فـي كـربـلاء -صـاح يـحـرّض أهل الكوفة علي الامام الحسين (ع) وأنصاره قائلا:

(يـا أهـل الكـوفـة، إلزمـوا طـاعـتـكـم وجـمـاعـتـكـم، ولاتـرتـابـوا فـي قتل من مرق من الدين وخالف الامام!) [3] .

هـذا فـي الكـوفـة والعـراق! أمـّا فـي الشـام فـقـد كـان أهـل الشـام يـرون أنـه ليـس ‍ لرسـول اللّه (ص) قـرابـة ولاأهل بيت يرثونه غير بني أميّة!! [4] .

وكـان الحـكـم الامـويّ حـريصا كلّ الحرص في الحفاظ علي هذا الاطار الدينيّ الذي تلبّس به عن طريق الجهد الطويل في المكر والخداع..

ولقد كان أضمن السبل لتحطيم هذا الاطار الديني هو أن يثور عليه رجلٌ ذو مركز دينيّ مسلَّمٌ به عـنـد الامـّة الاسـلامـيـّة، فثورة مثل هذا الرجل كفيلة بأن تفضح الزخرف الديني الذي يتظاهر به الحكّام الامويّون، وأن تكشف هذا الحكم علي حقيقته، وجاهليّته، وبُعده الكبير عن مفاهيم الاسلام، ولم يـكن هذا الرجل إلاّ الحسين (ع)، فقد كان له في قلوب الاكثريّة القاطعة من المسلمين رصيد كبير من الحبّ والاجلال والتعظيم.

وكـان مـعـاويـة مـنتبها لهذه الحقيقة، فكان يتحاشي أيّة مواجهة علنيّة مع الامام الحسين (ع)، وكان يـجـتـهد في الحيلولة دون قيام الامام (ع) بالمراقبة الشديدة والمداراة، وكان عازما علي الصفح (فـي الظـاهـر طـبـعـا) عن الامام (ع) إذا قام ثمّ ظفر به -علي ما في بعض الروايات، كما سوف يـأتـي فـي مـتـن هـذا الكـتـاب -ذلك لانّ مـعـاويـة يـُدرك جـيـّدا أنّ سـفـك مثل هذا الدم المقدّس حماقة كبري تُعرّي الحكم


الامويّ عن كلّ الزيف الذي تلبّس به.

لكـنّ يـزيـد بـن مـعـاويـة ارتـكـب هـذه الحـماقة الكبري!! لاسباب عديدة منها افتقاره إلي الدهاء والحنكة السياسيّة اللذين كان يتمتّع بهما أبوه معاوية!

وفـي عـاشـوراء كـربـلاء لم يـرض الجـيـش الامـويّ مـن الامـام الحـسـيـن (ع) إلاّ بـالقـتـل، قـتـله وقتل أنصاره من أهل بيته وأصحابه الكرام في وضح نهار ذلك اليوم، بعد مـنـعـهـم عن الماء، حتّي مضوا عطاشي وفيهم حتّي الطفل الرضيع!، ثمّ ما فعلوه بعد ذلك من رضّ أجسادهم بحوافر الخيل، وسبي بنات النبوة علي الوجه المعروف، حاسرات بلاغطاء ولاوطاء، ونقل رؤوس القتلي مع السبايا من كربلاء إلي الكوفة وإلي الشام...

كـلّ ذلك جـرّد الامـويـّيـن مـن كـلّ صـبـغـة ديـنـيـّة وانـسـانـيـّة، بـل أظـهـرهـم عـلي حـقـيقتهم المضادّة للدّين والانسانيّة. لقد كانت الرؤوس والسبايا، وأحاديث الجنود العائدين دلائل حيّة، بليغة الاداء، قوّضت كلّ ركيزة دينيّة موهومة للحكم الامويّ في نفوس المسلمين.

ولقـد زاد الامـام الحـسـيـن (ع) مـوقـف الامـويـّيـن حـراجـة إذ لم يـصـّر عـلي القـتـال ولم يـبـداءهـم بـه، وقـد أعـطـاهـم (ع) الفـرصـة ليـتـّقـوا بـهـا ارتـكـاب قـتـله وقتل آله وصحبه، ولكنّهم أبوا إلاّ ارتكاب قتلهم وأصرّوا علي ذلك، فزادهم ذلك فضيحة في المسلمين.

لقـد عـمـي الجـيـش الامـويّ فـي حـمـاقـتـه الكـبـري فـي كـربـلاء يـوم عـاشـوراء عـن أنـّه يقاتل شخص رسول اللّه (ص) في شخص الحسين (ع).

هـذه الحـقـيقة التي فطن لها -في من فطن -الحرّ بن يزيد الرياحي رضوان اللّه تعالي عليه، فـتـعـذّب بـهـا العـذاب الاكـبـر، حـتـّي دفـعـتـه فـي يـوم عاشوراء إلي اختيار


الجنّة علي النار، فتحوّل إلي صفّ الامام (ع) واستشهد بين يديه!

لقد تحوّل الجيش الامويّ في إصراره علي قتل الامام الحسين (ع) إلي متمرّد علي الاسلام نفسه! وقـد اسـتـغـلّ الامـام الحسين (ع) إصرارهم علي قتله وامتناعهم عن الاستجابة لاقتراحاته استغلالارائعا في احتجاجاته يوم عاشوراء، لفضحهم ولكشف عدائهم للاسلام نفسه! فأظهر لكلّ مشاهد مـن ذلك المـلاالكـبـيـر الحاضر علي أرض الواقعة حقيقة نفاق الامويّين، ثمّ انتشرت بعد ذلك أنـبـاء فـجـائع وقـائع يـوم عـاشـوراء فـي كـلّ الامّة، ليتحقّق بذلك هذا الافق الكبير من آفاق الفتح الحسيني في فصل الامويّة عن الاسلام.

ولو لم تكن واقعة كربلاء لكان الامويّون قد واصلوا حكم الناس باسم الدين حتّي يترسّخ في أذهـان النـاس بـمـرور الايـّام والسـنـين أنّه ليس هناك إسلام غير الاسلام الذي يتحدّث به الامويّون ويؤخذ عنهم!! وعلي الاسلام السلام!

لو لم تـكـن واقـعـة عاشوراء لما كان بالامكان فصل الاسلام والامويّة عن بعضهما البعض، ممّا يـعـنـي أن زوال الامـويـّة يـومـا مـا كـان سـيعني زوال الاسلام أيضا!، ولكانت جميع الانتفاضات والثـورات التي قامت علي الظلم الامويّ تقوم حين تقوم علي الاسلام نفسه! لكنّ الفتح الحسيني فـي عـاشـوراء هـو الذي جـعـل كـلّ هـذه الانتفاضات والثورات التي قامت بعد عاشوراء إنّما تقوم باسم الاسلام علي الامويّة!. [5] .


وعـند هذه النقطة -فصل الامويّة عن الاسلام -تكون عاشوراء قد أعادت مساعي حركة النفاق -منذ وفـاة النـبـيٍّّ (ص) حتّي سنة ستّين للهجرة -إلي نقطة الصفر! فلو لم تكن عاشوراء لتمكّنت حـركـة النـفـاق المـتمثّلة بالحزب الامويّ آنئذٍ من القضاء علي الاسلام المحمّديّ الخالص تماما، ولمّا بقي منه الاّ عنوانه!

فـأيُّ أفـق فـي الفـتـح أوضـح وأكـبـر مـن أفـق الحـفـاظ علي الاسلام المحمّديّ الخالص ‍ من خلال فصل الامويّة بكلّ عوالقها عن هذا الاسلام!؟


پاورقي

[1] تاريخ الطبري،4:275.

[2] نفس المصدر، 4:281.

[3] تاريخ الطبري، 4:331.

[4] راجع: مروج الذهب، 3: 43.

[5] ولانـغـفـل أن نـذکـر هنا أنّ الخوارج کانت لهم ثورات وانتفاضات ضدّ الحکم الامويّ (بل تفرّدوا بذلک منذ شهادة الامام علي (ع) إلي عاشوراء)، لکنّ هؤلاء فشلوا في تحطيم الاطار الديـنـي عـن الحـکـم الامـويّ، وذلک لمـعـرفة الامّة بانحرافهم الفکري عن الاسلام، ولفظاظتهم وغـلظـتـهـم ولقـسـوتـهـم ورعـونـتـهـم ورغـبـتـهـم فـي سـفـک الدمـاء وعـدم تـورّعـهـم عـن قـتـل أيّ انـسـانٍ رجلاکان أوامراءةً، شيخا کان أو طفلا، الامر الذي أدّي إلي عدم تجاوب الامّة معهم، بل وقفت ضدّهم.