بازگشت

منطق الشهيد الفاتح


إنّ الفترة الزمنية الممتدّة من يوم إعلان الامام الحسين (ع) رفضه البيعة ليزيد بن معاوية أمام الوليـد بـن عـتـبـة والي المـديـنـة آنـئذٍ، إلي اليـوم الذي وصـل فـيـه كـتـاب عـبـيداللّه بن زياد إلي الحرّ بن يزيد الرياحي (ر)، والذي جاء فيه: (أمّا بـعـدُ: فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي، فلاتنزله إلاّ بالعراء في غير حـصـن ولامـاء، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولايفارقك حتّي يأتيني بإنفاذك أمري، والسلام)، [1] تعتبر فترة التعريف بنهضة الامام الحسين (ع)، كما يمكن اعتبارها أهمّ مقطع مـن مـقـاطـع هـذه الثـورة المـقـدّسـة لمـا حـوتـه من محاورات ومراسلات وخطب ووصايا ضبطها لنا التـأريـخ، فـهـي أغـني مقاطع هذه الثورة بالنصوص المعرّفة بها والكاشفة عن هويّتها ممّا ورد عن الامام الحسين (ع).

كـمـا أنّ هـذه الفـتـرة تـعـتـبـر أيـضـا أهـمّ مـقـاطـع هـذه الثـورة المـقـدّسـة بـمـنـظـار التحليل التأريخي، من ناحية عدد الاختيارات التي كان يملكها الامام الحسين (ع) في هذه الفترة، ومـن نـاحـيـة مـوقف الامام (ع) إزاء كلّ من هذه الاختيارات، ثمّ من ناحية نوع الاختيار الذي أصرّ إليه الامام (ع) منذ البدء.


لكـنّ الاسـتـفـادة مـن نـصـوص هـذه الفـتـرة المـهـمـّة فـي الوصول إلي تعريف صحيح تامّ لهذا الثورة المقدّسة لم تسلم في الغالب من عثرات القصور والخـطـأ فـي الاسـتـنـتـاج فـي كـثـيـر مـمـّا كـتـب حـول هـذه الثـورة، ويـكـفـي التـأمـّل اليسير في كثير من الكتب والدراسات التي تناولت البحث في حقيقة قيام الامام الحسين (ع) دليـلالاثـبـات مـا قـلنـاه ـ والامثلة تأتي ـ ولعلّ مرّد ذلك بالاساس إلي عدم الانتباه إلي النقاط الثلاث التالية:

1ـ معرفة هويّة المخاطَب في تلك النصوص.

2ـ النظر إلي هذه النصوص كوحدة في مجموعها.

3ـ ردّ المتشابه منها إلي المحكم.

انّ مـعـرفـة هـويـّة المـخـاطـَب مـن العـنـاصـر المـهـمـّة فـي فـهـم واسـتـيـعـاب روايـات أهـل البـيـت (ع)، لانـّهـم صـلوات اللّه عـليـهـم إنـّمـا يخاطبون الناس علي قدر عقولهم ومستوي بصيرتهم ودرجة ولائهم لهم ونوع علاقتهم بأعدائهم، وهذه نقطة مهمّة يجب حضورها دواما في ذهن الباحث المتأمّل في النصوص الواردة عنهم (ع).

ولاشـك أنّ الامـام الحـسـيـن (ع) كان قد خاطب أخاه محمّد بن الحنفيّة في محاوراته معه ووصاياه إليه خطابا مختلفا عن خطابه مع أخيه عمر الاطرف الذي كان قد أشار علي الامام (ع) قائلا: (فلولاناولت وبايعت!!). [2] .

كـمـا أنـّه (ع) يـخـاطـب أمَّ سـلمـة رضـوان اللّه عـليها خطابا يختلف عن ردّه علي كتاب عمرة بنت عبدالرحمن التي عظّمت عليه ما يصنع وأمرته بالطاعة ولزوم الجماعة!!


وخـاطـب (ع) الشـاعـر الفـرزدق فـي مـحـاوراتـه معه بمنطق اختلف عن منطقه مع عبداللّه بن مطيع العدوي الذي كان همّه الاكبر أن يكون ماء بئره عذبا وكثيرا!

ويـحـاور (ع) عبداللّه بن جعفر وابن عبّاس حوارا يختلف كثيرا عن حواره مع عبداللّه بن عمر صاحب الموقف والرأي المريب! الذي كان لايري إلاّ:

(أن تـدخـل فـي صـلح مـا دخـل فـيـه النـاس، واصـبـر كـمـا صـبـرت لمـعـاويـة مـن قبل). [3] .

حـتـّي ضـاق الامـام (ع) ذرعـا بـه وبـاقـتـراحـاتـه المـريـبـة فقال له:

(أفٍّ لهذا الكلام أبدا مادامت السموات والارض...). [4] .

وإذا تأمّل الباحث في جميع نصوص هذه الفترة المهمّة لوجد أثر نوع المخاطب في نوع كلّ منها بـيـّنـا جـليـّا، ومـمـّن انـتـبـه إلي هـذه النـقـطـة المـهـمـّة المـؤرّخ المـحـقـّق السـيـّد المـقـرّم حـيـث قال:

(وإنـّمـا لم يـصـارح بـمـا عـنده من العلم لكلّ من رغب في إعراضه عن السفر إلي الكوفة لعلمه بأنّ الحقائق لاتفاض لايّ متطلّب بعد اختلاف الاوعية سعة وضيقا وتباين المرامي قربا وبُعدا، فـلذلك (ع) يـجـيـب كـلَّ أحـد بـمـا يـسـعـه ظـرفـه وتـتـحـمـّله مـعـرفـتـه وعـقـليّته، فإنّ علم أهـل البـيـت (ع) صـعب مستصعب لايتحمّله إلاّنبيّ مرسلٌ أوملك مقرّبٌ أومؤمنٌ امتحن اللّه قلبه بالايمان). [5] .

كـمـا أنّ تـأثـيـر نـوع المـخـاطـب عـلي درجـة صراحة ووضوح محتوي النصّ يفرض أن تؤخذ مـجـمـوعـة هـذه النـصـوص كوحدة في مجموعها، لانّ النظر إلي


بعض هذه النصوص ـ وقد تكون مـبـهـمـة ومـتـشـابـهـة أوغير صحيحة ـ دون البعض الاخر قد يؤدّي بالباحث إلي استنتاج نظرة تكون في الغالب قاصرة أو خاطئة.

كـما لو نظر الباحث فقط إلي مثل هذا المقطع من المحاورات الواردة بين الامام (ع) وبين الشاعر الفرزدق حين سأله: (ما أعجلك عن الحجّ!؟) [6] .

حيث أجابه (ع): (لو لم أعجل لاخذت). [7] .

أو مـثـل هـذه المـحـاورة الواردة بـيـن الامـام (ع) وبـيـن أبـي هـرّة الازدي فـي مـنـطـقـة الثعلبيّة، تقول الرواية:

(فلمّا أصبح الحسين وإذا برجل من الكوفة يكنّي أبا هرّة الازدي، أتاه فسلّم عليه

ثمّ قال: يا ابن بنت رسول اللّه، ما الذي أخرجك عن حرم اللّه وحرم جدّك محمّد (ص)!؟

فقال الحسين: يا أباهرّة، إنّ بني أميّة أخذوا مالي فصبرتُ، وشتموا عرضي فصبرتُ، وطلبوا دمـي فـهـربـتُ، وأيم اللّه يا أباهرّة لتقتلنّي الفئة الباغية، وليلبسهم اللّه ذلاٍّ شاملاوسيفا قاطعا، وليسلّطنّ اللّه عليهم من يُذلّهم حتّي يكونوا أذلَّ من قوم سباء إذ ملكتهم إمراءة منهنّ فحكمت في أموالهم ودمائهم). [8] .

إنّ ظاهر مثل هذه النصوص يوحي بأنّ الامام (ع) كان همّه الاكبر النجاة


بنفسه!! فقد صبر علي أخـذ مـاله وشـتـم عـرضه، وحين أرادوا قتله هرب لينجو بنفسه!! هذه حدود مظلوميّته لاأكثر!! وكأنّه ليس هناك رفض بيعة لاطلب اصلاح وأمر بمعروف ونهي عن منكر، ولاقيام!!

ولقـد انـطـلي هـذا الاسـتـنـتـاج الخاطي علي بعض الناس، فتوهّموا أنّ أساس حركة الامام (ع) هوطلب النجاة والفرار من الاغتيال والقتل!!

كـذلك إذا اقـتـصـر نـظـر الباحث علي مثل ردّه (ع) علي المسور بن مخرمة حينماكتب إليه ألاّيغترّ بكتب أهل العراق حيث قال الامام (ع): (أستخير اللّه في ذلك). [9] .

وقوله (ع) لاخيه محمّد بن الحنفيّة: (يا أخي، سأنظر فيما قلت). [10] .

أو قـوله (ع) لعـبـداللّه بـن مـطـيـع العدوي: (أمّا في وقتي هذا أُريد مكّة، فإذا صرت إليها استخرتُ اللّه تعالي في أمري بعد ذلك). [11] .

أو قـوله (ع) لعـبـداللّه بـن عـبـّاس حـين حذّره من التوجّه إلي العراق: (وإنّي أستخير اللّه، وأنظر ما يكون). [12] .

أو قـوله (ع) لعبداللّه بن الزبير: (واللّه لقد حدّثت نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إليّ شيعتي بها وأشراف أهلها، وأستخير اللّه). [13] .


ذلك لانّ ظـاهـر مثل هذه النصوص يوحي بأنّ الامام (ع) لم تكن لديه خطّة علي الارض في مسار النـهـضـة مـنـذ البـدء، ولاعـلم له بـمـا هـو قـادم عـليـه فـي مستقبل أيّامه من مصير، بل كانت تُوجّه حركته بوصلة الاستخارة!

الامـر الذي يـعارض وينافي كثيرا من النصوص الواردة عنه (ع) في نفس هذه الفترة، فضلاعن منافاته للاعتقاد الصحيح بعلم الامام (ع)!

كـذلك الحـال إذا اقـتـصـر نـظـر البـاحـث مـثـلاعـلي النـصـوص المـتـعـلّقـة برسائل أهل الكوفة إلي الامام (ع)، خصوصا النصوص الواردة عنه (ع) في ذلك، لانّ نتيجة مثل هذا النظر ستكون اعتبار رسائل أهل الكوفة هي سبب قيام الامام (ع)، وهذا من أشهر الاشتباهات الحاصلة في مجري النظر إلي قيام الامام الحسين (ع)!

وكـذلك لايـكـون الاستنتاج سديدا إذا اقتصر مثلاعلي النصوص المتعلّقة بالرؤيا التي رأي فيها الامام (ع) جدّه رسول اللّه (ص) وأمره فيها بأمرٍ لابدّ أن يمضي إليه!

وكـذلك لايـكـون الاسـتـنـتـاج سديدا إذا اقتصر مثلاعلي النصوص التي توحي بأنّه (ع) كان يـأمـل النـصـر والنجاح وتسلّم زمام الامور، وأنّه كان يتوقّع ذلك ويرجوه، وأنّه لم يكن يعلم المصير!.

كـلّ تـلك النـتـائج القاصرة أوالخاطئة إنّما تنشاء نتيجة الاخذ الجزئي المفكّك، أمّا أخذ جميع النـصـوص المـتـعـلّقـة بـهذه الفترة كمجموعة واحدة أخذا كليّا موحّدا فهو أحد عناصر عصمة الاستنتاج من القصور والخطأ.

هـذا، وكـمـا يـُردُّ مـتـشـابـه القـرآن إلي مـحـكـمـه، كـذلك يـردّ مـتـشـابـه قول أهل البيت (ع) إلي محكم قولهم.

وفـي مـجـمـوعـة هـذه النـصـوص هـناك متشابهات لايتجلّي معناها الحقّ للنظرة


الاولي، ويؤدّي الاقتصار عليها في النظر إلي نتائج قاصرة أو خاطئة أيضا.

كـمـا لو اقتصر النظر مثلاعلي مثل قوله (ع) لعمرو بن لوذان حينما أشار عليه بعدم التوجّه إلي الكوفة لانّ أهلها لم يتحرّكوا عمليّا لنصرته ولم يغيّروا شيئا من أمورهم استقبالالمقدمه، حـيـث قـال (ع): (يـا عـبـداللّه، ليـس يـخـفـي عليَّ الرأي، ولكنّ اللّه تعالي لايُغلب علي أمره). [14] .

أو إلي مـثـل قـوله (ع) بعد أن قراء كتاب عمرة بنت عبد الرحمن، وكانت في كتابها هذا (تعظّم عـليـه مـا يـريـد أن يصنع، وتأمره باالطاعة ولزوم الجماعة، وتخبره أنّه إنّما يُساق إلي مـصـرعـه، وتـقـول: أشـهـد لحـدّثـتـنـي عـائشـة أنـّهـا سـمـعـت رسـول اللّه (ص) يـقـول: (يـقـتـل حـسـيـن بـأرض بـابـل)، حـيـث قال (ع): (فلابدّ لي إذن من مصرعي!). [15] .

وإلي مـثـل إجـابـتـه (ع) حين أشار عليه عمر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي بعدم التـوجـّه إلي العـراق، حـيـث قـال (ع): (جـزاك اللّه خـيرا يا ابن عمّ، فقد واللّه علمت أنّك مشيت بنصح وتكلّمت بعقل، ومهما يقض من أمرٍ يكن، أخذتُ برأيك أو تركته!). [16] .

أو إلي مثل قوله (ع) لامّ سلمة رضي اللّه عنها: (يا أُمّاه، قد شاءاللّه عزّ وجلّ أن يراني مقتولامذبوحا ظلما وعدوانا، وقد شاء أن يري حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيّدين، وهم يستغيثون فلايجدون ناصرا ولا


معينا...). [17] .

وإلي مـثـل قـوله (ع) لعـمـّتـه أُمّ هـانـي رضـي اللّه عـنـهـا: (يـا عـمـّة، كـلّ الذي مقدّر فهو كائن). [18] .

وإلي قـوله (ع) للاوزاعـي: (مـرحـبـا بك يا أوزاعي، جئت تنهاني عن المسير، ويأبي اللّه إلاّ ذلك!). [19] .

وإلي قوله (ع) لاخته زينب (س): (يا أختاهُ، المقضيُّ هو كائن). [20] .

ذلك لانّ هـذه النـصـوص تـنـطـوي عـلي إبـهام وتشابه يوحي للنظرة الاولي بأنّ هناك جبرا وقـهـرا لم يـكـن الامـام (ع) إزاءه يـمـلك أيَّ اخـتـيـار فـي كـلّ مـا جـري عـليـه! وهـذا خـلاف واقـع الحال، وخلاف الاعتقاد الصحيح!

إنّ من لم يطّلع علي معني القدر والقضاء وأقسام القضاء ـ بما ورد عنهم (ع) لايؤمَنُ عليه من الوقوع في مزالق الفهم الخاطيء لمعاني مثل هذه النصوص ‍ المتشابهات.

إنّ فـهـم الاشـارات الكامنة في مثل هذه النصوص يفرض علي الباحث أن يعرض ‍ متشابهات هذه النـصـوص عـلي محكمات براهين الاعتقاد الحقّ، وعلي نظائرها من النصوص الاخري المحكمة حتّي يتجلّي له معناها الحقّ تماما.


ممّا سبق تتجلّي لنا هذه الحقيقة وهي: أنّ قراءة معمّقة للنصوص الواردة عن الامام الحسين (ع) في هـذه الفـتـرة، قـراءة واعـيـة لحـقـائق هـذه النـقـاط الثـلاث التـي قـدّمـنـاهـا، لابـدّ أن تصل إلي هذه النتيجة وهي:

أنّ الامـام الحـسـيـن (ع) كـان قـد تـعـامـل في العمق مع كلّ قضيّة في مسار النهضة المقدّسة بمنطق (الشـهـيـد الفـاتـح)، وخـاطـبـهـا بلغة الشهادة التي هي عين الفتح، وإن كان في نفس الوقت قد تـعـاطـي مـع ظـواهـر القـضـايـا بـمـنـطـق الحـجـج الظـاهـرة ولامـنـافـاة بـيـن المـنـطـقـيـن بل هما في طول بعضهما البعض.

فـكـان صـحـيـحـا ـ مـثـلاـ أنّ الامـام (ع) أراد أن (يـنـجـو) مـن أن يـُقـتـَل فـي المـدينة أوفي مكّة خاصّة، قتلة يُقضي بها علي ثورته في مهدها، وتُهتك بها حرمة البـيـت: (يـا أخـي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم، فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت). [21] .

حـيـث يـتـمـكـّن الامـويّون في كلّ ذلك أن يدعّوا أنّهم بريئون ممّا جري علي الامام (ع) سواء في المدينة أو في مكّة أو في الطريق، فيحافظو بذلك علي الاطار الديني لحكمهم، أو أن تزداد المـصـيـبـة سـوءً حـيـن يـطـالبـون هـم بـدم الامام (ع) ويقتلون من أمروه بقتله، فيخدعون الناس بـادّعائهم أنّهم أصحاب دمه الاخذون بثاءره، فيزداد الناس انحداعا بهم ومحبّة لهم وتصديقا بـمـا يـسـتـظـهـرون مـن التـدين والالتزام، فتكون المصيبة علي الاسلام والامّة الاسلاميّة أدهي وأمرّ!

وصـحيح في العمق أيضا أنّ الامام (ع) كان قد تحرّك علي علمٍ منذ البدء نحوالمصرع المختار علي الارض المختارة التي تنفرج وقائع المصرع في ساحتها عن الفتح المنشود:


(وخِيرَلي مصرعٌ أنا لاقيه). [22] .

(الموعد حفرتي وبقعتي التي أستشهد فيها وهي كربلا). [23] .

(لاسبيل لهم عليّ ولايلقوني بكريهة أو أصل إلي بقعتي). [24] .

(ولكن أعلم يقينا أن هناك مصرعي ومصرع أصحابي...). [25] .

فحيث إن لم يبايع (ع) يُقتل، فقد سعي (ع) ألاّيقتل في ظروف زمانيّة ومكانيّة وبكيفيّة يختارها ويخطّط لها ويعدّها العدوّ، وسعي (ع) بمنطق الشهيد الفاتح أن يتحقّق مصرعه الذي لابدّ منه عـلي أرض يـخـتـارها هو، لايتمكّن العدوّ فيها أن يعتّم علي مصرعه، فتختنق الاهداف المرجوّة من وراء هـذا المـصرع الذي سيهزّ الاعماق في وجدان الامّة ويحرّكها بالاتّجاه الذي أراده الحسين (ع)، كـمـا سـعـي (ع) أن تـجـري وقـائع المـأسـاة فـي وضـح النـهـار لافـي ظـلمـة الليـل، ليـري جـريـان وقـائعـهـا أكـبـر عـدد مـن الشهود، فلايتمكّن العدوّ من أن يعتّم علي هذه الوقـائع الفـجـيـعـة ويـغـطـّي عـليـهـا، وهـذا هـو الهـدف المـنـشـود مـن وراء العامل الاعلامي والتبليغي في طلب الامام (ع) عصر تاسوعاء أن يمهلوه إلي صبيحة عاشوراء!

وكـان صـحـيـحـا ـ مـثـلاـ أنّ رسـائل أهل الكوفة كانت حجّة لهم علي الامام (ع)، وحجّة له عليهم وعلي الامّة في وقت معا، وكانت حجّة هذه الرسائل تقضي أن يتوجّه الامام (ع) بعدها إلي الكوفة، خصوصا بعد أن كتب إليه مسلم بن


عقيل (ر) يخبره بأنّه قد بايعه منهم ثمانية عشر ألفا ويطلب منه القدوم. [26] .

وذلك وفاءً بالوعد الذي قطعه لهم الامام الحسين (ع) علي نفسه:

(...فـإن كـتـب إليّ أنـّه قـد أجـمـع رأي مـلئكـم وذوي الفضل والحجي منكم علي مثل ما قدمت عليّ به رسلكم وقراءت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكا إن شاءاللّه...). [27] .

ولو لم يـتـوجـّه الامـام (ع) إلي الكـوفـة بـعـد هـذه الرسائل لقال التأريخ والناس إلي يومنا هذا إنّه (ع) قد أخلف الوعد، وإخلاف الوعد قبيح! وضيّع الفرصة التي لاتُعوَّض ‍ وفوّتها تفويتا، وفرّط في الامر خلافا للحنكة السياسيّة!

لكـنّ حـجـّة أهـل الكـوفـة عـلي الامـام (ع) كـانـت قـد انـتـفـت بـالفـعـل بـعـد انـقـلاب الكـوفـة عـلي مـسـلم بـن عـقـيـل (ع) وخـذلان أهـلهـا له، ونكولهم عن نصرته والوفاء ببيعته، وتفرّق بقيّة المخلصين من الشيعة ـ وهم قليل جدّا ـ تحت جنح التستّر والتخفّي خوفا من بطش ابن زياد بهم، بعد أن سجن جمعا منهم، ووصول الخبر بذلك إلي الامام (ع).

فلم يعد في الظاهر ثمّة إلزام يقضي بضرورة مواصلة التوجّه إلي الكوفة. فلماذا لم ينثنِ الامام (ع) عن المسير إليها والتوجّه نحوها!؟

لعـلّ هـنـاك مـن يـتصوّر أنّ إصرار الامام (ع) علي التوجّه إلي الكوفة كان بسبب إصرار بني عقيل علي الاخذ بثاءر مسلم (ع) بعد وصول خبر مقتله، كما هو ظاهر الرواية الواردة عن عبداللّه بن سـليـمـان والمـنـذر بـن المـشـمـّعـل الاسـديـّيـن الذيـن


نـقـلاخـبـر مقتل مسلم (ع) عن طريق أسديّ آخر شهد مقتله في الكوفة، ثمّ قالاللامام (ع): (ننشدك اللّه في نـفـسـك وأهـل بـيـتـك إلاّ انـصـرفـت مـن مـكـانـك هـذا، فإنّه ليس لك بالكوفة ناصر ولاشيعة، بل نتخوّف أن يكونوا عليك...). [28] .

تقول الرواية:

(فـنـظـر إلي بـنـي عقيل فقال: ما ترون، فقد قتل مسلم (ع)؟ فقالوا: واللّه لانرجع حتّي نصيب ثـاءرنـا أو نـذوق مـا ذاق. فـأقـبـل عـليـنـا الحـسـيـن (ع) وقال: لاخير في العيش ‍ بعد هؤلاء!). [29] .

مـعـنـي ذلك أنّ الامـام (ع) أصـرّ عـلي التـوجـّه إلي الكـوفـة نـتـيـجـة لاصـرار بـنـي عـقـيـل عـلي الاخـذ بـثـاءر مـسـلم (ع)!! وإلاّ لكـان الامـام (ع) قـد رجع من حيث أتي. أو كان قد انصرف عن وجهته، وما كانت لتقع عاشوراء!!

وهذا ما تأباه ماهيّة النهضة الحسينيّة ويأباه تأريخها الوثائقي.

فممّا يدلّ علي أنّ القضيّة عند الامام (ع) هي قضية نجاة الاسلام التي هي أكبر من دم مسلم (ع) ومن كلّ دم. قول الامام (ع) لمسلم (ع) وهو يودّعه، موجّها إيّاه إلي الكوفة ومبشّرا إيّاه بالشهادة:

(إنـّي مـوجـّهـك إلي أهـل الكـوفـة، وهـذه كـتـبـهم إليّ، وسيقضي اللّه من أمرك ما يحبّ ويرضي، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء، فامض علي بركة اللّه...). [30] .


وقـوله (ع) للفـرزدق حـيـن سـأله: (كـيـف تـركـن إلي أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته!؟) [31] .

حيث قال (ع):

(رحـم اللّه مسلما، فلقد صار إلي روح اللّه وريحانه وجنّته ورضوانه، أما إنّه قد قضي ما عليه وبقي ما علينا...). [32] .

وفـي إطـار نـقـطـة الانـتـبـاه إلي نـوع المـخـاطـب فـي مـعـرفـة المـراد مـن النـصـوص الواردة عـن أهل البيت (ع)، يحسن هنا أن نذكّر بأنّ الرجلين الاسديين الذين رويا تلكم القصّة ـ والرواية تـأتي في موضعها من هذا الكتاب ـ لم يكونا ممّن عزم علي نصرة الامام (ع) والالتحاق بركبه!!

كـلّ مـا فـي أمـرهـمـا هـو أنّ الفـضـول دفـعـهـما إلي معرفة مايكون من أمر الامام (ع) فقط ـ هذا باعترافهما كما في الرواية ـ وقد تخليّا عنه أخيرا وفارقاه!!

والمـتـتبّع لمّا ورد في هذه الفترة من نصوص محاورات الامام (ع) خاصّة، يجد أنّ الامام (ع) كان لايـخـاطـب هـذا النـوع مـن الرجـال بـمـُرّ الحـقّ وصـريـح القـضـيـّة، بـل كـان (ع) يـسـلك إلي عـقـولهـم في الحديث عن مراميه سبلاغير مباشرة يعرض فيها سببا أو أكـثـر مـن الاسـبـاب التـي تـقـع فـي طـول السـبـب الرئيـس بـمـا يـنـاسـب المـقـام والحال.

فقوله (ع) صدقٌ وحقٌ: (لاخير في العيش بعد هؤلاء!).

لكـنّ هـذا لايـعـنـي أنّ مواساة بني عقيل كانت هي السبب الرئيس في إصرار


الامام علي التوجّه إلي الكوفة.

يـضـاف إلي ذلك أنّ الامام (ع) لم يعلّل في أيّ موقع أونصٍّ آخر إصراره علي التوجّه إلي الكـوفـة بـطـلب الثـاءر لمـسـلم (ع)! بـل كـان يـعـلّل ذلك فـي أكـثـر مـن مـوقـع ونـصّ بـحجّة رسـائل أهـل الكـوفـة وبـبـيـعـتـهـم، وظـلّ (ع) يـؤكـّد التـزامـه بـالوفـاء بـالعـهـد وبـالقـول الذي كـان بينه وبين أهل الكوفة حتّي بعد أن منعه جيش الحرّ بن يزيد الرياحي عن الكوفة وحال بينه وبينها (وعن الرجوع إلي المدينة علي بعض ‍ الروايات). [33] .

فـقـد قـال (ع) للطـّرمـّاح الذي عـرض عـليـه اللجـوء إلي جبل (أجاء) المنيع بعد مضايقات جيش الحرّ:

(جـزاك اللّه وقـومـك خـيـرا، إنـّه قـد كـان بـيـنـنـا وبـيـن هـؤلاء القـوم قول لسنا نقدر معه علي الانصراف...). [34] .

وفي نصٍّ آخر:

(إنّ بـيـنـي وبـيـن القـوم موعدا أكره أن أُخلفهم، فإن يدفع اللّه عنّا فقديما ما أنعم علينا وكفي، وإن يكن ما لابدّ منه ففوز وشهادة إن شاء اللّه). [35] .

كـمـا خـاطـب (ع) جـيـش الحـرّ بـن يـزيـد الريـاحـي بـهـذه الحـجـّة أيـضـا حـيـث قال:

(أيـّهـا النـاس، إنّي لم آتكم حتّي أتتني كتبكم وقدمت عليّ رسلكم أن أقدم


علينا فإنّه ليس لنا إمام، لعلّ اللّه أن يجمعنا بك علي الهدي والحقّ...). [36] .

وما فتاء الامام (ع) يحتجّ بذلك علي أهل الكوفة ويذكّر به حتّي استشهد!

وعـلي ضـوء مـثـل هـذه النـصـوص، يـكـون صـحـيـحـا القـول: إنّ الامـام (ع) واصـل التـزامـه بـالوفـاء بـهذا الموعد والقول، وأصرّ علي التوجّه إلي الكوفة لالانّ لاهـل الكـوفـة حـجـّة بـاقـيـة عـليـه فـي الواقـع، بـل لانـّه (ع) لم يـشـاء أن يـدع أي مجال لامكان القول بأنّه (ع) لم يفِ تماما بالعهد لو كان قد انصرف عن التوجّه إلي الكوفة في بعض ‍ مراحل الطريق، حتّي بعد أن أغلق جيش الحرّ دونه الطريق إليها، ذلك لانّ الامام (ع)مـع تـمـام حـجـّتـه البـالغـة عـلي أهـل الكـوفـة أراد فـي المـقـابـل بـلوغ تـمام العذر وعلي أكمل وجه فيما قد يُتصوَّر أنّ لهم حجّة باقية عليه، بحيث لايبقي ثمّة مجال للطّعن في وفائه بالعهد!

هـذا، وإذا انـتـبـهـنـا إلي أنّ الامـام (ع) بـعـد أن أخـتار موقفه المبدئي برفض البيعة ليزيد وبالقيام، كان يعلم منذ البدء أنّه مقتول لامحالة، خرج إلي العراق أو لم يخرج، وهذا ما تؤكّده كثير من النصوص الواردة عنه (ع)، منها:

(إنّي واللّه مقتول كذلك، وإن لم أخرج إلي العراق يقتلونني أيضا..) [37] .

(لوكنت في جحر هامّة من هوامّ الارض لاستخرجوني منه حتّي يقتلوني) [38] .

إتـّضـح لنـا أنّ مـن الحـكـمـة أن يـخـتـار الامـام (ع) لمـصـرعـه أفـضـل الظـروف الزمـانـيـّة والمكانيّة والنفسية والاجتماعيّة المساعدة علي كشف مظلوميّته وفضح


أعدائه ونشر أهدافه، وأن يتحرّك باتّجاه تحقيق ذلك ما وسعته القدرة علي التحرك.

وبـمـا أنّ الامـام (ع) كـان يـعـلم مـنـذ البـدء أيـضـا أن أهل الكوفة لايفون له بشي من عهدهم وبيعتهم وأنّهم سوف يقتلونه:

(هذه كتب أهل الكوفة إليّ ولاأراهم إلاّ قاتليَّ...). [39] .

إذن فـهـو (ع) ـ بـمـنـطـق الشـهيد الفاتح ـ كان يريد العراق ويُصرّ علي التوجّه إليه لانّه أفضل أرض للمصرع المختار، ذلك لما ينطوي عليه العراق من استعدادات للتأثّر بالحدث العظيم (واقعة عاشوراء) والتغيّر نتيجةً لها.

وذلك لانّ الشيعة في العراق آنئذٍ أكثر منهم في أيّ إقليم إسلامي آخر ولانّ العراق لم ينغلق إعـلامـيـّا ونـفـسـيـّا لصـالح الامـويـّيـن كـمـا هـو الشـام، بل لعلّ العكس ‍ هوالصحيح.

وهـذه الحـقـيـقـة أكـّدتها الوقائع التي تلت واقعة عاشوراء، وأثبتت أيضا صحّة هذا المنطلق، ولعـلّ هـذا هـوالسـرّ المـسـتـودع فـي قـوله (ع) لمـّا سأله عبدالله بن عيّاش: أين تريد يا ابن فاطمة؟ حيث أجاب (ع): (العراق وشيعتي). [40] .

وقوله (ع) بعبدالله بن عبّاس (رض): (لابدّ من العراق). [41] .

وعـلي ضـوء هـذا يـُفـسَّر رفـض الامـام (ع) اقـتراحات في المدينة طلبت إليه عدم التوجّه إلي العـراق، وأن يـتـوجـّه إلي اليـمـن أو إلي شـعـاب الجـبـال الامـنـة (وذلك قـبـل


رسـائل أهـل الكـوفـة إليـه)، كـان قـد اقـتـرحـهـا عـليـه مثل محمّد بن الحنفيّة (ر) وأمّ سلمة وغيرهم.

وفـي هـذا الاتّجاه أيضا يمكن أن نفسّر رفض الامام (ع) لاقتراح الطرمّاح عليه باللجوء إلي جبل (أجاء) المنيع بعد اللقاء بجيش الحرّ بن يزيد الرياحي.

وكـذلك إعـراض الامام (ع) عن استثمار الفرصة التي أتاحها له الحرّ (ر) ليرجع من حيث أتي أو يمضي إلي حيث شاء ـ كما في الرواية الاتية ـ وإصراره علي التوجه إلي الكوفة، وذلك قبل وصول الرسالة الصارمة التي بعث بها عبيداللّه بن زياد إلي الحرّ والتي أمره فيها أن يجعجع بالامام (ع).

فـفـي الاثـر أنّ حـوارا سـاخـنـا دار بـيـن الامـام (ع) وبـيـن الحـرّ بـن يـزيـد الريـاحـي: فـقـال الامـام (ع): (فذر إذن أصحابك وأصحابي، وابرز إليّ، فإن قتلتني حملت رأسي إلي ابن زياد، وإن قتلتك أرحت الخلق منك!

فقال الحرّ: إنّي لم أؤمر بقتالك، وإنّما أمرت أن لاأفارقك أو أقدم بك علي الامير، وأنا واللّه كـاره أن يـبـتليني اللّه بشيٍ من أمرك، غير أنّي أخذت ببيعة القوم وخرجت إليك، وأنا أعـلم أنـّه مـا يـوافي القيامة أحدٌ من هذه الامّة إلاّ وهو يرجو شفاعة جدّك، وإنّي واللّه لخائف إن أنا قاتلتك أن أخسر الدنيا والاخرة، ولكن أمّا أنا يا أباعبداللّه فلستُ أقدر علي الرجوع إلي الكـوفـة فـي وقـتـي هـذا، ولكـن خذ غير الطريق وأمضِ حيث شئت، حتّي أكتب إلي الامير أنّ الحسين خالفني الطريق فلم أقدر عليه...). [42] .

فـالحـرّ عـلي ضوء هذه الرواية كان قد سمح للامام (ع) عدا الكوفة أن يمضي


حيث شاء! حتّي إلي المدينة إن شاء! ولكنّ الامام أصرّ علي التوجّه إلي أرض المصرع المختار حيث الفتح!

وكان صحيحا ـ مثلاـ أنّ الامام (ع) أراد أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، ويصلح الامّة، ويغيّر الاوضاع، ويقيم الحكومة الاسلاميّة.

والنصوص في هذا الشأن متوافرة، منها:

(... وإنـّمـا خـرجـت لطـلب الاصـلاح في أمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر، وأسير بسيرة جديّ وأبي عليٍّّ بن أبي طالب (ع)...). [43] .

(أيـّهـا النـاس إنّ رسـول اللّه (ص) قـال: مـن رأي سـلطـانا جائرا، مستحلاًّ لحرم اللّه، ناكثا لعـهـداللّه، مـخـالفـا لسـنّة رسول اللّه (ص)، يعمل في عباداللّه بالاثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولاقول كان حقّا علي اللّه أن يدخله مدخله، ألاوإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتـركـوا طـاعـة الرحـمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفي، وأحلّوا حرام اللّه، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيّر...). [44] .

وقال صلوات اللّه عليه في مخاطبة له مع الفرزدق تجري نفس هذا المجري:

(...وأنـا أولي مـن قـام بـنصرة دين اللّه وإعزاز شرعه والجهاد في سبيله لتكون كلمة اللّه هي العليا). [45] .

وفي رسالته (ع) لاهل البصرة قال:


(...وأنـا أدعـوكـم إلي كـتـاب اللّه وسـنـّة نبيّه (ص)، فإنّ السنّة قد أميتت، وإنّ البدعة قد أحـيـيـت، وإن تـسـمـعـوا قـولي وتـطـيـعـوا أمـري أهـدكـم سبيل الرشاد...). [46] .

وصـحـيـح فـي العـمـق أيـضـا ـ بـمـنـطق الشهيد الفاتح ـ أنّ الامام (ع) كان يعلم أنّ النصر الظـاهـري وتـسـلّم الحـكـم حـتـّي لوتـحـقـّق له ـ عـلي فـرض الاحـتـمـال ـ فـإنـّه قـد يـتـحـقـّق فـي إقـليـم (العـراق مـثـلا) أو أكـثـر مـن إقـليـم عـلي أحـسـن إحـتـمـال، لكـنّ الشـام ومـا تـبـعـهـا مـن الاقـاليـم الاخري تبقي آنئذٍ في يد الحكم الامويّ، ويعود الصـراع بـيـن الحـقّ والبـاطـل إلي سـابـق حـلبـاتـه ومـعـاركـه غـيـر الحـاسـمـة، فـي مـثـل (صـفـّيـن) مـرّةً أخـري، وتـبـقـي قـدرة الامـويـّيـن عـلي تضليل الامّة كما هي، وتبقي مأساة الاسلام علي حالها، ويبقي الامر دون مستوي الفتح المنشود.

فـلابـدّ إذن مـن (واقـعـة حـاسـمـة) تـفـصـل تـمـامـا بـيـن الحـق والبـاطـل، وتـحـيـل شـلل الامـّة ومـواتـهـا حـركـة وحـيـاة، وتـشـلّ البـاطـل فـلاتـبـقـي له بـعـدهـا أيـّة قـدرة عـلي التـلبـّس بـلبـاس ‍ الحـق وتضليل الناس علي الصعيد الديني والنفسي والسياسي والاعلامي.

(واقـعـة حـاسـمـة) تـنتهي بكل نتائجها لصالح الحقّ ولو بعد حين، فلاتنتهي كما انتهت صفّين مثلا!

(واقـعـة حـاسـمـة) تـكـتـب بـمـداد مـن الدم المـقـدّس كـلّ البـلاغـات والبـيانات اللاّزمة في طريق الكمال الانساني علي هدي الاسلام المحمّدي الخالص!

(واقعة حاسمة) تمنح مبداء الامر بالمعروف والنهي عن المنكر (قيمة إثباتيّة) عليا تضاف إلي قيمته الثبوتيّة العالية في الشريعة المقدّسة!


(واقعة حاسمة) لايكون بعدها الاصلاح في الامّة إلاّ في ظلّها وببركتها وتحت شعارها!

(واقـعـة حـاسـمـة) تـمـتـدّ فـي الزمان فيكون كلّ يوم يومها، وتمتدّ في المكان فتكون كلّ أرض أرضها!

وحـيـث إنّ كـلّ مـنـطـق آخر ـ غير منطق الشهيد الفاتح ـ لايؤدّي آنئذٍ إلي هذا الحسم المنشود، من هنا رأينا الشهيد الفاتح (ع) يرفض كلّ نصر دون مستوي ذلك الحسم، ويختار لقاء اللّه تعالي شهيدا فاتحا!

وفي هذا البعد ـ بعد منطق الشهيد الفاتح ـ يكون بإمكاننا أن نفهم السر في الرواية القائلة إنـّه: (لمـّا التـقـي الحـسـيـن (ع) وعـمـر بـن سـعـد لعـنـه اللّه وقـامـت الحـرب، أُنـزل النـصـر حـتـّي رفـرف عـلي رأس الحـسين (ع)، ثمّ خُيِّر بين النصر علي أعدائه وبين لقاء اللّه تعالي، فاختار لقاء اللّه تعالي). [47] .

وهذا البـعـد أيـضـا أحد الابعاد التي يمكن علي ضوئها أن نفهم سرّ عدم إذنه (ع) للملائكة والجـنّ الذيـن أظـهـروا له اسـتـعـدادهـم لنـصـرتـه أن يـنـصـروه فـعـلا، فقال للملائكة:

(الموعد حفرتي وبقعتي التي استشهد فيها وهي كربلا)

وقال للجنّ:

(أمـا قـرأتـم كـتـاب اللّه المـنـزل عـلي جـدّي رسـول اللّه (ص) فـي قـوله: (قـل لوكـنـتـم


فـي بـيـوتـكـم لبـرز الذيـن كـُتـب عـليـهـم القتل إلي مضاجعهم). [48] .

وعـلي ضـوء هـذا المـنـطـق ـ مـنطق الشهيد الفاتح ـ نفهم أيضا سرّ موقف الامام الحسين (ع) من الاقـتـراحـات والمـشـورات الصـحـيـحة والنصائح الصائبة (بمقياس هدف النصر الظاهري وتسلّم الحـكـم) التـي اقـتـرحـهـا عـليـه كـلُّ مـن مـحمّد بن الحنفيّة، وعمر بن عبدالرحمن وعبداللّه بن عبّاس وعمربن لوذان...

فقد قال له أخوه محمّد:

(أخرج إلي مكّة، فإن اطمأنّت بك الدار فذاك الذي تحبّ وأحبّ، وإن تكن الاخري خرجت إلي بلاد اليمن، فإنّهم أنصار جدّك وأخيك وأبيك، وهم أرأف الناس، وأرقّهم قلوبا، وأوسع النـاس بـلادا، وأرجـحـهـم عـقـولا، فـإن اطـمـأنـّت بـك أرض اليـمـن وإلاّ لحـقـت بـالرمـال وشـعـوب الجـبـال، وصـرت مـن بـلد إلي بـلد لتـنـظـر مـا يـؤول إليه أمر الناس، ويحكم بينك وبين القوم الفاسقين). [49] .

وقـد أقـرّ الامـام (ع) أنّ هـذه النـصـيـحـة صـواب! إذ قال له:

(... جزاك اللّه يا أخي عنّي خيرا، ولقد نصحت وأشرت بالصواب...). [50] .


وقال له عمر بن عبدالرحمن:

(... قـد بـلغـنـي أنـّك تـريد العراق، وإنّي مشفق عليك، إنّك تأتي بلدا فيه عمّاله وأمراؤه ومعهم بيوت الاموال، وإنّما الناس عبيد الدنيا والدرهم، فلاآمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره، ومن أنت أحبّ إليه ممّن يقاتلك معه). [51] .

وقد أثني الامام (ع) علي رأيه هذا، إذ قال له:

(جـزاك اللّه خـيـرا يـا ابـن عـمّ، فـقـد واللّه عـلمـت أنـّك مـشـيـت بـنـصـح وتـكـلّمـت بعقل...). [52] .

وفي هذا المجري قال له ابن عبّاس أيضا:

(أخـبـرنـي رحمك اللّه، أتسير إلي قوم قد قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم!؟ فإن كـانـوا قـد فـعـلوا ذلك فـَسِر إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهرٌ لهم، وعـمـّاله تـجـبـي بـلادهـم، فـإنـّهـم إنـّمـا دعـوك إلي الحـرب والقـتـال، ولاآمـن عـليـك أن يـغـرّوك ويـكـذّبـوك ويـخـالفوك ويخذلوك، وأن يُستنفروا إليك فيكونوا أشدّ الناس عليك). [53] .

وقال له عمرو بن لوذان في هذا الاتّجاه أيضا:

(أنـشـدك اللّه لمـا انصرفت، فواللّه ما تقدم إلاّ علي الاسنّة وحدّ السيوف، وإنّ هؤلاء الذين بـعـثـوا إليـك لو كانوا كفوك مؤنة القتال، ووطّاءوا لك الاشياء،


فقدمت عليهم كان ذلك رأيا، فـأمـّا عـلي هـذه الحـال التـي تـذكـر فـإنـّي لاأري لك أن تفعل). [54] .

ويجيبه الامام (ع):

(يـا عـبـداللّه، ليـس يـخـفـي عـليّ الرأي، ولكـنّ اللّه تـعـالي لايـغـلب عـلي أمـره). [55] .

وفي هذا الاجابة إقرار بعقلائيّة هذا الرأي وصوابه!

لكـنّ الامـام (ع) مـع إقـراره بصحّة وصواب تلكم النصائح والاقتراحات كان يؤكّد لكلٍّ من هؤلاء الرجـال بـطـريـقـة تـتـنـاسـب ونـوع المـخـاطب أنّه لابدّ له من عدم الاخذ بتلكم النصائح والاقتراحات!!

وذلك لانّ منطق هؤلاء وإن كان صحيحا بمقياس حدود الظاهر إلاّ أنّه لايتعدّي التفكير بالسلامة والمـنـفـعـة الذاتـيـّة والنـصـر الظـاهـري وإن كـان جـزئيـّا وعـلي نـحـو الاحتمال!

فـي حـيـن أنّ الاسـلام كـان آنـئذٍ يـمرُّ بمنعطف حرجٍ حاسم النتيجة في أن يبقي أو لايبقي، وقد لخّص الامام (ع) حال الاسلام الحرجة هذه بقوله لمروان بن الحكم:

(وعلي الاسلام السلام إذ قد بليت الامّة براعٍ مثل يزيد!). [56] .

كـان الاسـلام آنـئذٍ فـي حـالة كـمـا المـريـض الذي لايـنـفـع فـي عـلاجـة إلاّ الكـَيُّ! وقـديـمـا قيل في المثل: (آخر الدواء الكَيُّ)، لما يترتّب عليه من علاج حاسم.


حـال الاسـلام آنـئذٍ لم يـكن ينفع في علاجها منطق السياسة والمعاملة السياسيّة، والدهاء السياسي ورعاية المصالح الذاتيّة، والتفكير بالسلامة، وحسابات الاستفادة والمنفعة والربح والخسارة الشخصيّة، ومنطلقات التخطيط للسيطرة علي الحكم!

حـال الاسـلام آنـئذٍ مـاكـانـت لتـصل إلي علاجها الحاسم وتبلغ الشفاء التامّ إلاّ بمنطق الشهيد الفاتح الذي جاء من قلب (المدينة) يسعي، يحدو به الشوق إلي المصرع المختار:

(وما أولهني إلي أسلافي اشتياق يعقوب إلي يوسف). [57] .

فـي ركـب مـن العشّاق (ومصارع عشّاق شهداء...) [58] لاتثنيهم عن الغاية عقلائيّة عقلاء الظاهر، ولانصائحهم، ولاملامة المحجوب عن المحبوب.

حتّي إذا قيل: هذه كربلاء!

تنفّس الشهيد الفاتح الصعداء!

فهاهنا: أرض المصرع المختار وبقعة الفتح!


پاورقي

[1] تأريخ الطبري، 4: 308.

[2] اللهوف: 12.

[3] الفتوح، 5: 24.

[4] الفتوح، 5: 25.

[5] مقتل الحسين (ع) للمقرّم: 65 ـ 66.

[6] الارشاد: 243.

[7] المصدر السابق.

[8] الفتوح، 5: 71.

[9] تاريخ ابن عساکر (ترجمة الامام الحسين (ع) المحمودي: 202، حديث 255.

[10] ينابيع المودّة: 404.

[11] الفتوح، 5: 22.

[12] تاريخ الطبري، 4: 287.

[13] نفس المصدر، 4: 288.

[14] الارشاد: 248.

[15] تاريخ ابن عساکر (ترجمة الامام الحسين (ع) المحمودي: 202، حديث 255.

[16] تاريخ الطبري، 4: 287.

[17] بحارالانوار، 44: 331 ـ 332.

[18] معالي السبطين، 1: 215.

[19] دلائل الامامة: 184، رقم 102/ 7.

[20] الفتوح، 5: 70.

[21] اللهوف: 27.

[22] اللهوف: 26.

[23] نفس المصدر: 29.

[24] المصدر السابق.

[25] نفس المصدر: 27.

[26] الارشاد: 226.

[27] تاريخ الطبري، 4: 262؛ والارشاد: 225 بتفاوت يسير.

[28] الارشاد: 247.

[29] المصدر السابق.

[30] الفتوح، 5: 31.

[31] اللهوف: 32.

[32] المصدر السابق.

[33] الارشـاد: 251؛ وتـاريـخ الطـبـري، 4: 304؛ والکامل في التأريخ، 4: 48.

[34] الکامل في التأريخ، 4: 50.

[35] مثير الاحزان: 39 ـ 40.

[36] الارشاد: 249 ـ 250.

[37] الخرائج والجرائح، 1: 253، حديث 7.

[38] بحار الانوار، 45: 99، باب 37.

[39] تاريخ ابن عساکر (ترجمة الامام الحسين (ع) المحمودي: 211، حديث 266.

[40] المصدر السابق: 201، حديث 255.

[41] الفتوح: 5:72.

[42] مقتل الحسين (ع) للخوارزمي، 1: 232 ـ 233؛ والفتوح 5: 79.

[43] بحارالانوار، 44: 329، باب 37.

[44] تاريخ الطبري، 4: 304.

[45] تذکرة الخواص: 217 ـ 218.

[46] تاريخ الطبري، 4: 266.

[47] اللهوف: 44 ينقلها عن معالم الدين للنرسي، وقد رواها الکليني بتفاوت في الکافي، 1: 260، رقـم 8 (بـاب: أنّ الائمـّة (ع) يـعـلمون متي يموتون وأنّهم لايموتون إلاّباختيارٍ منهم).

[48] اللهـوف: 28 ـ 30: وقـلنـا: إنّ هذا البعد هو أحد الابعاد وليس البعد الوحيد لانّه يمکن أن يفسّر رفض الامام (ع) لنصرة الملائکة والجنّ بأنّه (ع) إنّما أراد أن تتمّ کلّ حرکة أحـداث نـهـضـتـه بـالاسـبـاب الطـبـيـعـيـّة العـاديـّة لابـالاعـجـاز والخـوارق، تـحـقـيـقـا لکـمـال الاجـر والمـثـوبـة علي المجاهدة والصبر. وقد فسّر الامام (ع) نفسه عدم مقاتلته القوم بـالملائکة ـ علي ما في رواية أخري قائلا: لو لاتقارب الاشياء وحبوط الاجر لقاتلتهم بهؤلاء (اللهوف: 26 ـ 27).

[49] الفتوح، 5:0 2 ـ 21.

[50] الکامل في التأريخ، 4: 37.

[51] الکامل في التاريخ، 4:37.

[52] المصدر السابق.

[53] تاريخ الطبري، 4: 287.

[54] الارشاد: 248.

[55] المصدر السابق.

[56] الفتوح، 5: 17.

[57] اللهوف: 26.

[58] بحارالانوار، 41: 295، باب 114، حديث 18 نقلاعن الخرائج والجرائح (مخطوط).