بازگشت

الانتكاس الروحي و النفسي في الامة


نتيجة لمجموع سياسات معاوية التضليليّة علي كلّ المـسـتـويـات الفـكـريـّة والاجـتماعيّة والسياسيّة والنفسية كانت الامّة قد هوت إلي الحضيض في الجـانـب النـفـسـي والروحـي، وتـفـشـي فـي كـيـانـهـا الوهـن المـتـمـثّل بحبّ الدنيا وكراهية الموت، وطغي هذا الشلل الذي كان قد بداء التسرّب إلي حياتها مـنـذ يوم السقيفة حتّي أقعدها عن نصرة كلّ قضيّة من قضايا الحق، وساءت أخلاقيّتها إلي درجة أنّ الرجـل الوجـيـه فـي قومه لايتورّع في انقياده إلي الدنيا من أن يبيع دينه لمعاوية صراحة، فقد روي أنّه:

(وفد علي معاوية جماعة من أشراف العرب، فأعطي كلّ واحد منهم مائة ألف، وأعطي الحتّات عمّ الفرزدق سبعين ألفا، فلمّا علم الحتّات بذلك رجع مغضبا إلي معاوية.

فقال له: فضحتني في بني تميم، أمّا حسبي فصحيح، أَولستُ ذا سن؟ ألستُ مطاعا في عشيرتي؟

قال: بلي.

قال: فما بالك خسست بي دون القوم، وأعطيتَ من كان عليك أكثر ممّن كان لك؟

قال: إنّي اشتريت من القوم دينهم، ووكلتك إلي دينك! ورأيك في عثمان (وكان عثمانيّا).

قال: وأنا فاشتر منيّ ديني.


فأمر له بإتمام جائزته. [1] .

وشـاعـت الانـتـهـازيـّة والوصـوليـّة بـين الناس، فصار جلّ سعيهم في التزلّف إلي السلطان والتقرّب منه والتملّق إليه طمعا في دنياه، حتّي صاروا أطوع له من يده، وبذلك ضمن معاوية انقياد جلّ هذه الامّة له، ممّن لابصيرة لهم في أحنائهم ولاهمّ لهم إلاّ دنياهم!

وامـّا أولئك الذيـن لم تـنـطـل عـليـهـم أضـاليـل الامـويـّيـن وأكـاذيـبـهـم، فـقـد آل الامر بأكثرهم أيضا إلي أخطر ظاهرة في حياة الانسان المسلم وهي الازدواجيّة في الشخصيّة حـيـث يـتـعـارض ظـاهـر الانـسـان مـع بـاطـنـه، ذلك لانّ سـيـاسـة مـعـاويـة فـي التـرغـيـب بـالمـال والجـاه والدنـيـا، وأسـلوبـه الوحـشـي فـي التـنـكـيـل بـأعـدائه عـلّمـا النـاس ‍ عـلي الدجـل والنـفـاق والسـكـوت عـن الحـق، والتـظاهر بخلاف ما يعتقدون، وهذا الوضع الشاذّ الذي فـرض عـليـهـم أن يخفوا دوما ما يعتقدونه حقّا، وأن يتظاهروا بما تريده السلطة منهم مع علمهم بـأنـّه البـاطـل، ولّد عـنـدهـم حـالة ازدواج الشـخـصـيـّة، هـذا الازدواج الذي كـان يـعـمل عمله في فضّ أعوان الثورة عنها، أو إفشاء أسرارها، أوالقضاء عليها، بتأثير ظاهر الشـخـصيّة الخاضع لاوامر السلطة الحاكمة والمنسجم معها، خلافا لباطن هذه الشخصيّة المؤيّد للثّورة والمقدّس لقيادتها والراغب في نصرتها والانتماء إليها.

هـذا الازدواج الذي صـوّره الفـرزدق للامـام الحـسـيـن (ع) حـيـث عـبـّر عـن حال أهل الكوفة قائلا: (قلوبهم معك وسيوفهم عليك).

ولم تـخـتـلف عـمـليـّا حـال المـزدوجـيـن عـن حـال المـضـلَّليـن بـالبـاطل الامويّ، ذلك لانّ الحكم الامويّ استطاع أن يجنّد الصنفين معا تحت رايته فأسرجوا وألجموا


وتنقّبوا للقضاء علي كلّ الثورات التي قامت تدعو إلي الحقّ!

وظلّ كثيرا ممّن عرفوا الحقّ وأهله أساري الشلل النفسي المتعاظم منذ يوم السقيفة، فخذلوا الحقّ عمليّا ولم ينصروه مع علمهم بعاقبة من يخذله ولم ينصره عند اللّه!

هـذا عـبـداللّه بـن عـمـر يـقـول إنـّه سـمـع رسـول اللّه (ص) يقول:

(حـسـيـن مـقـتـول، ولئن قـتـلوه وخـذلوه، ولن يـنـصـروه ليـخـذلهـم اللّه إلي يـوم القـيـامـة). [2] .

ومع هذا فلم ينصره بل قعد عن ذلك، بل أمره بمبايعة يزيد!!

وأولئك الذيـن أشـاروا عـلي أبـي عـبـداللّه (ع) بـعـدم الخـروج ونـصحوه بألاّيعرّض ‍ نفسه للقـتـل، وقـعـدوا عـن نـصـرتـه، وهـم يـعـلمـون عـن لسـان رسول اللّه (ص) أنّه مقتول، وأنّه:

(لايـُقـتـل بـيـن ظـهـرانـي قـوم فـلايـمـنـعـونـه إلاّ خـالف اللّه بـيـن قـلوبـهـم وألسـنـتـهـم.) [3] .

وهذا شريك بن الاعور وجماعة معه ممّن كانوا شيعة لعليّ، يصحبون عبيداللّه بن زياد من البصرة إلي الكـوفـة، فـيـتـسـاقـطـون فـي الطـريـق مـتظاهرين بالعياء لعلّ ابن زياد يتأخّر من أجلهم فيسبقه الحسين (ع) إلي الكوفة ويستقرّ له أمرها. [4] .

أنـظر إلي الشلل النفسي كيف يقيّد حركة المصاب به! فشريك وجماعته يتمنّون لو أنّ الامور تستتبّ للامام (ع)، لكنّهم بدلامن تعويق ابن زياد أو قتله في البصرة أو الطريق بألف حيلة وحـيـلة، يـكـتـفـون فـقـط بـالتـسـاقـط فـي الطـريـق رجـاء أن


يـتـأخـّر ابـن زيـاد عـن الوصول إلي الكوفة في الوقت المناسب!!؟

وهـذا عـبـيـداللّه بـن الحـرّ الجـعفي يدعوه الامام (ع) إلي نصرته، فيجيب معترفا بشلله النفسيّ قائلا:

(واللّه إنّي لاعلم أنّ من شايعك كان السعيد في الاخرة، ولكن ما عسي أن أُغني عنك ولم أخلّف لك بـالكـوفـة ناصرا؟، فأنشدك اللّه أن تحملني علي هذه الخطّة، فإنّ نفسي لم تسمح بعدُ بـالمـوت! ولكـن فـرسي هذه (الملحقة) واللّه ما طلبت عليها شيئا قطّ الاّ لحقته، ولاطلبني وأنا عليها أحد إلاّ سبقته، فخذها فهي لك!) [5] .

فيقرّعه الامام (ع) مبيّنا أنّه لاحاجة له بمشلول في نفسه، قائلا:

(أمّا إذا رغبت بنفسك عنّا فلاحاجة لنا إلي فرسك). [6] .

وروي الطـبـري عـن سـعـد بـن عـبـيـدة أنـه رأي فـي وقـعـة كـربـلاء أشـيـاخـا مـن أهـل الكـوفـة واقـفـيـن عـلي التـلّ يـبـكـون ويـقـولون: أللّهـم أنـزل نـصرك (أي علي الحسين (ع)!) فقال لهم سعد: يا أعداء اللّه! ألاتنزلون فتنصرونه!!؟ [7] .

إن الشلل النفسيّ يسوّغ للانسان أن يخادع حتّي نفسه، وكلّ ما قدمناه من الامثلة يحكي في الواقع عـن مـخـادعـة الانـسان نفسه في التعامل مع الحقيقة، ولنختم هذه الامثلة بهذه القصّة المؤسفة حقّا: قال هرثمة بن سليم:

(غـزونـا مـع عـلي بـن أبي طالب غزوة صفّين، فلمّا نزلنا بكربلاصلّي بنا صلاة


فلمّا سلّم رفـع إليـه مـن تـربـتها فشمّها ثمّ قال: واها لك أيّتها التربة، ليُحشرنّ منك قوم يدخلون الجنّة بغير حسابٍ.

فـلمـّا رجـع هـرثـمـة مـن غـزوتـه إلي إمـرأتـه ـ وهـي جـرداء بـنـت سـمـيـر، وكانت شيعة لعليّ ـ فـقـال لها زوجها هرثمة: ألاأعجّبك من صديقك أبي الحسن؟ لمّا نزلنا كربلاء رفع إليه من تربتها فشمّها فقال: واها لك يا تربة، ليحشرنّ منك قوم يدخلون الجنّة بغير حسابٍ، وما علمه بـالغـيـب!؟ فـقـالت: دعـنـامـنـك أيـّهـا الرجـل، فـإنّ أمـيـر المـؤمـنـيـن لم يقل إلاّ حقّا.

فـلمـّا بـعـث عـبـيـداللّه بـن زيـاد البـعـث الذي بـعـثـه إلي الحـسـيـن بـن عـليّ وأصـحـابـه، قـال: كـنـت فـيـهم في الخيل التي بُعث إليهم، فلمّا انتهيت إلي القوم وحسينٍ وأصحابه عرفتُ المـنـزل الذي نـزل بـنـا عـليُّ فـيـه والبـقـعـة التـي رفـع إليـه مـن تـرابـهـا، والقول الذي قاله، فكرهت مسيري، فأقبلت علي فرسي حتّي وقفت علي الحسين، فسلّمت عليه، وحـدّثـته بالذي سمعت من أبيه في هذا المنزل، فقال الحسين: معنا أنت أو علينا؟ فقلت: يابن رسـول اللّه! لامـعـك ولاعـليـك! تـركـت أهـلي وولدي، أخـاف عـليـهـم مـن ابـن زيـاد. فـقـال الحـسـيـن: فولّ هربا حتّي لاتري لنا مقتلا، فو الذي نفس ‍ محمّدٍ بيده لايري مقتلنا اليوم رجـلٌ ولايـُغـيـثـنـا إلاّ أدخـله اللّه النـار. قـال: فـأقـبـلت فـي الارض هـاربـا حتّي خفي عليّ مقتله. [8] .

تأمّل! كيف يخادع الانسان نفسه بسبب الشلل النفسيّ في أعماقه!!؟

وبـعـدُ: فـلم يـبـق فـي أواخـر عـهـد مـعـاويـة مـن هـذه الامـّة مـن لم يـنـخـدع بـالضـلال الامـويّ أولم تـزدوج شـخـصـيـّتـه أو لم يـقـعـد بـه الشـلل النـفسي عن نصرة الحقّ إلاّ أقلّ


القليل، بين طريد وشريد وسجين ومتخفٍّ مترقّب، ومن هذا القليل كانت الصفوة التي نصرت سيّد الشهداء (ع).



پاورقي

[1] الکامل في التأريخ، 3: 468.

[2] الفتوح، 5: 24.

[3] نفس المصدر، 5: 24.

[4] راجع تأريخ الطبري، 4: 267.

[5] الاخبار الطوال: 251.

[6] الاخبار الطوال: 251.

[7] راجع: الطبري، 4: 295.

[8] وقعة صفّين: 140 ـ 141.