بازگشت

تمزق الامة الاسلامية قبليا و طبقيا


من الاسس الكبيرة التي أشاد معاوية عليها استقرار حكمه سياسة الاستكبار المعروفة في الامم المستضعفة وهي (فَرِّقْ تَسُدْ). فالعصبيّة التي أماتها الاسـلام كـان مـعـاويـة قـد أطـلق لهـا العـنـان لتـمـزّق شمل الامّة، وفجر التناحر القبلي تفجيرا شديدا، واحتقر الموالي واضطهدهم، وأذلّ الفقراء، وفرّق بين البلدان الاسلاميّة في العطاء والمنزلة، كما فرّق بين أشراف القبيلة الواحدة وبين عـامـتها، كلّ ذلك من أجل أن تجد الامّة نفسها ـ في حال تمزّقها وتناحرها ـ مضطرّة إلي التقرّب إليـه بـالطـاعـة والانقياد لاوامره، وكان أبرع


ولاته في تنفيذ خططه التمزيقيّة هذه زياد ابن أبيه الذي ادّعاه معاوية لابيه.

وشـواهـد هـذه الحـقـيـقـة المـرّة كـثيرة في المتون التأريخيّة، لكنّنا هنا نكتفي في الدلالة عليها من خلال فقرات منتخبة من كتاب سرّي بعثه معاوية إلي زياد جاء فيه:

(أمّا بعدُ، فإنّك كتبتَ إليّ تسألني عن العرب، من أكرم منهم ومن أهين، ومن أُقرّب ومن أُبعد، ومـن آمن منهم ومن أحذر؟...وأنا يا أخي أعلم الناس بالعرب، انظر هذا الحيّ من اليمن فأكرمهم فـي العـلانـيـة وأهـنهم في السرّ، فإنّي كذلك أصنع بهم... وانظر ربيعة بن نزار فأكرم أمـراءهـم وأهـن عـامـّتـهم فإنّ عامّتهم تبع لاشرافهم وساداتهم، وانظر إلي مضر فاضرب بـعضها ببعض، فانّ فيهم غلظة وكبرا ونخوةً شديدة، فإنّك إذا فعلت ذلك وضربت بعضهم بـبـعـض كـفـاك بـعـضهم بعضا...وانظر إلي الموالي ومن أسلم من الاعاجم فخذهم بسنّة عمر بن الخـطـّاب، فـإنّ فـي ذلك خزيهم وذلّهم: أن تنكح العرب فيهم ولايُنكحهم، وأن تقصر بهم فـي عطائهم وأرزاقهم، وأن يُقدّموا في المغازي، يصلحون الطريق ويقطعون الشجر، ولايؤمُّ أحـدٌ مـنـهـم العـرب فـي صـلاة، ولايـتـقـدّم أحـد مـنـهـم فـي الصـفّ الاوّل إذا حضرت العرب إلاّ أن يتمّوا الصفّ، ولاتولّ أحدا منهم ثغرا من ثغور المسلمين ولامصرا من أمـصـارهـم، ولايـلي أحـد مـنـهـم قـضاء المسلمين ولاأحكامهم فإنّ هذه سنّة عمر فيهم وسيرته، وجـزاه عـن أمـّة مـحـمـّد وعـن بـنـي أمـيـّة خـاصّة أفضل الجزاء! فلعمري لولاما صنع هو وصاحبه وقـوّتـهـمـا وصـلابـتهما في دين اللّه!! لكنّا وجميع هذه الامّة لبني هاشم الموالي، ولتوارثوا الخلافة واحدا بعد واحدٍ... فإذا جاءك كتابي هذا فأذلّ العجم وأهنهم وأقصهم ولاتستعن بأحدٍ مـنـهـم ولاتـقـض لهـم حاجة... وحدّثني ابن أبي معيط أنّك


أخبرته أنّك قرأت كتاب عمر إلي أبـي مـوسـي الاشـعـري وبـعـث إليـه بـحـبـل طـوله خـمـسـة أشـبـار وقـال له: أعـرض مـن قـبـلك من أهل البصرة فمن وجدت من الموالي ومن أسلم من الاعاجم قد بلغ خـمـسـة أشـبار فقدّمه فاضرب عنقه، فشاورك ابوموسي في ذلك فنهيته وأمرته أن يراجع فـراجـعـه، وذهـبـت أنت بالكتاب إلي عمر، وإّنما صنعت ما صنعت تعصّبا للموالي وأنت يومئذٍ تـحـسـب أنـّك عـبد ثقيف، فلم تزل بعمر حتّي رددته عن رأيه، خوّفته فرقة الناس فرجع، وقـلت له: مـا يـؤمـنـك وقـد عـاديـت أهـل هـذا البـيـت أن يـثـوروا إلي عـليٍّ فـيـنـهـض بـهـم فـيـزيـل ملكك، فكفّ عن ذلك، وما أعلم يا أخي وُلِدَ مولود من أبي سفيان أعظم شؤما عليهم مثلك حـيـن رددت عـمـر عـن رأيـه ونـهـيـتـه عـنـه... فـلوكـنـت يا أخي لم تردّ عمر عن ذلك لجرت سنّةً، ولاستأصلهم اللّه وقطع أصلهم، وإذن لاستنّت به الخلفاء بعده... فماأكثر ما قد سنّ عمر فـي هـذه الامـّة بـخـلاف سـنـّة رسـول اللّه (ص) فـتـابعه الناس عليها وأخذوا بها، فتكون هذه مثل واحدة منهنّ.... [1] .

وكـان مـن نـتـائج إثـارة التـنـاحـر القـبـلي أن شـُغـل زعـمـاء القـبـائل بـالسـعـي عـنـد الامـراء الامـويـّيـن للوقـيـعـة بـخـصـومـهـم مـن زعـمـاء القبائل الاخري، وتودّدوا إلي هؤلاء الامراء وتملّقوهم، الامر الذي وحّدهم في طاعة حكم معاوية الذي أشعل الفتنة بينهم وهم لايشعرون، وقد دفعهم هذا الوضع أيضا إلي أن يقفوا دائما مع الحاكمين ضدّ الثائرين حفاظا علي الامتيازات والعطايا الممنوحة لهم، وكانوا يقفون في وجه كلّ محاولة للثّورة ويخذّلون الناس عنها، ويتسابقون في استخدام أقصي ما يملكونه من نفوذ ودهاء فـي هـذا السـبـيـل للتـأكـيـد عـلي ولائهـم التـامّ للسـلطـة، وفـي قـصـّة اقـتـسـام


القـبـائل رؤوس شـهـداء كـربـلاء دليـل واضـح عـلي هـذه الحـالة المـزريـة التي وصلت إليها قـبائل العرب نتيجة المنافسة بينها والتناحر والمفاخرة الجاهليّة التي ما برحت تتعاظم فيهم منذ يوم السقيفة بعد ما أماتها الاسلام.


پاورقي

[1] سليم بن قيس: 174 ـ 179.