بازگشت

نشوء حالة الشلل النفسي في الامة


ويلاحظ المتتبّع لنتائج السقيفة أيضا نشوء حالة روحـيـّة ونـفـسـيـّة جـديـدة فـي الامـّة بـعـد السـقـيـفـة، هـي حـالة (شلل نفسيٍّّ) لم تكن في الامّة أيّام النبيٍّّ (ص)، ويمكن تعريفها بأنّها حالة سكوت المسلم عن أمـرٍ يـعـتـقـد أنـّه بـاطل ومخالف لامراللّه ورسوله (ص)، وهذه الحالة واحدةٌ من النتائج السيئة التـي تـنـشـاء عـن ترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي إذا تعاظمت في المجتمع أدّت في النـهـايـة إلي نتائج سيّئةٍ مريرةٍ كثيرةٍ، أسوأها (انقلاب الرؤية) حيث ينتكس المسلم فيري الباطل حقّا والحقّ باطلا.

وهـذه الحـالة الخـطـيـرة كـان رسـول اللّه (ص) قـد حـذّر الامّة منها إذا ما تركت الامر بالمعروف والنـهـي عن المنكر، ولك أن تتأمّل في ترابط محتوي هذا الحديث


النبويّ الشريف لتعرف كيف تـصـل حـالة الامـّة فـي التـداعـي مـن سـيٍّّءٍ إلي أسـواء حـتـّي تـصـل فـي انـتـكـاسـهـا إلي درجـة (انـقـلاب الرؤيـة)، فـعـن أبـي عـبداللّه الصادق (ع)، عن رسول اللّه (ص) أنّه قال:

(كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر!؟

فقيل له: ويكون ذلك يا رسول اللّه!؟

فقال: نعم، وشرُّ من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف!؟

فقيل له: يا رسول اللّه، ويكون ذلك!؟

قـال: نـعـم، وشـرُّ مـن ذلك، كـيـف بـكـم إذا رأيـتـم المـعـروف مـنـكـرا والمـنـكـر معروفا!؟) [1] .

ويـمـكـن رصـد بـدايـة نـشـوء ظـاهـرة الشـلل النـفـسـي فـي الامـّة بـعـد السـقـيـفـة مـبـاشـرة حـيـث اعـتـزل جـلّ الانـصـار في المدينة وبعض المهاجرين اعتراضا علي نتيجة السقيفة وندما وتأسّفا عـلي التـفـريـط بـحـقّ (الوصـيّ الشرعيٍّّ) (ع)، [2] لكنّهم مع ذلك لم ينهضوا مع الوصـيّ الشـرعـي (ع) حـيـن اسـتـنـهضهم للقيام معه لتغيير الوضع الخاطي المخالف لامر اللّه ورسـوله (ص)، إسـتـنـادا إلي أصـل أنّ البـيـعـة فـي الاعـنـاق أوّلاكـانـت لعـليٍّّ (ع) يـوم الغدير. [3] .


والروايات في تثاقلهم عن نصرته عديدة، تقول واحدة منها:

(فلم يدع أحدا من أهل بدرٍ من المهاجرين ولامن الانصار إلاّ أتاه في منزله، فذكّرهم حقّه ودعاهم إلي نـصرته، فما استجاب له منهم إلاّ أربعة وأربعون رجلا، فأمرهم أن يُصبحوا بُكرةً محلّقين رؤوسهم معهم سلاحهم ليبايعوا علي الموت، فأصبحوا فلم يوافِ منهم أحدٌ إلاّ أربعة. فـقـلت لسـلمـان: مـن الاربـعـة؟ فـقـال: أنا وأبوذر ومقداد والزبير بن العوّام. ثمّ أتاهم عليٍّّ (ع) من الليلة المقبلة فناشدهم فقالوا: نُصبحك بكرةً. فما منهم أحدٌ أتاه غيرنا، ثمّ أتاهم الليـلة الثـالثـة، فـمـا أتـاه غـيـرنـا، فـلمـّا رأي غـدرهـم وقـلّة وفـائهـم له لزم بـيـتـه...). [4] .

وقـد اشـارت الصـديـقـة الكـبري مولاتنا فاطمة الزهراء (س) في ثنايا خطبتها في المسجد إلي تعجّبها من هذا الشلل النفسي في مخاطبتها الانصار حيث قالت:

(... يـا مـعشر الفتية وأعضاد الملّة وحضنة الاسلام، ما هذه الغميزة في حقّي والسِّنة عن ظلامتي!؟ أما كان رسول اللّه (ص) أبي يقول: (المرء يحفظ في ولده؟) سرعان ما أحدثتم وعجلان ذا اهـالة، ولكـم طـاقـة بـمـا أحـاول، وقـوّة عـلي مـا أطـلب وأزاول... إيها بني قيلة، [5] أ أهضم تراث أبي وأنتم بمرأي


ومسمع، ومنتدي ومـجـمـع، تـلبسكم الدعوة، وتشملكم الخبرة، وأنتم ذووالعدد والعدّة، والاداة والقوّة، وعندكم السـلاح والجـُنـّة، تـوافـيـكـم الدعـوة فـلاتـجـيبون، وتأتيكم الصرخة فلاتغيثون، وأنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي انتخبت والخيرة التي اختيرت لنـا ـ أهـل البـيـت ـ قـاتلتم العرب وتحمّلتم الكدّ والتعب، وناطحتم الامم وكافحتم البُهم، فـلانـبرح وتبرحون نأمركم فتأتمرون، حتّي إذا دارت بنا رحي الاسلام، ودرَّ حلب الايّام، وخضعت نعرة الشرك، وسكنت فورة الافك، وخمدت نيران الكفر، وهدأت دعوة الهرج، واستوسق نـظـام الديـن، فـأنـّي جـرتـم بـعد البيان، وأسررتم بعد الاعلان، ونكصتم بعد الاقدام، وأشـركـتـم بـعـد الايـمـان، بـؤسـا لقـوم نـكـثـوا أيـمـانـهـم وهـمـّوا بـإخـراج الرسـول وهـم بـدؤكـم أوّل مـرّة أتـخـشـونـهـم!؟ واللّه أحـقّ أن تـخـشـوه إن كـنـتـم مـؤمـنـيـن...). [6] .

ولاكـثـر مـن سبب بعد السقيفة ظلّ هذا الشلل النفسي يتفشّي أكثر فأكثر في الامّة ويتعاظم خطره حـتـّي اسـتـحـكـم التـنـاقـض بـين ظاهر الانسان المسلم وباطنه في أكثر أبناء الامّة، واستحوذ الشـيـطـان عـلي السـواد الاعـظـم مـنـهـم، وبـلغ هـذا الداء العـضـال أقـصـي مداه في هذه الامّة يوم خرجت لقتال ابن بنت نبيّها الامام الحسين (ع) بقلوب معه وسـيـوف عـليـه!! فـقـتـلتـه وهـي تـعـلم أنـّه ليـس عـلي الارض أحـدٌ أفضل منه!!

وفـي مـتـابعتنا هذه سنشير إلي العلل الاخري التي كانت وراء تعاظم هذا المرض في الامّة والي مظاهره في المواضع المناسبة التي تحسن فيها الاشارة إلي ذلك.



پاورقي

[1] الکافي، 5: 59، حديث 14.

[2] راجع: شرح نهج البلاغة، 2: 9.

[3] راجع: الغدير: 1.

[4] کـتـاب سـليـم بـن قـيس: 81؛ وروي الکليني نحوها بتفاوت في الکافي وفيها أنّ الاربعة هم أبوذر والمقداد وحذيفة بن اليمان وعمّار بن ياسر، وجاء سلمان في آخر القوم (الکافي، 8: 33 فـي ذکـر الخـطـبة الطالوتية)؛ کما روي الکشّي رواية موثّقة نحوها أيضا وفيها أنّ الذيـن اسـتـجـابـوا له (ع) ثـلاثـة فـقـط هـم سـلمـان والمـقـداد وأبـوذر (اخـتـيـار مـعـرفـة الرجـال، 1: 38، رقـم 189)؛ کـمـاروي اليـعقوبي في تأريخه، 2: 84 ـ 80 نحوها بتفاوت، وفيها فلم يغد عليه إلاّ ثلاثة نفر.

[5] بنو قيلة: هم الاوس والخزرج من الانصار.

[6] حياة الامام الحسين بن علي (ع)، 1: 263 ـ 265.