بازگشت

مقدمة المؤلف


هل ثم جديد حول قيام الامام الحسين عليه السلام؟

و بعباره أخري: هل ثم حاجة الي هذا الكتاب!؟

ان الكتب و الدراسات التي ألفت في سيرة الامام الحسين عليه السلام و في نهضته و في مقتله، و في أنصاره، و في آثار ثورته السياسية والاجتماعية والأدبية، و في الأبعاد الأخري الكثيرة المتعلقة بهذه السيرة المقدسة و هذه الثورة الفذة الفريدة، بلغت في مجموعها أكثر من ثلاثة آلاف كتاب حسب احدي الاحصائيات المعجمية. [1] .

هذا عدا المخطوطات التي لم تزل مجهولة المكان خافية عن أعين أهل التتبع والتحقيق، و عدا كثير من الكتب و المقالات التي هي تحت الطبع أو قيد التأليف. فهل غادر السابقون غرضا لم يطرقوه في ميدان هذه القضية!؟

و هل بامكان هذا الكتاب أن يأتي بجديد لم تأت به الكتب و الدراسات التي تملأ المكتبد الحسينية!؟

هناك حقيقتان لابد من التذكير بهما في بدء الاجابة عن سؤال عنوان هذه المقدمة، و عن جميع الأسئلة الأخري تقع في اطاره، و هما:

1- كما أن للقرآن و هو الثقل الأكبر منازله الحسني، كذلك للعترة و هي الثقل الآخر


نفس تلك المنازل القرآنية، و قد دعانا أميرالمؤمنين علي عليه السلام الي معرفة هذه الحقيقة و التأدب بها حيث يقول:

«و بينكم عترة نبيكم، و هم أزمة الحق و أعلام الدين، و ألسنة الصدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن، و ردوهم ورود اليهم العطاش» [2] .

فللعترة الطاهرة عليهم السلام نفس منازل القرآن الكريم.

و هذه الحقيقة يمكن استفادتها من نفس حديث الثقلين المتواتر، فقوله صلي الله عليه و آله وسلم في هذا الحديث الشريف: «... و لن يفترقا حتي يردا علي الحوض...» يعطي فيما يعطيه من معاني عدم الافتراق أنهما لايفترقان في صفة و لامنزلة، و الالصح في حقهما الافتراق!!

علي هذا، فكما أن القرآن في منزلة من منازله مثلا: «يهدي للتي هي أقوم...» [3] فان كل فرد من أفراد العترة الطاهرة عليهم السلام يهدي للتي هي أقوم، و كما أن القرآن في منزلة عليا من منازله: «و انه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم»، [4] كذلك الامام عليه السلام لفي أم الكتاب لعلي حكيم.

و هكذا الأمر في سائر الصفات و المنازل القرآنية...

و من تلك المنازل: أن جميع التفاسير [5] هي أخذ عن القرآن الكريم، الاأن كلا


منها لايمثل في الحقيقة الاسعة و عاء المفسير الذي أدلي به، و درجة فهمه و استيعابه في أخذه عن القرآن الكريم.

والقرآن هو القرآن، فلايقال عن تفسير مهما بلغ في عمقه وسعته و نوع منهجه انه يمثل القرآن كل التمثيل و انه قد أحاط به كل الاحاطة.

فالقرآن الكريم عطاء شامل و غناء تام، و محيط لايحاط به [6] ، و انما أهل الحاجة اليه في أخذهم عنه علي قدر أعيتهم و أدواتهم.

و كذلك الامام عليه السلام في هذه الصفة و المنزلة.

2- الزمن عامل من عوامل ايضاح الحائق بما أنه ظرف لازالة الموانع من معرفتها والايمان بها، و لقد أشار القرآن الحكيم الي دور مرور الزمان في ايضاح الحقائق، علي لسان مؤمن آل فرعون حينما خاطب قومه و نصح لهم في بلاط فرعون، حيث قال لهم في ختام مواعظه بعد أن وجدهم أسري التضليل الفكري والنفسي الفرعوني:

(فستذكرون ما أقول لكم و أفوض أمري الي الله ان الله بصير بالعباد) [7] .

فقوله: «.. فستذكرون...» اشارة الي حصول هذا التذكر في المستقبل من الأيام عند توفر أسبابه، و هو دليل أيضا علي تأثير عامل الزمن في كشف الغموض عن وجه الحقيقة، و ازالة العوائق المانعة عن الايمان بها.

كما أشار أميرالمؤمنين علي عليه السلام أيضا الي تأثير عامل الزمن في كشف


الأستار عن الحقائق و ازاحة حجب التضليل الفكري و السياسي و النفسي عنها في قوله: «غدا ترون أيامي، و يكشف لكم عن سرائري، و تعرفونني بعد خلو مكاني، و قيام غيري مقامي» [8] .

فمرور الزمان سبب مهم من أسباب رفع الموانع عن معرفة الحقيقة، و فلاسفة التأريخ يعتقدون أنه ليس هناك أية حادثة تأريخية يمكن تقييمها بكل دقة، و معرفتها تمام المعرفة في نفس زمانها. [9] .

واأمر نفسه ينطبق أيضا و يصدق علي الشخصيات التأريخية، اذ نادرا ما نراها تحوز علي التقدير المناسب لها و هي علي قيد الحياة، بل ان قدرها غالبا مايتم اكتشافه شيئا فشيئا بعد مماتها، و تظهر القيمة الحقيقية لعظمتها تدريجيا و بعد مرور عشرات السنين علي رحيلها.

هذا فضلاعن دور عامل الزمن في انضاج العقل البشري و تأهليه لادراك الحقائق بصورة أفضل نتيجة ازدياد حصيلة التجارب و الخبرة علي الصعيد العلمي والعملي، و امتداد مجالات التحقيق النقد سعة و عمقا...

ومما يؤيد هذا، ما ورد عن سيد الساجدين و زين العابدين عليه السلام في اشارة الي هذا التعمق في الادراك البشري، حيث قال حينما سئل عن التوحيد: «ان الله عزوجل علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون فأنزل الله تعالي: (قل هو الله أحد)، و الآيات من سورة الحديد الي قوله: (هو عليم بذات الصدور) فمن رام وراء ذلك فقد هلك». [10] .


و هذا التعمق لاينحصر في ادراك الحقيقية الاعتقادية، بل هو في ادراك كل حقيقة يمكن أن ينالها عقل الانسان، و منها الحقيقة التأريخية.

خلاصة هاتين الحقيقتين: هي أننما كما نجد في دراستنا لقرآن الكريم جديدا علي الدوام، كذلك نجد في دراستنا لسيرة النبي الأكرم محمد صلي الله عليه و آله وسلم و عترته الطاهرة عليهم السلام جديدا علي الدوام أيضا. و يبقي الباب مفتوحا للتعر علي الحقيقة بصورة أفضل، لأن الزمن عامل من عوامل ايضاح الحقيقة، و وعاء في طوائه ينضج العقل البشري و يتعمق... فعلي امتداد الزمان ثم اكتشاف و ثم ظهور و ثم جديد!!

و مع هاتين الحقيقتين هناك حقائق أخري ترتبط بميدان البحث و التحقيق ومنطلقات النظر والتفكير في تأريخ قيام الامام الحسين عليه السلام، من هذه الحقائق المرتبطة في هذا المجال علي سبيل المثال لاالحصر:

1- هناك عوامل متعددة كان لها دورها المؤثر في مجري تحقق نهضة الامام الحسين عليه السلام، كمثل عامل رفض البيعة ليزيد، و عامل رسائل أهل الكوفة، و عامل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و طلب الاصطلاح في أمة محمد صلي الله عليه و آله وسلم، و هذا الأمر بحد ذاته أدي الي تعدد النظرات الي هذا القيام، لأن بعض من فكر و تأمل و كتب في تأريخ هذه النهضة اقتصر نظره علي بعض هذه العوامل فقط. كما أن تداخل هذه العوامل المتعددة أدي الي تداخل و تشابك التفسيرات والتحليلات المتنوعة لهذه النهضة، والتي أريد منها الوصول الي كنه حقيقتها العميقة بالرغم من عدم اتساع رقعة أحداثها تأريخيا.

كما أن هذه النظرات والتفسيرات المتعدد لقيام الامام الحسين عليه السلام لم تكن


غالبا في طول بعضها البعض في متجه واحد، بل تعارض بعضها مع بعض آخر الي حد التضاد.

2- ان كثيرا من القصور الذي لحق ببعض الدراسات التي تناولت هذه النهضة المقدسة بالبحث و التحقيق كان من أسبابه الاقتصار في النظر الي عامل واحد من عواملها والتأكيد عليه و منحه من الأهمية ما لم يكن له في حقيقة الأمر، و تفسير مجري وقايع تلك النهضة علي أساسه، كما حصل في تأكيد بعض الأقدمين و بعض المعاصرين علي عامل رسائل أهل الكوفة الي الامام عليه السلام، و قولهم بأن قيام الامام الحسين عليه السلام انما كان بسبب هذا العامل.

و من أسباب هذا القصور أيضا تحليل و تعليل قضايا و وقائع حركة الامام عليه السلام بعيدا عن حضور الاعتقاد الصحيح بأصل «الامامة» و لوازمها، و شرائط شخصية الامام المعصوم عليه السلام خصوصا فيما يتعلق بموضوع علم الامام عليه السلام، و بالأخص فيما يتعلق بعلمه بمصيره.

فمما يستفاد من نصوص بعض علمائنا الأقدمين قدس سره أنهم في تحليلهم لواقعة عاشوراء كانوا يرون أن الامام عليه السلام لم يكن علي علم بمصيره، و أنه انما خرج استجابة لرسائل أهل الكوفة اليه، و أنه كأي انسان آخر عمل بالظن والاجتهاد، و لم يكن في حسابه أن يغدر القوم، و يضعف أهل الحق عن نصرته، ويتفق ما اتفق من الأمور الغريبة، فما وقع لم يقصد، وما قصد لم يقع...!!

لنقرأ هذا النص التحليلي في هذا المجال:

يقول السيد الشريف المرتضي أعلي الله مقامه:

«قد علمنا أن الامام عليه السلام متي غلب في ظنه يصل الي حقه والقيام بما فوض اليه بضرب من الفعل وجب عليه ذلك، و ان كان فيه ضرب من المشقة


يتحمل مثلها تحملها. و سيدنا ابو عبدالله عليه السلام لم يسر طالبا للكوفة الابعد توثق من القوم و عهود و عقود، و بعد أن كاتبوه عليه السلام طايعين غير مكرهين و مبتدئين غير مجيبين، و قد كانت المكاتبة من وجوه أهل الكوفة و أشرافها و قرائها تقدمت اليه عليه السلام في أيام معاوية و بعد الصلح الواق بينه و بين الحسن عليه السلام فدفعهم قال في الجواب ما وجب، ثم كاتبوه بعد وفاة الحسن عليه السلام و معاوية باق، فوعدهم و مناهم، و كانت أياما صعبة لايطمع في مثلها، فلما مضي معاوية عادوا للمكاتبة و بذلوا الطاعة و كرروا الطلب و الرغبة، و رأي عليه السلام من قوتهم علي من كان يليهم في الحال من قبل يزيد اللعين و تشحنهم عليه و ضعفه عنهم ما قوي في ظنه أن المسير هو الواجب، تعين عليه ما فعله من الاجتهاد و التسبب، و لم يكن في حسابه أن القوم يغدر بعضهم، و يضعف أهل الحق عن نصرته، و يتفق ما اتفق من الأمور الغريبة...» [11] .

و من قبله كان أستاذه الشيخ المفيد رحمته الله في اجابته عن سؤال: «... و ما بال الحسين عليه السلام صار الي الكوفة و قد علم أنهم يخذلونه و لاينصرونه، و أنه مقتول في سفرته تلك؟» قد قال:

«فأما علم الحسين عليه السلام بأن أهل الكوفة خاذلوه فلسنا نقطع علي ذلك، اذ لاحجة عليه من عقل و لاسمع». [12] .


واتبع هذه النظرة كتاب معاصرون في مؤلفات صدرت لهم عن النهضة الحسينية! و منهم الشيخ نعمه الله النجف آبادي صاح كتاب «الشهيد الخالد»!

و مرد هذه النظرة الي تصور أن القيام مع العلم بأن المصير هو القتل القاء في التهلكة، أو أن العلم بالقتل يعني العلم بعدم تحقق أهداف القيام، فالقيام - علي هذا - عبثية و انتحار! الأمر الذي اضطر أصحاب هذه النظرة الي القول بعدم علي الامام عليه السلام بمصيره!

و قد رد هذه النظرة علماء كثيرون و نوقشت في معرض الرد عليها مناقشات عديدة علي الصعيد الاعتقادي والتأريخي.

قال السيد بن طاووس رحمته الله:

«و الذي تحققناه أن الحسين عليه السلام كان عالما بما انتهت حاله اليه، و كان تكليفه ما اعتمد عليه». [13] .

و يقول أيضا في معرض الرد علي هذه النظرة:

«و لعل بعض من لايعرف حقائق شرف السعادة بالشهادة يعتقد أن الله لايتعبد بمثل هذه الحالة، أما سمع في القرآن الصادق المقال أنه تعبد قوما بقتل أنفسهم فقال تعالي: (فتوبوا الي بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم)، و لعله يعتقد أن معني قوله تعالي (و لاتلقوا بأيديكم الي التهلكة) أنه هو القتل، و ليس الأمر كذلك، و انما التعبد به من أبلغ درجات السعادة...» [14] .

كما عارض الامام الخميني رحمته الله هذه النظرة في تصريحات عديدة منها قوله:


«ان سيد الشهداء عليه السلام حسب رواياتنا و اعتقادنا كان يعلم ماذا يريد أن يفعل، و يعلم أنه يستشهد منذ كان يتحرك خارجا من المدينة». [15] .

3- أن الاختلاف لم ينحصر في الاطار التأريخي بل امتد الي الصعيد الفقهي أيضا، فمن قائل: ان الامام الحسين عليه السلام كان له تكليف خاص بادر الي العمل به، و لايمكن التأسي به فيما قام به، كما يري ذلك صاحب الجواهر رحمته الله حيث يقول: «ما وقع من الحسين عليه السلام مع أنه من الأسرار الربانية و العلم المخزون يمكن أن يكون لانحصار الطريق في ذلك، علما منه عليه السلام أنهم عازمون علي قتله علي كل حال كما هو الظاهر من أفعالهم و أحوالهم و كفرهم و عنادهم، و لعل النفر العشرة كذلك أيضا، [16] مضافا الي ما ترتب عليه من حفظ دين جده صلي الله عليه و آله وسلم و شريعته، و بيان كفرهم لدي المخالف و المؤالف.

علي أنه له تكليف خاص قد قدم عليه و بادر الي اجابته.

و معصوم من الخطأ لايعترض علي فعله و لاقوله، فلايقاس عليه من كان تكليفه ظاهر الأدلة والأخذ بعمومها و اطلاقها مرجح بينه اذ بالمرجحات الظنية...» [17] .


كما قال بهذا الرأي علماء آخرون، مثل الرجالي المعروف المرحوم المامقاني في ترجمة عمرو بن جنادة أحد أنصار الامام الحسين عليه السلام و هو ابن احدي عشرة سنة. [18] .

و قال به أيضا العلامة المجاهد الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء رحمته الله في كتابه جنة المأوي في معرض اجاباته علي بعض الأسئلة المطروحة عليه. [19] .

غير أن آخرين من علمائنا قدس سره كانت لهم آراء أخري غير القول بالتكليف الخاص، اذ فسروا قيام الامام الحسين عليه السلام علي أساس انطباقه علي الموازين الشرعية العامة.

و من هؤلاء العلماء الأعلام مثلا: المحقق الثاني رحمته اله حيث يقول:

«و أما فعل الامام الحسين عليه السلام فأنه لانعلم منه أن المصلحة كانت في المهادنة و تركها، و لعله عليه السلام علم أنه لو هادن يزيد عليه اللعنة لم يف له، أو أن أمر الحق يضعف كثيرا بحيث يلتبس علي الناس، مع أن يزيد لعنه الله كان متهتكا في فعله، معلنا بمخالفة الدين، غير مداهن كأبيه لعنة الله عليهما، و من هذا شأنه لايمتنع أن يري امام الحق وجوب جهاده و ان علم أنه يتسهشد...» [20] .

و من هؤلاء العلماء الأعلام الذين عارضوا القول بالتكليف الخاص أيضا الامام الخميني رحمته الله، الذي تبني في نظرته الفقهية أساس أولوية المصالح الاسلامية العليا، أي أن بعض المصالح الاسلامية الكبري علي درجة من الاهمية بحيث لايمكن أن تعارضها أو تزاحمها عناوين أخري مثل العسر و الحرج والضرر.


و بعض مصاديق المعروف أو المنكر من هذا القبيل، فدفع منكر كبير مثل حكومة يزيد، واقامة معروف كبير مثل تشييد الحكومة الاسلامية من أبرز هذه المصاديق.

و من اقواله رحمته الله في هذا النطاق:

«لو كان المعروف والمنكر من ال.مور التي يهتم بها الشارع الأقدس، كحفظ نفوس قبيلة من المسلمين، أو هتك نواميسهم، أو محو آثار الاسلام و محو حجته بما يوجب ضلالة المسلمين، أو امحاء بعض شعائر الاسلام كبيت الله لاحرام بحيث يمحي آثاره و محله، و أمثال ذلك، لابد من ملاحظة الأهمية.

و لايكون مطلق الضرر و لو النفسي أو الحرج موجبا لرفع التكليف، فلو توقفت اقامة حجج الاسلام بما يرفع الضلالة علي بذل النفس أو النفوس فالظاهر وجوبه فضلاعن الوقوع في ضرر أو حرج دونها». [21] .

و في اشارة منه رحمته الله خطبة الامام الحسين عليه السلام في الطريق الي العراق بعد لقائه بجيش الحر بن يزيد الرياحي رحمته الله - حيث ذكر الناس بقول رسول الله صلي الله عليه و آله وسلم: «من رأي سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله صلي الله عليه و آله وسلم، يعمل في عباد الله والعدوان، فلم يغير ما عليه بفعل و لاقول كان حقا علي الله أن يدخله مدخله» - قال رحمته الله:

لقد بين الامام عليه السلام هذا المطلب في وقت كان هو قد ثار ضد يزيد بعدد قليل، ليبطل عذرنا حين نقول مثلا: ان عددنا كان قليلا، و ان قوتنا كانت قليلة... هذا المطلب الذي بينه سيدالشهداء عليه السلام يعم الجميع، انه مطلب (عمومي)، «من


رأي»: كل من رأي سلطانا جائرا يتصف بهذه الأمور، و يقعد ازاءه ساكتا لايرد عليه بقول و لايقوم ضده بعمل، فان مدخل هذا الانسان نفس مدخل السلطان الجائر. « [22] .

و يقول رحمته الله في موضع آخر: «عمل الامام الحسين عليه السلام منهج للجميع» [23] .

و يري الشهيد الشيخ مرتضي مطهري أن القول بأن قيام الامام الحسين عليه السلام كان علي أساس تكليف خاص هو من التحريفات المعنوية التي تعرضت له النهضة الحسينية!. [24] .

4- و من الملاحظات الملفتة للانتباه في ميدان البحث والدراسة في موضوع النهضة الحسينية، أننا لم نجد في ما كتب من قبل في دراسة هذه النهضة المقدسة - حسب حدود تتبعنا - عناية منهجية بالعامل الاعلامي و التبليغي في حركة الامام عليه السلام، و هو من العوامل المؤثرة في هذه النهضة المباركة.

نعم، هناك التفاتات متفرقة نحو هذا العامل في بعض الكتب والدراسات، هي بمثابة الشذرات التي لاتمثل خطا و منهجا في البحث.

ان العامل الاعلامي والتبليغي المقارن لجميع وقائع حركة الامام عليه السلام، والمفسر لهذه الوقائع، يرشد المتأمل الي معرفة الأهداف الرئيسة والفرعية التي سعي الامام عليه السلام الي تحقيقها.

مثلا: ما هو الهدف المنشود من وراء العامل الاعلامي والتبليغي في مناورة


الامام عليه السلام في طلبه من الوليد بن عتبة والي المدينة آنذاك أن يدعوه الي البيعة علنا مع جماهير أهل المدينة؟

و: ما هو الهدف اعلاميا و تبليغيا من وراء رفض الامام عليه السلام سلوك الطريق الفرعي من المدينة الي مكه؟

و: ما هو الهدف اعلاميا و تبليغيا من وراء بيانات الامام عليه السلام الكثيرة و تصريحاته المتتابعة في أنه سوف يقتل؟

و: ما هو الهدف اعلاميا و تبليغيا من وراء طلب الامام عليه السلام عصر تاسوعاء أن يمهل الي صبيحة عاشوراء؟

و أسئله أخري كثيرة جدا تفرض نفسها أمام المتأمل في الأهداف المقصودة من وراء العامل الاعلامي والتبليغي في جميع تفاصيل حركة أحداث الثورة الحسينية!

ان المتابعة الواعية بمنظار العامل الاعلامي والتبليغي للأهداف المنشودة في تفاصيل حركة أحداث هذه الثورة المقدسة تساع كثيرا في اعداد مادة قيمة لدراسة تأريخية تفسيرية لوقائع هذه الثورة الفذة الفريدة.

الأمر الذي لم يزل مكانه فارغا في المكتبة الحسينية علي ما يبدو!!

هذه بعض الأمثلة عن مشكلات البحث والنظر في موضوع قيام الامام الحسين عليه السلام، نكتفي بها تجنبا للاطالة، و هناك أمثلة أخري تناولناها في بحوث


هذا الكتاب.

و من خلال تلك الأمثلة التي قدمناها تتجلي لنا حقيقة أن ساحة البحث في موضوع قيام الامام الحسين عليه السلام لم تزل تتطلب المزيد من البحوث والدراسات العامة و التفصيلية في جميع جوانب هذا الموضوع، الفكرية والسياسية والأخلاقية والحركية والعسكرية والعلامية و ما سوي ذلك.

ان الحاجة لم تزل قائمة بعد لدراسة في تأريخ الثورة الحسينية تأتي شمولية تأخذ جميع العوامل المؤثرة في هذه الثورة بعين الاعتبار، و تمنح كل عامل من هذه العوامل حقه من الأهمية بلاتفريط أو افراط.

و ما قدمه الشهيد الشيخ مرتضي مطهري في كتابه (حماسه ي حسيني) من محاولة لدراسة العوامل المؤثرة في النهضة الحسينية جهد قيم مشكور، يمكن أن يشكل نواة منهج لدراسة تأريخية تحقيقية مفصلة في هذه المسألة.

و اذا كانت الدراية العقائدية والتأريخية كما وكيفا مؤثرة في منحي التفكير والاستنباط الفقهي في القضية ذات الأرضية العقائدية والتأريخية، فان الحاجة لم تزل قائمة و تتأكد لدراسة (عاشوراء في الفقه) دراسة تفصيلية معمقة يقوم بها مجموعة من الفقهاء كل علي افنراد، أو في اطار جهد جماعي، لتشير في نتائجها الي الرأي الصائب فيما هو مطروح من قبل فقهائنا الأعلام الماضين والأحياء، أو لعلها تكتشف جديدا في البين.

والحاجة لم تزل قائمة لدارسة تكتشف منهج أخلاقية البراني الثائر و موازينها علي صفحة تأريخ حركة أحداث الثورة الحسينية، و تقرأ في قاموس هذه الأخلاقية الربانية: معني الموت و معني الحياة، معني الهزيمة و معني النصر، معني الذلة ومعني العزة، معني الضعف و معني القوة، معني الشقاء و معني السعادة.


والحاجة لم تزل قائمة لدراسة عسكرية متخصصة تكتشف علي ساحة تأريخ هذه الثورة الحسينية المقدسة الشي ء الكثير والجديد في فن التعبئة التضحوية في سبيل الهدف المقدس، و فن التخطيط الحربي الفدائي، و فن نقل القوة المحاصرة الي الأرض المختارة، و ما الي سوي ذلك...

والحاجة لم تزل قائمة لدراسات تحلق في آفاق عرفان عاشوراء.

و الحاجة لم تزل قائمة لدراسات في أدبيات هذه الثورة المقدسة.

والحاجة لم تزل تدعو الي دراسات عديدة متنوعة أخري في كل الجوانب العديدة المتنوعة الأخري لهذا القيام الخالد.

و تبقي الحاجة دائمة الي كل ذلك، مادمنا لانقدر علي الأخذ عنهم عليهم السلام الابقدر أوعيتنا و أدواتنا، و مادام التعمق في التفكير والتتبع والتحقيق يشتد و يقوي في سريان الزمان، و مادامت هناك فراغات و ثغرات في تأريخ هذه الثورة المقدسة لم تملأ بعد..

و هذا الكتاب...

هو الجزء الأول من هذه الدراسة (مع الركب الحسيني من المدينة الي المدينة)، و يختص بالمقطع الأول من مقاطعها الستة و هو (تأريخ فترة وجود الامام الحسين عليه السلام - بعد أخيه الامام الحسن عليه السلام - في المدينة، و تأريخ رحلته عنها الي مكة المكرمة بعد موت معاوية و تسلط يزيد.).

و قد حاولت في المقالة الأولي من مدخل هذا الكتاب و هي بعنوان «حركة النفاق. قراءة في الهوية و النتائج» أن أتلمس في ثنايا التحولات الكبري التي جرت علي الأمة الاسلامية منذ وفاة النبي صلي الله عليه و آله وسلم الي سنة ستين للهجرة: منا شي ء


«الشلل النفسي» و «الازدواجية» في شخصية الانسان المسلم، و أسباب تعاظم هذه الحالة المرضية التي بلغت أشدها في كيان الأمة الي الدرجة الي صارت فيها قلوب الناس مع الحسين عليه السلام و سيوفهم عليه.

هذا فضلاعن الحقائق الجديدة المهمة الأخري التي كشف الأستار عنها مسار البحث في نفس هذه المقالة.

كما حاولت في المقالة الثانية من المدخل وهي بعنوان «بين يدي الشهيد الفاتح» أن أثبت أن «الشهيد الفاتح» من الخصائص الحسينية، كما بلورت صورة واضحة عن منطق العمق في حركة الامام عليه السلام و هو «منطق الشهيد الفاتح».

هذا المنطق الذي يمكن في اطاره أن تفسير كل تصريحات الامام عليه السلام و مواقفه التي قد تبدو في الظاهر متعارضة: تفسيرا موحدا منسجما يكشف في العمق عن المتجه الواحد لجميع هذه التصريحات والمواقف.

المنطق الذي تنتفي في ضوئه المنافاة التي تبدو في الظاهر بين سعي الامام عليه السلام لتسلم الحكم و بين علمه بمصرعه.

بين استجابته عليه السلام لرسائل أهل الكوفة و قوله «لابد من العراق» و بين علمه عليه السلام بأنهم سوف يخذلونه و يقتلونه.

بين اقراره عليه السلام بأن مشورة عمرو بن لوذان هي الرأي أو من الرأي الذي لايخفي عليه، و أن مشورة عمر بن عبدالرحمن كانت عن نصح و عقل، و أن ما أشار به أخوه محمد صواب، و بين عدم أخذه عليه السلام بكل هذه النصائح والآراء والمشورات!

بين أن يرفض النصر الذي رفرف علي رأسه الشريف لما التقي الجمعان، و رفضه قبل ذلك نصرة الملائكة والجن، و بين اعيته: أما من مغيث يغيثنا! أما من


ذات يذب عن حرم رسول الله صلي الله عليه و آله وسلم؟!

كما حاولت في هذه المقالة أيضا أن أشير الي أهم ملامح آفاق الفتح الحسيني في عصر نهضة عاشوراء نفسها، و في ما بعد ذلك الي عصر الظهور، ثم في عصر الظهور، حيث أكدت فيه علي أن قيام الامام المهدي عليه السلام يمثل الصل الأخير من فصضول النهضة الحسينية.

و في المتن التأريخي لمبحث (الجزء الأول) من هذه الدراسة حاولت أن أقرأ تأريخ فترة المقطع الأول قراءة نقدية تحليلية تؤكد الصحيح، و تصحح الخطأ، و تكتشف الجديد، و قد قسمت هذه القراءة الي فصول أربعة هي:

الفصل الأول: الامام الحسين عليه السلام بعد أخيه الامام الحسن عليه السلام.

الفصل الثاني: المعال العامة لنهج الامام الحسين عليه السلام في عهد معاوية.

الفصل الثالث: قصة بداية الثورة.

الفصل الرابع: بداة رحلة الفتح بالشهادة.

و أنا في هذه المتابعة التأريخية لاأدعي أنني لملمت أطراف شوارد كل جديد، فذلك ليس بمقدوري، و لاأنني أحطت بجميع حاجات و جوانب البحث و الدراسة في هذا المجال، فذلك مالم أحط به علما و خبرا، و لاأقول انني لم يفتني شي ء مما ينبغي أن ألتفت اليه و أن أدلي دلوي فيه، فذلك ليس من واقعيات عمل غير المعصوم.

كل ما يمكن أن أدعية هو أن هذه قراءة تأريخية أخري حاولت فيها أن أكتشف جديدا لم يعرف، أو خفيا لم يظهر، أو ذا قيمة لم ينل ما يستحقه من القيمة والأهيمة، أو صدقا غيبته عن الظهور شوائب المكذوبات، أو مكذوبا اندس بين الحقائق والمسلمات، أو معني ساميا، أو درسا مستفادا، أو عظة منشودة.


تري... هل وفقت تماما في كل ما حاولت...!؟

ان ما يمكن أن أطمئن اليه هو أن هذا الكتاب جاء بشي ء جديد، و أنه ليس محاولة مكررة في المكتبة الحسينية... و أثم حاجة اليه.

و في الختام: أجد من الحق اللازم علي أن أتقدم بالشكر والامتنان الي جميع اخواني المؤمنين عامة و أهل التحقيق منهم خاصة، الذين افادوني بملاحظاتهم النافعة و مساعداتهم المعنوية الكبيرة خصوصا في مجال امدادي بالمصادر التي كنت بحاجة اليها، و أخص منهم بالذكر أخي الطيب المرحوم المحقق الشيخ علي ئيس أكشناني الذي فتح بين يدي حاجتي مكتبة المتخصصة النفيسة، فاختصر لي كثيرا من الأوقات، و خفف عني كثيرا من معاناة التتبع الطويل المرهق، و لكن الموت (مفرق الأحبة) فجعني أيام البحث بفقده في حادث مؤسف، فتغمده الله برحمته الواسعة، و حشره مع النبي الأكرم محمد و آله الطيبين الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.

أللهم اقبلنا و تقبل منا، و ترحم علي عجزنا و قصورنا، و تجاوز عن تصيرنا، و لاتخيب سعينا، و أدخلنا برحمتك في خدام الحسين عليه السلام.

و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

علي الشاوي

1/ المحرم الحرام / 1421 ه ق



پاورقي

[1] معجم ما کتب عن الرسول و أهل البيت عليهم‏السلام، الجزء السابع والثامن.

[2] نهج البلاغة، ضبط صيحي الصالح: 120، خطبه 87.

[3] سورة الاسراء: الآية 9.

[4] سورة الزخرف: الآية 4.

[5] و نعني بها جميع تفاسير العلماء المسملمين (من غير العترة الطاهرة عليهم‏السلام). ثم انه حتي التفسير برواية أهل البيت عليهم‏السلام، کتفسير نورالثقلين و تفسير البرهان و تفسير الصافي مثلالايمثل - علي أحسن الفروض - الابعض ما أدلي به أهل البيت عليهم‏السلام في مجال تفسير القرآن الکريم لاکل ما عند أهل البيت عليهم‏السلام من علم ذلک.

[6] لايحيط به الاالنبي صلي الله عليه و آله وسلم و عترته عليهم‏السلام: فعن الباقر عليه‏السلام: «انما يعرف القرآن من خوطب به» (الکافي: 311:8 رقم 485).

[7] سورة غافر: الآية 44.

[8] نهج البلاغة، ضبط صبحي الصالح: 208، خطبة 109.

[9] راجع: الملحمة الحسينية، 203:2.

[10] الکافي، 91:1 الحديث رقم 3.

[11] تنزيه الأنبياء: 176-175.

[12] المسائل العکبرية: 71-69، المسألة العشرون. (هذا مع أن الشيخ المفيد رحمته الله في کتاابه أوائل المقالات) في «القول في علم الائمة عليهم‏السلام بالضمائر والکائنات و اطلاق القول عليهم بعلم الغيب و کن ذلک لهم في الصفات» يقول: «و أقول: ان الأئمة من آل محمد عليهم‏السلام قد کانوا يعرفون ضمائر بعض العباد، و يعرفون ما يکون قبل کونه...» مصنفات الشيخ المفيد، 67:4.

[13] اللهوف: 11.

[14] نفس المصدر: 12.

[15] صحيفة النور، 140:18؛ و هناک تصريحات أخري له بهذا المضمون في نفس المصدر 149:18؛ و 58:17؛ و 174:1.

[16] هؤلاء النفر العشرة من أصحاب الرسول صلي الله عليه و آله وسلم أرسلهم مع رهط من طائفتي (عضل) و (قارة)، فغدروا بهم عند ماء الرجيع بمعونة قبيلة (هذيل)، فقاتلوهم هؤلاء الصحابة حتي استشهد جلهم، في قصة مفصلة في کتب التأريخ في أحداث السنة الرابعة للهجرة.

[17] جواهر الکلام، 296-295 :21.

[18] تنقيح المقال، 327:2.

[19] جنة المأوي: 225-224 و 227.

[20] جامع المقاصد في شرح القواعد، 467:3.

[21] تحرير الوسيلة، 72/1، مسألة 6؛ و تلاحظ المسائل التي بعدها.

[22] صحيفة النور، 42:2.

[23] نفس المصدر: 31:10.

[24] الملحمة الحسينية (ترجمة عربية لکتاب حماسه‏ي حسيني)، 240:3.