بازگشت

استشهاد الإمام الحسين


ولما قتل أصحابه وأهل بيته ولم يبق أحد عزم علي لقاء الله، فدعي ببردة رسول الله فالتحف بها فأفرغ عليها درعه، وتقلّد سيفه واستوي علي متن جواده، ثم توجّه نحو القوم وقال: ويلكم علي مَتقاتلونني؟ علي حقٍّ تركته؟ أم علي شريعة بدّلتها؟ أم علي سنّة غيّرتها؟ فقالوا: نقاتلك بغضاً منّا لأبيك وما فعل بأشياخنا يوم بدر وحنين. فلما سمع كلامهم بكي، وجعل يحمل عليهم وجعلوا ينهزمون من بين يديه كأنهم الجراد المنتشر، ثم رجع إلي مركزه وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وهو في تلك الحالة يطلب شربة من الماء وكان يقول:



أنــــا ابن عليّ الطهر من آل هاشمٍ

كفاني بهـــــذا مفــــخراً حين افخر



وجــدي رسول الله ا كرم من مشي

ونحن سراج الله في الأرض نزهر



وفاطـــــم أمـــــــي من سلالة أحمد

وعمّــــي يدعي ذا الجناحين جعفر



وفيـــــنا كـــــــتاب الله أنزل صادقاً

وفيــنا الهدي والوحي بالخير يذكر



فنــــــحن أمــــــان الله للناس كلّهم

نسرّ بهذا فـــــي الأنــــام ونـــجهر



ونحـــن ولاة الحوض نسقي ولاتنا

بكاس رســــــول الله ما ليس ينكر



وشيعـــــتنا فــي الحشر أكرم شيعة

ومبغــــــضنا يــــوم القيامة يخسر



فطـــــوبي لعــــــبدٍ زارنا بعد موتنا

بجـــــنة عــــــدن صـفوها لا يكدّر



فصاح عمر بن سعد: الويل لكم! أتدرون لمن تقاتلون؟ هذا ابن الأنزع البطين هذا ابن قتال العرب، احملوا عليه من كل جانب. فحملوا عليه فحمل عليهم كالليث المغضب، فجعل لا يلحق منهم أحداً إلا بعجهُ بالسيف فقتله، حتي قتل منهم مقتلة عظيمة، وفي خبر أنه قتل ألفاً وتسعمائة وخمسين رجلاً، فحالوا بينه وبين رحله، فصاح: ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم، وارجعوا إلي أحسابكم إن كنتم عربا.

فناداه شمر: ما تقول يابن فاطمة؟

قال أقولك أنا الذي أقاتلكم وأنتم تقاتلونني، والنساء ليس عليهن جناح، فامنعو عتاتكم وجهّالكم عن التعرّض لحرمي ما دمت حيّا.

فصاح شمر بأصحابه: تنحّوا عن حرم الرجل واقصدوه بنفسه، فلعمري هو كفو كريم، فتراجع القوم.

فنزلت الملائكة من السماء لنصرته فلم يأذن لهم بشيء، ثم التفت يميناً وشمالاً فلم ير أحداً من أصحابه إلا من صافح التراب جبينه وقطع الحمام أنينه، فخاطبهم وعاتبهم فما سمع منهم جواباً.



لما رأي السبط أصحاب الوفا قـتلوا

نــادي أبا الفضل أين الفارس البطل



وأيــــن من دوني الأرواح قد بـذلوا

بالأمس كانوا معي واليوم قد رحلوا



وخلّفوا في سويد القلب نيرانا

ثم نادي برفيع صوته: هل من ناصر ينصرني، هل من معين يعينني؟ فخرج زين العابدين وهو مريض لا يتمكّن أن يحمل سيفه، وأمّ كلثوم تنادي خلفه ارجع.

فقال: يا عمّتاه ذريني أقاتل بين يدي ابن رسول الله، فقال الحسين: خذيه، لئلا تبقي الأرض خالية من نسل آل محمد.

وفي رواية جاء الحسين واحتمله وأتي به إلي الخيمة ثمّ قال: ولدي ما تريد أن تصنع؟ قال: أبه إن نداءك قطع نياط قلبي، وأريد أن أفديك بروحي، فقال الحسين: يا ولدي أنت مريض، ليس عليك جهاد، وأنت الحجّة والإمام علي شيعتي وأنت أبو الأئمة، وكافل الأيتام والأرامل، وأنت الرادّ لحرمي إلي المدينة.

فقال زين العابدين: أبتاه تقتل وأنا أنظر إليك؟ ليت الموت أعدمني الحياة، روحي لروحك الفداء، نفسي لنفسك الوقاء.

ثم ذهب الحسين إلي خيام الطاهرات من آل رسول الله، ونادي: يا سكينة ويا فاطمة ويا زينب ويا أم كلثوم: عليكنّ مني السلام فهذا آخر الاجتماع، وقد قرب منكنّ الافتجاع.

فعلتْ أصواتهن بالبكاء وصحْن: الوداع الوداع، الفراق الفراق، فجاءته عزيزته سكينة وقالت: يا ابة استسلمت للموت؟ فإلي من اتّكل؟ قال: يا نور عيني كيف لا يستسلم للموت من لا ناصر له ولا معين. قالت: ابه ردّنا إلي حرم جدّنا؟ فقال الحسين: هيهات، لو ترك القطا لغفا ونام.

فبكت سكينة فأخذها وضمّها إلي صدره ومسح الدموع عن عينها وهو يقول:



سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي

منك البـــكاء إذا الحِمام دهاني



لا تــــحرقي قلبي بدمعك حسرة

مادام مــنيّ الروح في جثماني



فإذا قــــتلت فـــأنت أولي بالذي

تــــــأتينه يا خـــــيرة النـسوان



ثم إن الحسين دعاهن بأجمعهن، وقال لهن: استعدوا للبلاء واعلموا أن الله حافظكم وحاميكم، وسينجيكم من شر الأعداء ويجعل عاقبة أمركم إلي خير، ويعذب أعاديكم بأنواع العذاب، ويعوّضكم عن هذه البليّة بأنواع النعم والكرامة، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم.

ثم أمرهن بلبس أزرهن ومقانعهن، فسألته زينب عن ذلك، فقال: كأنّي أراكم عن قريب كالإماء والعبيد يسوقونكم أمام الركاب، ويسومونكم سوء العذاب، فنادت زينب: وا جدّاه وا قلّة ناصراه، فشقّت ثوبها ونتفت شعرها ولطمت علي وجهها، فقال الحسين لها: مهلاً يا بنت المرتضي إن البكاء طويل، فاراد الحسين أن يخرج من الخيمة فتعلّقت به زينب، وقالت: مهلاً يا أخي توقّف حتي أتزوّ منك ومن نظري إليك وأودّعك وداع مفارق لا تلاقي بعده.

فجعلت تقبّل يديه ورجليه، وأحطن به سائر النسوة يقبّلن يديه ورجليه، فسكّتهن الحسين، وردّهن إلي الفسطاط.

ثم دعا بأخته زينب وصبّرها وأمرّ يده علي صدرها وسكّنها من الجزع، وذكر لها ما أعدّ الله للصابرين، فقالت له: يابن أمي طب نفساً وقرّ عيناً فإنك تجدني كما تحب وترضي. فقال الحسين: أخيّة إيتيني بثوب عتيق لا يرغب فيه أحد، أجعله تحت ثيابي لئلا أجرّد بعد قتلي، فإني مقتول مسلوب، فارتفعت أصواتهنّ بالبكاء، فأتي بتبّان، وهو ثوب قصير ضيّق، فقال: لا، ذاك لباس من ضربت عليه الذلّة، فأخذ ثوباً خَلِقاً فخرقه وجعله تحت ثيابه فلما قتل جرّدوه منه.

ثم نادي الحسين هل من يقدم إليّ جوادي؟ فسمعت زينب فخرجت وأخذت بعنان الجواد وأقبلت إليه وهي تقول: لمن تنادي وقد قرحت فؤادي.

فعاد الحسين إلي القوم فحمل عليهم وكانت الرجال تشدّ عليه فيشدّ عليها، فتنكشف عنه انكشاف المعزي إذا حلّ فيها الذئب، حمل علي الميمنة وهو يقول:



المـــــوت خير من ركوب العار

والعــــار أولي من دخول النار



وحمل علي الميسرة وهو يقول:



أنــــــا الحســــــين بـــــن علي

آليـــــــت أن لا أنـــــــثــــــــني



أحــــــمي عــــــيالاتُ أبــــــــي

أمضــــــي عـــــلي ديــن النبي



فجعلوا يرشقونه بالسهام والنبال حتي صار درعه كالقنفذ، فوقف ليستريح ساعة وقد ضعف عن القتال فبينما هو واقف إذ أتاه حجرٌ فوقع علي جبهته، فاخذ الثوب ليمسح الدم عن عينه فأتاه سهم محدّد مسموم له ثلاث شعب فوقع السهم في صدره علي قلبه، فقال الحسين: بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلي ملّة رسول الله، ثم رفع رأسه إلي السماء وقال: الهي إنك تعلم أنّهم يقتلون رجلاً ليس علي وجه الأرض ابن نبيّ غيره.

ثم أخذ السهم وأخرجه من قفاه فانبعث الدم كالميزاب، فوضع يده علي الجرح فلما امتلأت دماً رمي به إلي السماء، ثم وضع يده علي الجرح ثانياً فلما امتلأت لطّخ به رأسه ولحيته وقال هكذا أكون حتي ألقي جدّي رسول الله وأنا مخضوب بدمي أقول: يا رسول الله قتلني فلان وفلان.

فعند ذلك طعنه صالح بن وهب علي خاصرته طعنة، فسقط عن فرسه علي خده الأيمن وهو يقول: بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلي ملّة رسول الله، ثم جعل يجمع التراب تحت يده كالوسادة فيضع خدّه عليها ثم يناجي ربّه قائلاً:

صبراً علي قضائك وبلائك، يا رب لا معبود سواك، ثم وثب ليقوم للقتال فلم يقدر، فبكي بكاءاً شديداً، فنادي: وا جدّاه وا محمّداه، وا أبتاه وا عليّاه، وا غربتاه وا قلّة ناصراه، ءأقتل مظلوماً وجدّي محمد المصطفي؟ ءأذبح عطشانا وأبي عليّ المرتضي؟ ءأترك مهتوكاً وأمي فاطمة الزهراء؟

ثم خرجت زينب من الفسطاط وهي تنادي: وا أخاه، وا سيداه، وا أهل بيتاه، ليت السماء أطبقت علي الأرض، ليت الجبال تدكدكت علي السهل، اليوم مات جدّي اليوم ماتت أمي.

ثم نادت: ويحك يابن سعد أيقتل أبو بعد الله وأنت تنظر إليه؟ فلم يجبها عمرو بشيء، فنادت: ويحكم أما فيكم مسلم؟ فلم يجبها أحد.

ثم انحدرت نحو المعركة وهي تقوم مرّة وتقعد أخري، وتحثو التراب علي راسها حتي وصلت إلي الحسين فطرحت نفسها علي جسده وجعلت تقول:

ءأنت الحسين أخي؟

ءأنت ابن أمي؟

ءأنت حمانا؟

ءأنت رجانا؟

والحسين لا يرد عليها جواباً، لأنه كان مشغولاً بنفسه، فقالت: أخي بحق جدّي إلا ما كلّمتني، وبحق أبي أمير المؤمنين إلا ما خاطبتني، يا حشاش مهجتي كلّمني يا شقيق روحي، ففتح الحسين عينه. فعند ذلك جلست زينب خلفه وأجلسته حاضنة له بصدرها، فالتفت إليها الحسين وقال: أخيّة كسرتِ قلبي وزِدتني كرباً فوق كربي، فبالله عليك إلا ما سكتِ وسكنتِ.

فصاحت: وا ويلاه يابن أمي كيف اسكن واسكت وأنت بهذه الحالة تعالج سكرات الموت؟

روحي لروحك الفداء، نفسي لنفسك الوقاء

فخرج عبدالله بن الحسن وهو غلامٌ لم يراهق من عند النساء، فشدّ حتي وقف إلي جنب عمّه الحسين، فلحقته زينب بنت علي لتحسبه، فقال لها الحسين: احبسيه يا أختي فابي وامتنع عليها امتناعاً شديداً وقال: والله لا أفارق عمي، واهوي أبحر بن كعب إلي الحسين بالسيف فقال له الغلام: ويلك يابن الخبيثة أتقتل عمّي فضربه أبحر بالسيف فأتقاه الغلام بيده وأطنّها الي الجلد فإذا هي معلّقة، ونادي الغلام: يا عمّاه يا أبتاه فأخذه الحسين فضمّه إليه وقال: يابن أخي صبراً علي ما نزل بك واحتسب في ذلك الأجر فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين فرماه حرملة بسهم فذبحه في حجر عمّه الحسين.

ثم صاح عمر بن سعد بأصحابه: ويلكم إنزلوا وحزّوا رأسه، وقال لرجل: ويلك إنزل إلي الحسين وأرحه. فأقبل عمرو بن الحجاج ليقتل الحسين فلمّا دني ونظر إلي عينيه ولّي راجعاً مدبراً، فسألوه عن رجوعه؟ قال: نظرتُ إلي عينيه كأنهما عينا رسول الله. واقبل شبثُ بن ربعي فارتعدت يده ورمي السيف هارباً، فعند ذلك أقبل شمرٌ وجلس علي صدر الحسين ووقعت المصيبة الكبري التي يعجز القلم عن وصفها.



يـــــا قـــــــتيلاً قوّض الدهر به

عمـــــد الـــدين وأعلام الهدي



قتــــلوه بــــعد عـــــلم مــــنهم

إنـــــه خــــامس أصحاب الكسا



وا صــــريعاً عـــالج الموت بلا

شدّ لحيــــيـــــــن ولا مـــدّ ردا



غـــــسّلوه بـــــدم الطـــعن وما

كفّـــــنوه غـــــير بوغاء الثري



ألا لعنة الله علي القوم الظالمين

كربلاء المقدسة ـ العراق

كتبه محمد كاظم القزويني