بازگشت

خروج الحسين من مكة


وخرج الحسين من مكة نحو العراق يوم الثامن من ذي الحجة، ومنعه جماعة من التوجه نحو العراق وأحدهم عبدالله بن العباس (حَبْر الأمّة) فقال له الحسين: يابن عباس: إن رسول الله أمرني بأمرٍ أنا ماضٍ فيه.

فقال: بماذا أمرك جدّك؟

فقال الحسين: أتاني جدّي في المنام وقال: يا حسين أخرج إلي العراق فإن الله شاء أن يراك قتيلا.

فقال ابن عباس: إذن فما معني حملُك هؤلاء النساء معك؟

فقال الحسين: هنّ ودائع رسول الله ولا آمنُ عليهنّ أحدا، وهنّ أيضاً لا يُفارقنني.

وخرج الحسين قاصداً الكوفة، وفي أثناء الطريق التقي به سريّة من الجيش تتكوّن من ألف فارس بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي، وأرادوا إلقاء القبض علي الحسين وإدخاله الكوفة علي ابن زياد، إلا أن الحسين امتنع من الانقياد لهم، فتمّ القرار علي أن يسلك الحسين طريقاً لا يدخله الكوفة ولا يردّه إلي المدينة، فوصل إلي ارض كربلاء فنزل فيها.

وقام ابن زياد خطيباً في الكوفة وقال: من يأتيني براس الحسين فله الجائزة العظمي، وأعطه ولاية ملك الرّي عشر سنوات. فقام عمر بن سعد بن أبي وقاص وقال: أنا.

فعقد له رايةً في أربعة آلاف رجل، واصبح الصباح، وأولُ راية سارتْ نحو كربلاء راية عمر بن سعد، ولم تزل الرايات تتري حتي تكاملوا في اليوم التاسع من المحرم ثلاثين ألفاً أو خمسين ألفاً أو أكثر من ذلك.

وحالوا بين الحسين وأهل بيته وبين ماء الفرات من اليوم السابع من المحرم، ولما كان اليوم التاسع اشتدّ بهم العطش، واشتدّ الأمر بالمراضع والأطفال الرضّع.

قالت سكينة بنت الحسين: عزّ ماؤنا ليلة التاسع من المحرّم فجفّت الأواني ويبست الشفاه حتي صرنا نتوقّع الجرعة من الماء فلم نجدها، فقلت في نفسي أمضي إلي عمّتي زينب لعلّها ادّخرت لنا شيئاً من الماء، فمضيتُ إلي خيمتها فرأيتها جالسة وفي حجرها أخي عبدالله الرضيع وهو يلوك بلسانه من شدّة العطش وهي تارة تقوم وتارة تقعد، فخفقتني العبرة فلزمتُ السكوت، فقالت عمتي: ما يُبكيك؟ قالت: حال أخي الرضيع أبكاني، ثم قلت: عمتاه قومي لنمضي إلي خيم عمومتي لعلّهم ادّخروا شيئاً من الماء، فمضينا واخترقنا الخيم بأجمعها فلم نجد عندهم شيئاً من الماء، فرجعت عمّتي إلي خيمتها فتبعتها وتبعنا من نحو عشرين صبياً وصبيّة، وهم يطلبون منها الماء وينادون: العطش.. العطش.

وآخر راية وصلت إلي كربلاء راية شمر بن ذي الجوشن في ستة آلاف مساء يوم التاسع، ومعه كتاب من ابن زياد إلي ابن سعد، فيه: فإن نزل الحسين وأصحابه علي حكمي واستسلموا فابعث بهم إليّ سلما، وإن أبوا فازحف إليهم حتي تقتلهم، فإن قتلت حسيناً فأوطئ الخيل صدره وظهره... إلي آخره.

فزحف الجيش نحو خيام الحسين عند المساء بعد العصر، واقترب نحو خيم الحسين، والحسين جالس أمام خيمته، إذ خفق برأسه علي ركبتيه، وسمعت أخته زينب الكبري بنت أمير المؤمنين الصيحة فدنت من أخيها وقالت: يا أخي أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت؟

فرفع الحسين رأسه وقال: أخيّة: أتي رسول الله الساعة في المنام فقال لي: إنك تروح إلينا.

فلطمتْ أخته وجهها وصاحت: واويلاه، فقال لها الحسين: ليس الويل لك يا أخيّة، ولا تُشمتي القوم بنا، اسكتي رحمك الله. فقال له العباس بن عليّ: يا أخي قد أتاك القوم فانهض.

فنهض ثم قال: يا عباس اركب ـ بنفسي أنت ـ يا أخي حتي تلقاهم وتقول لهم: ما لكم وما بدا لكم؟ وما تريدون؟

فأتاهم العباس في نحو عشرين فارساً، فقال لهم العباس: ما بدا لكم وما تريدون؟

قالوا: قد جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا علي حكمه أو نناجزكم.

فرجع العباس إلي الحسين وأخبره بمقال القوم، فقال الحسين: ارجع إليهم، فإن استطعت أن تؤخّرهم إلي غد، وتدفعهم عنّا العشيّة لعلّنا نُصلّي لربّنا الليلة، وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني قد كنت أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه.

فمضي العباس إلي القوم وسألهم ذلك، فأبوا أن يمهلوهم، فقال عمرو بن الحجاج الزبيدي: ويلكم والله لو أنهم من الترك والديلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم فكيف وهم آل محمد؟!

وبات الإمام الحسين وأصحابه وأهل بيته ليلة عاشوراء، ولهم دويٌّ كدويّ النحل، ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد.