بازگشت

العطاء


و الأساس الثاني في تقييم دم الشهيد: العطاء و التضحية؛ فالشهيد يعتبر قمة في العطاء و التضحية، و ليس بعد هذه القمة قمة، فان الجود بالنفس أقصي غاية الجود.

و الشهيد يبذل لله تعالي كلما يملك، و لا يدخر لنفسه شيئا -، فحقيق أن يرزقه الله كل ما يتمني من رحمته.

و ما أروع ما نقل عن السيد مهدي بحر العلوم رحمه الله حيث لفت نظره كثرة ما يروي من الثواب لمن زار الحسين عليه السلام فسأل استاذه عن سر ذلك. فقال له:

ان الحسين عليه السلام عبد فقير من عباد الله، أعطي كل ما يملك لله من غير تردد، و حقيق بالله و هو الغني المطلق الذي لا حدود لخزائن رحمته، أن يعطيه من خزائن رحمته من غير حساب و فوق حساب الحاسبين.


و العطاء هو التصديق العملي للايمان. فمن الناس من لا تصدق أعمالهم ايمانهم... اذا وقفوا في مواجهة أئمة الكفر و في مواجهة المنكرات، و ليس دائما ينشأ هذا التخالف بين الايمان و العمل من الغموض و الشك - و ان كان يؤدي اليه دائما - و انما ينشأ أحيانا عن ضعف في النفس، و حب للدنيا، و ايثار للعافية، فيتخلف الموقف العملي للانسان عن ايمانه و عقيدته، و تكون نتيجته الشح و البخل.

و القرآن الكريم دقيق في تعبيره عن العلاقة بين الايمان النظري و الصدق في الموقف العملي، حيث يقول تعالي: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليهم فمنهم من قضي نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا). [1] .

فليس كل المؤمنين صادقين في العمل، و الفعل، في عهودهم مع الله تعالي، بل منهم الصادقون و منهم غير ذلك، رغم انهم مؤمنون، لكنهم لم يصدقوا ما عاهدوا الله عليه، و تخلفوا في العمل عن الايمان، و هذا النموذج من الناس شائع في مجتمعنا اليوم، و في التأريخ.

ان التضحية تعتبر أعلي درجات التفاعل النفسي و العاطفي مع الايمان و العقيدة.

ان الايمان قد يكون ايمانا عقليا مجردا ذا صبغة عقلية رياضية خالصة، ايمانا أكاديميا لا يغير شيئا من واقع حياة الانسان و لا يصنع حبا و لا بغضا و لا ولاء و لا براءة، و ليس له جذب و لا دفع في حياة الناس، و هذا هو ايمان الفلاسفة، الذين يعرفون الله من خلال المعادلات و القوانين الفلسفية، ايمان الفارابي و ابن سينا و ديكارت و ايمانوئيل كانت.


أما ايمان الشهداء فشي ء آخر يختلف عن هذا الايمان، انه عملة ذات وجهين: وجه للعقل و وجه آخر للعاطفة و الحب و الشوق و الولاء و الحب و العطاء و الايثار و الفعل و الانفعال.

ترق العاطفة حتي تكون حبا، و يسمو البذل حتي يكون تضحية. و ما أجمل كلام هذا الشاعر الذي يحدثنا علي لسان الحسين عليه السلام في مناجاة و الهة مع الله تعالي يوم عاشوراء علي مسرح الحب و الشهادة:



تركت الخلق طرا في هواكا

و ايتمت العيال لكي أراكا



فلو قطعتني في الحب اربا

لما مال الفؤاد الي سواكا



ايمان الشهيد خليط من هذين الأمرين معا: ايمان وحب، ايمان يصدق الحب، و حب يصدق الايمان، مزيج من العقل و العاطفة يمزج بين منطق الفلاسفة و الحكماء و عاطفة المحبين الوالهين.

دم الشهيد تعبير رائع عن هذا المزيج المقدس من العقل و الحب، من منطق الحكماء، و وله المحبين، و من استحكام العقل و قوته و جاذبية الحب و فورانه.

و هذا التفاعل النفسي هو الذي يؤهل النفس للعطاء و التضحية. ان العقل وحده، و الايمان وحده لا يكفي ليبلغ الانسان هذا المستوي الرفيع من تجاوز الذات، و الايثار، و التضحية.

ولكي يبلغ الانسان هذه القمة من الكمال لابد له من مدرسة اخري و منطق آخر و اعداد آخر؛ و هي مدرسة الحب و منطق المحبين. و العطاء الذي يكون الشطر الآخر من شخصية الشهيد: نابع من هذا النبع.

و هذان الأساسان (اليقين و العطاء) هما الأساس و المفتاح لفهم قيمة الشهيد و دوره في تحريك المجتمع، و لابد من أن نبسط القول في هذه النقطة بعض البسط.



پاورقي

[1] الاحزاب / 23.