بازگشت

معني النصر و الهزيمة


و قبل أن نسترسل في الحديث عن الضمانة الالهية لدم الشهيد و مواكب الشهداء في التأريخ، و وعد الله تعالي لهم بالنصر و التأييد و الغلبة علي معسكر الجاهلية، لابد أن نقف هنا وقفة قصيرة لنقول:

ان هذا النصر ليس بالمعني العسكري للنصر، فقد كان بنوأمية هم المنتصرين يوم الطف علي معسكر الحسين عليه السلام، لو كنا نقصد بالنصر هذا المعني الذي يفهمه الناس من النصر عادة، ولكننا عندما نتجاوز الشعاع المنظور للمعركة، و الأبعاد العسكرية و السياسية القريبة لها نجد أن الحسين عليه السلام قد تمكن من


اسقاط يزيد و اسقاط القناع عن وجهه كأميرللمؤمنين، و فضحه، و مصادرة الشرعية التي حاول أن يسبغها علي نفسه، و القواعد التي كان يستند اليها، و انهاء خطه السياسي في تحريف الاسلام عن مجراه الصحيح.

و هذا هو كل ما كان يريده سيدالشهداء عليه السلام في صراعه مع يزيد، فلم يكن الحسين عليه السلام يطلب حكما أو سلطانا عاجلا، و قد كان علي بينة من أمره هذا، عندما خرج من الحجاز الي العراق، و انما كان يريد أن يعري يزيد أمام المسلمين، و يسقط القناع عن وجهه، لئلا يتمكن من تحريف مسيرة الاسلام و تحويله الي ملك عضوض - كما يقول رسول الله صلي الله عليه وآله - و قد استطاع الحسين عليه السلام أن يحقق بالدقة كلما يبتغيه من خروجه علي يزيد.

ان المعركة التي خاضها سيدالشهداء الحسين عليه السلام لم تكن تستهدف أهدافا عسكرية أو اقتصادية لنقيس نجاح المعركة و فشلها بما حقق من أغراض عسكرية أو اقتصادية، و انما كانت معركة حضارية، فقد استطاعت الجاهلية الاموية التي هزمها الاسلام أن تتسلل الي مراكز القيادة في المجتمع الاسلامي من جديد بكل أبعادها و تراثها الجاهلي، و كان هدف الحسين عليه السلام هو ايقاف هذا المد الجاهلي الذي بدأ يمتد الي جسم الاسلام و باسم الاسلام، و صده، و فضحه و تعريته، و قد حققت ثورة الحسين عليه السلام كل ما كان يريده في هذه الحركة المباركة.

لقد أسقطت شهادة أبي الشهداء عليه السلام و أهل بيته و أصحابه القناع عن وجه يزيد، و عرته تماما للمجتمع الاسلامي و للتأريخ، و انتزعت منه و ممن خلفه الشرعية التي كان يحرص عليها هؤلاء، فلم يعد يزيد و خلفه من حكام بني امية يشكلون خطرا علي اصول هذا الدين و فروعه و خطه، و مقاييسه و تراثه.

و قد تولي الله تعالي قضية هذه الدماء و رسالتها و ثار لها و حقق قضيتها، لو أننا


فهمنا النصر بمعناه العميق الحضاري و التأريخي، و ليس الفوز في جولة عسكرية، و ليس من الصحيح أن نقيس النصر و الهزيمة بمقياس النجاح و الفشل في جولة عسكرية، و لو أردنا أن نفهم النصر و الهزيمة في هذه الدائرة الضيقة و بمثل هذا الفهم المحدود لم نستطع أن نفهم حركة التأريخ و سنن الله في التأريخ؛ فقد يربح أحد الاطراف جولة من المعركة و لا يكون منتصرا بالمعني البعيد و الحضاري لهذه الكلمة؛ و قد يخسر أحد الاطراف الجولة و الجولتين في المعركة و لن يكون مهزوما؛ و قد يربح الطرف الذي يحسن اللعب علي الحبال، و يحسن شراء و بيع الضمائر و يحسن الخيانة و تجاوز القيم، ولكنه لن يكون منتصرا؛ و قد يخسر الطرف الذي يثبت عند القيم و المبدأ الجولة الواحدة و الثانية و الثالثة في المعركة و تكون له العاقبة المحمودة و النصر.

اذن لا يقاس النصر بهذه المقاييس الآنية و الوقتية و انما بتحقيق الأهداف و الغايات الحضارية؛ و الحسين عليه السلام بهذا المقياس قد انتصر علي يزيد، و قبله أخوه الحسن المجتبي عليه السلام علي معاوية، و قبلهما أبوهما علي بن أبي طالب عليه السلام علي معاوية، و هذا هو المقياس الصحيح لمعرفة النصر و الهزيمة،و هذا الذي نقصده نحن من النصر في الصراع الخالد بين الاسلام و الجاهلية الذي يضمنه الله تعالي للصالحين من عباده.