بازگشت

الامام الحسين ثورة ضد العسكر


وهناك درس آخر تجب الاشارة اليه في سياق الحديث عن الثورة الحسينية، فنحن عندما نقول بأن الامام الحسين (ع) تحول الي ثورة فاننا نعني انه (ع) ثار ضد حالة الانهيار ومسيرة التراجع التي بدأت تدب في الامة الاسلامية بشكل سريع خاصة في عصره (ع).

وقبل الخوض في هذا الحديث لابد الحديث عن الفتوحات الاسلامية التي أذهل المراقبين عبر التاريخ، لانها كانت حركة سريعة ومفاجئة وسهلة، والمسلمون حينما عبروا السهول والهضاب والجبال والبحار من كل جهة وفي كل الابعاد. انسياب الماء النازل من الجبل، بدءاً بفتح اليرموك والحيرة في جانبي الجزيرة وانتهاءاً بسقوط الامبراطورية الفارسية، وكذلك اقتطاع أجزاء كبيرة من الامبراطورية البيزنطية في آسيا وافريقيا، أما في زمن الامام الحسين (ع) فكانت الفتوحات الاسلامية تتجه الي هند.

من الطبيعي ان الذي يقوم بهذه الفتوحات هو الجيش فان القوة المسلحة، والقوة الغازية، والقوة الفاتحة هي التي تكتب أكثر الانتصارات للامة التي مازالت تحمل في قلبها ذكريات ايام الجوع والعطش داخل الجزيرة العربية، بيد ان هذه القوي لابد أن تغتر بنفسها وتفتش عن دور لها في ادارة البلاد وسياسته، مع العلم بأن القوة العسكرية اذا دخلت البلاد أفسدتها لانها تريد أن تحكم فيها بمنطق حكمها (أي منطق السيف والحرب والمعارك الدامية) وهكذا جرت الامور في الامة الاسلامية، وكل حضارة في العالم تمر بهذا الدور، أو هذا المنعطف الحساس، فالحضارة لابد أن تدعم القوات المسلحة باعتبارها الدرع الواقي ضد الاعداء، ولكن ما أن تدعم هذه القوات حتي تتعرض لخطر داهم عليها.

ان هذه المعضلة الحضارة كانت موجودة عند كل الحضارات فاذا كانت في الامة بقية ارادة تتجلي في نهضة.. تتجلي في سلطة قوية أو في جماهير أقوياء، اذا كان ذلك موجوداً (النهضة والقيادة والجماهير الاقوياء) فان القوة العسكرية الموجودة علي الحدود لا تستطيع أن تنكفأ الي الداخل وتحطم ما حققته في الخارج، وإلا فان هذه القوة التي اكتسبت الانتصارات لهذه الامة هي التي ستهدم كل ما بنته بيدها، والله سبحانه وتعالي يوضح لنا جانباً منها في قصة عاد قال تعالي:

«وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون - واذا بطشتم بطشتم جبارين - فاتقوا الله وأطيعون - واتقوا الذي أمدّكم بما تعلمون - أمدّكم بأنعام وبنين - وجنات وعيون - اني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم» (129/135/الشعراء).

ان هوداً-عليه السلام-أراد أن ينبههم قائلاً: ان هذه القوة التي تملكونها من الله تعالي وان استخدامكم لهذه القوة في طريق البطش والارهاب والاحساس بالخلود سوف يضركم، وسوف يأخذكم الله بعذاب عظيم بسببها.

ان ثورة الامام الحسين (ع) لم تكن بعيدة كل البعد عن هذا المضمون، فلم يرد الامام الحسين (ع) أن يخضع للارهاب أو لسلطة القوة، ولم يرد أن يأتي العسكر الذين فتحوا أطراف البلاد للحكم.

وبدراسة التاريخ نجد ان النظام الاسلامي (مع قطع النظر عمن كان يسود النظام) أي المؤسسة السياسية في الدولة الاسلامية كانت منتبهة لهذا الخطر فكان كل قائد عسكري يحرز الانتصار يعزل لكي لا يفتتن الناس به، وها نحن أمام ظاهرة جديد من هذا النوع.

ان يزيد لكي يعمل علي تركيز سلطته اعتمد علي القادة العسكريين الذي فتحوا البلاد، فوزع عليهم الاراضي، وأمّا عمر بن سعد فمناه بملك الري ان انتصر علي الامام الحسين (ع)

كما ان معاوية بن أبي سفيان بعث الي مصر عمر بن العاص الذي كان يوماً ما قائداً فاتحاً لمصر، أي حكم القيادة العسكرية ضد إرادة الجماهير، هكذا كان يزيد امتداداً لمعاوية، وابن زياد كان امتداداً لزياد بن أبيه وكان عمر بن سعد امتداداً لسعد بن أبي وقاص الذي كان أحد القادة الذين فتحوا العراق، وعمر بن سعد ابنه، وهو حاكم باسم أبيه.

وهناك نتيجة وهي ان الاستقراطية الاجتماعية في النظام الاموي كانت تورث الرتب العسكرية، فمن كان أبوه قائداً فانه يرثه من بعده، وهذا أغرب نوع من الارث، لان هذا ابن القائد الفلاني فينبغي أن يصبح هذا قائداً، وها هو عمر بن سعد ورث أباه قيادة الجيش المعد للغزو والفتح وها هو ابن زياد يهدد أهل الكوفة بجيش الشام، وقد قام قبل شهر واحد من واقعة كربلاء بالضبط بانقلاب عسكري في الكوفة التي هدّدها بحاميات من الجيش الشامي حيث كان يخوفهم به للقضاء علي إرادة الجماهير وهذا انقلاب عسكري بكل معانيه، وهذا الانقلاب حوّل القوة العسكرية التي بنيت لفتح البلاد الاخري الي قوة لقهر إرادة الجماهير، والامام الحسين (ع) قاوم هذا التحول من أجل مصلحة الامة الاسلامية ومصلحة تاريخها ونجح في ذلك وأعاد القيادات العسكرية الي ثكناتها، وهذا وجه من العلاقة بين قيام الامام الحسين (ع) وبين قيام الانبياء (ع) كهود وصالح الذين قاوموا الجبارين، ومن الغريب أن أصحاب الامام الحسين (ع) يعلمون ان عظمة حركتهم وانها امتداد لحركة الأنبياء (ع) وان البطش وغرور القوة والعسكرتارية يجب ان تحطم في كربلاء والدليل علي معرفتهم بذلك هي بعض أقوال الامام الحسين-عليه الصلاة والسلام-وأصحابه. جاء حنظلة بن سعد الشامي فوقف بين يدي الامام الحسين(ع) يقيه السهام والرماح والسيوف ويتلقاها بوجهه ونحره، وأخذ ينادي ياقوم اني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب.. ويا قوم اني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين مالكم من الله من عاصم.. يا قوم اني أخاف مثل يوم الاحزاب، مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلماً للعباد يا قوم لا تقتلوا حسيناً فسيحكم الله بعذاب وقد خاب من افتري.

هكذا ينصحهم ويذكرهم بمصير الاقوام السابقة الذين كانوا في ذات الخط.. وهكذا نجد مثل هذه الكلمة تتكرر عند الآخرين من أصحاب الامام الحسين (ع) فمثلاً جاء سعيد بن عبد الله الحنفي وتقدم أمام الحسين (ع) فصار هدفاً لنبالهم حتي سقط علي الارض وهو يقول (اللهم العنهم لعن عاد وثمود.. اللهم أبلغ نبيك (ص) عني السلام وأبلغه ما لقيته من الجراح فاني أردت بذلك نصرة ذرية نبيك) ثم استشهد (رضوان الله عليه) فوجد به ثلاثة عشر سهماً سوي ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح، فهم يعرفون لماذا يعملون.

هناك شيء أخير نذكره في ختام هذا الموضوع من الدروس في الثورة الحسينية، ان أصحاب الامام الحسين (ع) كانوا يعرفون انهم يحبون الجنة ويبتغون دخولها، ولكننا في أي عمل نقوم به لابد أن ننوي أن يكون العمل لله حتي يعطينا الله سبحانه وتعالي الاجر ويزكينا، وعلينا أن نسعي لكي لا يدخلنا أدني شك أو ريب في أن هذا العمل لله، ففي الصلاة مثلاً نقول (نويت أن أصلي صلاة الصبح قربة الي الله تعالي) وكذلك في الصوم وغيره من الاعمال فالعمل في سبيل الله أن تسبقه النية مثل سائر الاعمال وهذه النية ذات فائدة كبيرة حتي يصبح العمل خالصاً لله تعالي، إذن يجب في العمل لله سبحانه أن نؤكد لانفسنا ونوحي لها باستمرار بأهمية العمل وان نيته لله تعالي بعيداً عن الذات، فاذا العمل يجب أن يؤدي وبنية خالصة لله ولايجب أن نغضب عندما يقولون لنا بأننا لم نفعل ذلك الواجب، لان الله سبحانه قد كتبه لنا أجراً وثواباً.

ان من أهم الصفات التي يبينها الامام الصادق-عليه السلام-في دعائه لعمه العباس (ع) في كربلاء انه كان علي بصيرة من أمره، فوضوح العمل الذي يقوم به يعطي عملنا قوة وصلابة واستقامة، فنظرة الي أصحاب الحسين (ع) تعرفنا ما لديهم من أفكار يقول هلال بن نافع منشداً:



أنا الغلام البجلي اليمني

ديني علي دين حسين وعلي



ان أقتل اليوم فهذا أملي

فـذاك رأي وألاقي عـملي



انه كان يعمل طول حياته في سبيل الله ليقدم لنفسه في حياته الاخري المثوبات وكان يقول في معني شعر «إنما اقتش عن ذلك الجزاء الذي قدمت له عملاً في هذه الدنيا وهو قتلي هذا اليوم فهذا أملي وهو رأي وألاقي غداً عملي».

وهذا رجل آخر من أصحاب الامام الحسين (ع) ويبدوا انه كان من أصحاب البصائر وهو (شوذب) وهو مولي لأبي شاكر، يأتي هذا الرجل الامام الحسين(ع) فيقول له: «يا أبا عبد الله أما والله ما من أحد علي وجه الأرض قريب أو بعيد أعز عليّ، وأحب اليّ منك، ولو قدرت علي أن أدفع عنك قتل أو الضيم بشيء أعز علي من نفسي ودمي لفعلت» ثم قال: «السلام عليك يا أبا عبد الله أشهد اني علي هداك وعلي هدي أبيك» ثم مضي بالسيف نحو القوم وقاتل حتي قتل، وكان بعض أصحاب الامام الحسين (ع) في أرجوزاتهم لا ينتسب الي نفسه بل الي امامه، وكان البعض يؤكد علي انه يبحث عن الجنة فسعد بن حنظلة التميمي ينزل ساحة الصراع وهو ينشد هذه الابيات قائلاً:



صبراً علي الأسياف والأسنة

صبراً عليها حتي دخول الجنة



وحـور عين ناعـمات هن

لمـن يريد الفوز لا بالظنة



يا نفس للراحـة فـاجهدن

وفي جـلاب الخير فارغبن



انه كان يعلم جيداً ان دخول الجنة ليس بالاماني إنما يجب أن يصبر علي السيوف والاسنة ليدخل الجنة، ومن ضمن أرجوزاتهم يخاطب نفسه: ارغبي في الراحة ولكن الراحة لا تأتي إلا بالتعب، وأرغبي في طلب الخير فان الجنة خير والجزاء خير.

وهناك قصة معروفة «جري مزاح بين مسلم بن عوسجة وحبيب بن مظاهر -رضوان الله عليهما- فقال حبيب: يا مسلم الآن ليس وقتها، نحن في حالة حرب والأعداء يحيطون بنا من كل مكان، فقال له مسلم أتعلم انني لم أكن أحب الهزل في شبابي ولا في كهولتي وأنا شيخ كبير، ولكن اذا أردت الحقيقة، اليوم وقت المزاح اليوم وقت الهزل ان كان هذا هزلاً، فيقول حبيب: كيف ذلك؟!! فيقول له: لايوجد بيننا وبين الجنة وعناق الحور العين إلا ساعات نقترب منهم ونعالجهم ويعالجوني بالسيوف فنستشهد في سبيل الله، ونذهب الي مقرنا الابدي عند الله سبحانه وتعالي.

وما أعظمها من دروس كتبها أصحاب الامام الحسين (ع) بدمائهم وعظماء أولئك الذين يستوحون الدروس من مدرسة كربلاء ومن أصحابها. حيث كانت مزدحمة بالتلاميذ عبر التاريخ من كل حدب وصوب، ومن كل فئة، ومن كل لون من ألوان الناس ولكن يجب علينا أن نسجل أنفسنا منذ هذه اللحظة، أو نجدد تسجيلنا في هذه المدرسة، ونسعي من أجل أن نصبح الافراد الممتازين في هذه المدرسة، وذلك أملنا من الله الذي نبتهل اليه سبحانه من أجل تحقيقه.