بازگشت

ما أحب الباطل شابا و لا كهلا


في ليلة العاشر من المحرم، ضرب للحسين (ع)، فسطاط، ليطلي بالمسك و النوره، و لما دخله وقف برير بن خضير الهمداني و عبدالرحمن ابن عبد ربه الانصاري تختلف مناكبهما، يتضايقان، ليسبق كل واحد صاحبه الي فاضل المسك، فيفوز بما لمسته أنامل الطهر و القداسة، فيعبق نشره مع نشر الدم الزكي، دم الشهادة و التضحية، قال: راوي الحديث: فاخذ برير يهازل عبدالرحمن و يضاحكه فأجابه عبدالرحمن دعنا، فوالله ما هذه بساعة باطل. قال برير: و الله لقد علم قومي أني ما أحببت الباطل شابا و لا كهلا. ولكني لمستبشر بما نحن لاقون، و الله ما بيننا و بين الحور العين الا ان يميل علينا هؤلاء بأسيافهم، و وددت أنهم مالوا علينا الساعة.

ان الباطل في عرف القديسين مثل عبدالرحمن و برير ان يختار الانسان الحسن مع القدرة علي الاحسن، فذكر الله في هذه الساعة التي هي اشبه ما تكون بساعة النزع و تسليم الروح خير من الدعابة، و البكاء اولي من الابتسام، و ما كان عبدالرحمن يجهل بريرا. كيف و قد تخرجا من مدرسة واحدة علي معلم واحد، علي سيد الوصيين و امام المتقين الذي كان يلقنهم دروس الكمال بافعاله قبل اقواله، و يعلمهم أن الاستخفاف بصغير الذنوب من اكبر الذنوب، لانه استخفاف بالله و شرائعه و قوانينه!.

لم تكن تلك الدروس التي تلقاها برير و عبدالرحمن عن المعلم الاعظم


الفاظا تذروها الرياح، و اصواتا لا تتجاوز الآذان، بل هي بذور تغرس في النفس فتحيا و تنمو الي أن تصبح غرائز و ملكات تحرك أربابها، و تقودهم الي مرضاة الله و رضوانه.

لقد عرف عبدالرحمن بريرا كهلا و ما عرفه شابا، و الشباب مظنة الوقوع في الخطايا، فنفي برير الطيب الذي لم يلغ في حياته كلها بالفاظ اللهو و العبث، نفي عن نفسه هذه المظنة بحجة لا تعادلها حجة في القوة و الصدق - و الله لقد علم قومي أني ما احببت الباطل شابا و لا كهلا - و اي حجة اقوي في الدلالة، و اصدق في الشهادة علي سير الانسان و سلوكه من شهادة قوم و عشيرته الذين صاحبوه كبيرا و صغيرا، و خالطوه غنيا و فقيرا، و رأوا افعاله، و سمعوا اقواله في جميع أطواره و أدواره في سره و علانيته، و رضاه و غضبه، و حزنه و سروره، و نعيمه و بؤسه، لقد تمكن برير من نفسه و تغلب علي شهواته في دور شبابه، دور طفولة العقل، و الاستسلام الي الملذات و الاهواء، فهو كامل في شبابه، كامل في كهولته، لم يرتكب منكرا و لم يقترف سيئة لا اولا و لا آخرا. و ما أحب باطلا ألبتة، و هؤلاء قومه و عارفوه، يشهد كبيرهم و صغيرهم أنه منذ صغره اهتدي الي سبيل الرشد و السداد، يستبق الخيرات، و يسارع الي المكرمات، يناصر الحق و العدالة، و يحارب الظلم و العدوان.

و من أقواله و هو في معركة الطف:



يعرف فينا الخير أهل الخير

اضربكم و لا أري من ضير



كذلك فعل الخير من برير

كل خير فله برير




لقد ارتكز حبه الخير، و بغضه الشر علي ايمانه القوي، و عقيدته في شخصيته، و ثباته في عزمه، و ثقته من مقدرته و شجاعته.

كان برير يوم الطف كلما تكررت الفظائع من العدو يقف منذرا و محذرا عاقبة البغي مذكرا بالله تعالي و أهل بيت الرسول (ص) بقول لين خفيف علي النفوس و الاسماع، فما فاه بكلمة في موقف يشعر بهجر او فحش.

فكان في مواقفه كلها متزنا في اقواله كاظما لغيظه معتصما بالصبر و الاناة، لذلك عندما اكثر عليهم القول لم يزيدوا في جوابه حرفا علي قولهم: لقد اكثرت الكلام يا برير.

قال لهم في موقف: يا قوم اتقوا الله فان ثقل محمد (ص) قد أصبح بين أظهركم، و قال في موقف ثان: أفجزاء محمد هذا!؟ و في ثالث لا أفلح قوم ضيعوا ابن بنت نبيهم، أف لهم غدا.

و لما حمل جيش البغي علي الحسين و اصحابه (ع) انقض عليهم برير كالصاعقة يفريهم بسيفه و يقول: أضربكم و لا أري من ضير.

هذه الفاظه، و هذا اسلوبه و خطابه مع قوم ما وضعت الفاظ السباب و اللعن الا للدلالة علي خساستهم. ان تلك الفظائع لم تخلق من برير رجلا غير برير، فهو هو ذاك الوادع المتواضع و الزاهد الخاشع الداعي الي سبيل ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة، و اذا كان برير عظيما فكيف يفوه بالحقير الذي يستطيع النطق به الطفل الصغير، و المرأة الضعيفة، و السفيه الفاجر، اذا كان برير عظيما فليدع الكلام للسيف وحده. برز برير لقتال جيش الظلام و بين جنبيه قلب يستبشر بالموت استبشاره بعناق الحور العين، فلم يدن أحد منه لجشاعته و هيبته، فكان يحمل علي الاعداء و يفرون من بين يديه خشية من لقائه، فيناديهم اقتربوا مني يا قتلة المؤمنين، اقتربوا


مني يا قتلة اولاد رسول رب العالمين، و لما عجزوا عن مقاومته وجها لوجه اغتاله كعب بن جابر بطعنة رمح في ظهره، بعد ان قتل منهم ثلاثين رجلا، فأودت الطعنة بحياته الطاهرة الزكية التي شهد لصاحبها الرجال و النساء من قومه و عارفيه انه ما عرف الباطل شابا و لا كهلا، قال بعض من أعان علي الحسين (ع) لكعب عندما رآه قاصدا اغتيال برير: ويلك هذا الذي كان يعلمنا القرآن، و أقسمت زوجته لدي رجوعه اليها ان لا تكلمه ابدا. لقد لبي برير دعوة ربه و قدم حياته قربانا بين يدي الله و رسوله، و فاز بكرامة الدنيا و الآخرة.

و ذلك هو الفوز العظيم.