بازگشت

لا عمل بعد اليوم


ان الذين رصدوا خطوات الحياة منذ درج الانسان علي وجه الارض، و استعرضوا الماضي يدركون ان جيلنا هذا لم يستقل بخلق المدنية الحديثة و ايجادها، و انما هي نتيجة لازمة لاطراد تقدم الانسان و رقية علي سلم التصاعد منذ وجد حي الآن، فالسلف شريك الخلف في كل ما تحويه المدنية من أفانين و أعاجيب. ان حلقة الاتصال بين الماضي و الحاضر هي وراثة الثاني للاول، في جميع أشيائه المادية و المعنوية، ان حياة الانسان من بدايتها الي نهايتها بناية واحدة، و كل عصر هو حجر في بنائها، اذن نحن نعيش بالماضي و الحاضر معا، كما ستعيش الاجيال المقبلة بنا و بالمستقبل.

لمن هذه الانظمة و القوانين التي ترتكز عليها السياسة؟ و متي نشأت هذه الاديان التي شيدت لها المعابد و المعاهد، و نبتت بذورها و أينعت في كل قلب حتي سيرت الامم و الافراد في مسالكها الخاصة و العامة؟ و أين ارباب هذه الالوف من الكتب التي فرضت نفسها علي الكليات و الجامعات؟ أما منشأ اللغات و تطورها فعلمها عند ربي، فأي مادة تقع عليها العين نجت من يد الماضي! و أي روح لم تسترشد بحكمته و تهتد بسنائه! و كم حوت كنوز آبائنا العرب من جواهر الحكمة، فأضاعها وراثها الاقربون و اتنفع بها الاباعد الغاصبون، و اتخذوا من ثمارها وسيلة الي الكبرياء و التعاظم علينا، و هي لنا و من ميراثنا الذي ذهلنا عنه حتي أصبح فريسة الذئاب.


قرأت في مجلة «المختار» كلمة بعنوان «أطع هذا الحافز» للدكتور وليم مولتون، و هي علي طولها و عرضها تتلخص بجملة نطق بها احد ابطال الطف الذين ناصروا الحسين بن علي، و هو عابس بن ابي شبيب البطل العربي، قالها عندما رأي السيوف و الرماح و السهام و الاحجار تنهال و تتراكم علي الحسين و أهل بيته و اصحابه، فاجج هذا المنظر في نفسه شعلة جعلت الدماء تشب في عروقه كاللهب المضطرم، و خيل اليه ان السماء و الارض قد استحالتا الي دخان و رماد، فنظر الي مولي كان معه يدعي شوذبا، و ناداه يا شوذب ما في نفسك أن تصنع اليوم، قال شوذب: أقاتل حتي أقتل دون ابن رسول الله، قال عابس ذلك الظن بك - انه لا عمل بعد اليوم - حكمة بالغة ليس كمثلها شي ء الا العمل بها، ولو قالها غربي لقرأتها في كل صحيفة و سمعتها من كل لسان، ولكنه منا و عربي مثلنا.

و صدق شوذب القول بالفعل فقاتل حتي قتل، و ماذا فعل عابس الذي نطق بهذه الحكمة الخالدة - لا عمل بعد اليوم - تقدم من الحسين و قال: أما و الله ما أمسي علي وجه الارض قريب او بعيد أحب علي منك، و لو قدرت أن أدفع عنك القتل بشي ء اعز علي من نفسي لفعلت، ثم مضي الي المعركة فعرفه رجل من اصحاب ابن سعد يدعي ربيع بن تميم و كان شاهده مع الامام علي في صفين و رأي منه الاعاجيب، فصاح ربيع بأصحابه، أيها الناس هذا اسد الاسود لا يخرجن اليه احد، فأخذ عابس ينادي الا رجل فهابه القوم، فنادي ابن سعد: ويلكم ارضخوه بالحجارة، فانهالت عليه من كل جانب، فلما رأي عابس ذلك القي درعه و مغفره و شد عليهم؛ قال ربيع رأيته و الله يطرد امامه اكثر من مائتين، ثم تكاثروا عليه فقتلوه، و اختصم الجيش في قتله و ادعاه الجميع، فأصلح ابن سعد بينهم بقوله: هذا لم يقتله واحد، كلكم قاتله، فهدأت الفتنة.

قتل عابس و ضحي بنفسه في سبيل مبدئه و احياء عقيدته، و مات


شهيد الحق و الفضيلة، و بلغ بعمل ساعة ما لم يبلغه غيره بعمل الدهر كله، و حاول ابن سعد أن يصرع الاقمار بالاحجار فهوت علي رأسه و قلبه، ترجمه بها يد التاريخ ما وجد له قارئا او سامعا.

ان نداء - لا عمل بعد اليوم - هو الشعار الوحيد الذي يعبر عن مبدأ شهداء الطف و عقيدتهم التي من أجلها نصبوا مهجهم هدفا للسهام و الرماح دون الحسين، و هل تجدي الاعمال كلها بعد قتل الحسين! اذن العمل كله في هذا اليوم بل في هذه اللحظة التي مازال الحسين فيها حيا.

و قد ندم التوابون بعد قتل الحسين علي تركهم نصرته، فنهضوا و ثاورا و قتلوا، ولكن عملوا بعد قتل الحسين، و لا عمل بعد قتله الا الحسرة و التلهف، قال شاعرهم عبدالله بن الحر:



فيالك حسرة مادمت حيا

تردد بين حلقي و التراقي



فلو فلق التلهف قلب حي

لهم اليوم قلبي بانفلاق



فقد فاز الالي نصروا حسينا

و خاب الآخرون الي النفاق



و هذا تفسير قول ابي الشهداء - لا أري الموت الا سعادة و الحياة مع الظالمين الا ندما - لم يستفد من هذا الدرس الذي هو ابلغ دروس الحياة، سوي أبطال الطف الذين تسابقوا الي الموت بين يدي الحق و الفضيلة فرحين مستبشرين.

و بين هؤلاء الابطال شبه كبير من الوجهة النفسية، فدرس بعضهم يوقفنا علي حقيقة الباقين لا نستثني منهم سوي رجل واحد، هو الضحاك


ابن عبدالله المشرقي، فانه لازم الحسين من أول يوم حتي اذا لم يبق مع الامام الا اثنان الضحاك ثالثهم، استأذن الحسين فأذن له فركب فرسه و نجا، حاول الضحاك ان يلائم بين ارادة الحياة و احترام العقيدة، و أن تسالم كل واحدة جارتها، و لما وقع بينهما العداء و الصراع قدم مصالحه الشخصية علي عقيدته، علي عكس النتيجة التي انتهي اليها الحر الرياحي.

تطوع الحر بن يزيد الرياحي في جيش ابن زياد لحرب الحسين، و لما أيقن ان الحسين مقتول لا محالة انسحب من جيش الكوفة و صحب معه ولده الشاب بكير و انضما الي الامام و قتلا معا بين يديه، لقد كان في الحر حنكة و مرونة الي جانب ايمانه القوي، فحاول ان يؤلف بين ايمانه و تقلبات البيئة و الظروف فقال في نفسه - أصانع القوم بما لا ينفعهم و لا يضر الحسين كي لا يظنوا أني خرجت من طاعة - و لما امتنع عليه الوئام بين احياء العقيدة و ارادة الحياة استجاب الي صوت ضميره الحي و قام بواجب الحق فضحي بحياته و حياة ولده في سبيل احياء ايمانه الصادق.

قدم الحر عقيدته علي حياته، و قدم الضحاك حياته علي عقيدته، و لم يكن هذا الفارق الوحيد بن الرجلين، فقد بعث منظر القتل و القتلي في نفس الحر الشجاعة و الاقدام علي الموت، بينما بعث في نفس الضحاك الجبن الذي أدي به الي الهزيمة و الفرار. فر الضحاك رغبة في البقاء علي نفسه و أهله، و قدم الحر ولده الشاب الي المذبحة طيب النفس. و لما رآه قتيلا يتخبط بدمه قال: الحمدلله يا بني الذي نجاك من القوم الظالمين و من عليك بالشهادة بين يدي امامك.

ان تطوع الحر في جيش ابن زياد و موقفه من الحسين بادي ء ذي بدء لا يدل علي عقيدته و دخيلة نفس السامية، كما ان انضمام الضحاك الي


الامام منذ اللحظة الاولي الي قرب الشوط الاخير لا ينبي ء عن زهده في الشهادة لاجل الحق، بل يشعر بالاقدام و التضحية.

من هذه المقارنة يدرك البصير أن ثوب الوطنية و الطنطنة و التهويل، لا يدل علي الاخلاص و التضحية، كما ان الهدوء و عدم الثرثرة و التشدق بالالفاظ الفارغة لا تكشف عن الخيانة و الجبن ولكن:



اذا اشتبكت دموع في خدود

تبين من بكي ممن تباكي