بازگشت

الحسين ثمرة النبوة


أصبح الحسين (عليه السلام) المثل الأعلي للفداء والتضحية ونبراساً للحق، ومناراً للهدي تستضيء به الأُمة الإسلامية من أجل بناء مـجتمع إسلامي متكامل.

فقد جسَّد قول جده الرسول الأكرم مـحمد (صلي الله عليه وآله وسلم): (عليه السلام)حسين مني وأنا من حسين أحبّ الله من أحبّ حسيناً(عليه السلام) [1] ، وقول النبي (صلي الله عليه وآله وسلم): (عليه السلام)حسين منّي(عليه السلام) بدليل آية المباهلة: فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم... [2] وأما قوله (صلي الله عليه وآله وسلم): (عليه السلام)وأنا من حسين(عليه السلام)، يريد أنّ بقاء شريعته كان بسبب نهضة ولده الحسين (عليه السلام)، ولولا هذه النهضة المباركة لأعاد الأُمويون المسلمين إلي الجاهلية الأولي، وهذا يظهر واضحاً جلياً من خلال سيرتهم، فهذا يزيدهم الطاغي نراه مـجاهراً بكفره، ومظهراً لشركه بقوله:



لـيـت أشياخي ببدرٍ شـهدوا

جزَعَ الخزرج من وقع الأسلْ



قد قتلنا القوم من ساداتهم

وعـدلـنا مـيْل بـدرٍ فـاعـتدلْ



فـأهــلّوا واسـتهـلّوا فـرحاً

ثم قالوا: يـا يـزيـد لا تـشلْ



لستُ من خندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعلْ



لعـبـت هـاشـم بـالمـلك فـلا

خبرٌ جـاء ولا وحي نـزل [3] .



هذا هو المروق من الدين، وقول من لا يرجع إلي الله وإلي دينه ولا إلي كتابه ولا إلي رسوله، ولا يؤمن بالله ولا بما جاء من عند الله، ثم من أغلظ ما انتهك وأعظم ما اخترم سفكه دم الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) مع موقعه من رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ومكانه منه، ومنزلته من الدين والفضل، وشهادة رسول الله له ولأخيه بسيادة شباب أهل الجنة نعم، عمل كل ذلك اجتراءً علي الله، وكفراً بدينه، وعداوةً لرسوله، ومـجاهدةً لعترته، واستهانةً بحرمته، فكأنّما يقتل به وبأهل بيته قوماً من كفار أهل الترك والديلم، لا يخاف من الله نقمةً، ولا يرقب منه سطوةً، فبتر الله عمره، واجتثَّ أصله وفرعه، وسلبه ما تحت يده، وأعدَّ له من عذابه وعقوبته ما استحقه بمعصيته [4] .

ولكن الحسين (عليه السلام) بتلك الدماء الزاكية زلزل عروش الظالمين، وهدَّم طغيانهم، ورست قواعد الدين الحنيف حتي يومنا هذا، وكل ما عندنا من إسلام ومسلمين بفضل تضحية وبطولة الإمام الحسين (عليه السلام)، وأصبح الإسلام مـحمدي الوجود وحسيني البقاء، وهذا ما أكّده وأجمع عليه روَّاد الفكر وحملة العلم في أرجاء المعمورة، حتي قال رئيس جامع الأزهر الشيخ مـحمد عبده: لولا الحسين لما بقي لهذا الدين من أثر. إضافة إلي انعدام الرؤية الواضحة في تمييز الحق، فثورة الحسين هي السبب في بقاء الدين، حيث وقف (عليه السلام) أمام أئمة الفسق والجور والفساد في أرجاء العالم الإسلامي الذين عاثوا في الأرض فساداً، أمثال يزيد بن معاوية المتكبِّر الخميِّر صاحب الديوك والفهود والقرود، وأخذه البيعة له علي خيار المسلمين بالقهر والسطوة والوعيد والإخافة والتهديد والرهبة.

فلا يلام الشيعة الإمامية - أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) - بتـعظيمهم الشعائر الحسينية في أيام عاشوراء، كإقامة الـمراسم التـي تذكِّرنا بثورة الحسين (عليه السلام).

ونري في مقابل ذلك كتب معاوية إلي سائر الأمصار طالباً منهم أن يفدوا عليه ليري رأيهم في بيعة يزيد، وممن حضر - يزيد بن المقُفّع قام فقال: أمير المؤمنين هذا، وأشار إلي معاوية، فإن هلك فهذا، وأشار إلي يزيد، فمن أبي فهذا، وأشار إلي سيفه، فقال معاوية: اجلس فأنت سيد الخطباء [5] .

كتب يزيد بن معاوية إلي الوليد بن عتبة في صحيفة صغيرة كأنّها أُذن فأرة: أما بعد، فخذ الحسين بن علي وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر بن الخطاب أخذاً عنيفاً ليست فيه رخصة، فمن أبي عليك منهم فاضرب عنقه، وابعث إليَّ برأسه [6] .

وكتب الحر إلي ابن زياد يعلمه بنزول الحسين (عليه السلام) بأرض كربلاء: فانظر ما تري في أمره. فكتب عبيد الله بن زياد كتاباً إلي الحسين (عليه السلام) يقول فيه: أما بعد، إنّ يزيد بن معاوية كتب إليَّ أن لا تغمض جفنك من المنام، ولا تشبع بطنك من الطعام أو يرجع الحسين علي حكمي، أو تقتله والسلام.

هذا منطق يزيد بن معاوية وعندما أُدخل نساء الحسين والرأس بين يديه جعلت فاطمة وسكينة تتطاولان لتنظرا إلي الرأس، وجعل يزيد يستره عنهما، فلما رأينه صرخن وأعلن بالبكاء، فبكت لبكائهن نساء يزيد وبنات معاوية، فولولن وأعلن، فقالت فاطمة - وكانت أكبر من سكينة (رضي الله عنهما) -: بنات رسول الله سبايا يا يزيد يسرك هذا؟ [7] .

هذا ونري في مقابل تلك الشعائر موجة إلحادية بكل قواها تحاول طمس معالم الدين والعودة إلي الجاهلية الأُولي، وهذا ما حدث بعد رحيل الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم)، وما صرَّح به أبو سفيان صخر بن حرب في دار عثمان عقيب الوقت الذي بويع فيه عثمان، ودخل داره ومعه بنو أُمية فقال أبو سفيان: أفيكم أحد من غيركم؟ وقد كان عَمِيَ، قالوا: لا، قال يا بني أُمية تَلَقَّفُوها تلقُّف الكرة، فو الذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم، ولتصيَرنَّ إلي صبيانكم وراثة... فقام عمار في المسجد فقال: يا معشر قريش، أما إذ صرفتم هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم هاهنا مرة وهنا مرةً فما أنا بآمِنٍ من أن ينزعه الله منكم فيضعه في غيركم كما نزعتموه من أهله، ووضعتموه في غير أهله.

وقام المقداد فقال: ما رأيت مثل ما أودي به [8] أهل هذا البيت بعد نبيهم، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وما أنت وذاك يامقداد بن عمرو؟ فقال: إنّي - والله - لأُحبّهم لحبّ رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) إيّاهم، وإنّ الحق معهم وفيهم، يا عبد الرحمن أعجب من قريش - وإنّما تطوُّلُّهم علي الناس بفضل أهل هذا البيت - قد اجتمعوا علي نزع سلطان رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) بعده من أيديهم، أما ولايم الله يا عبد الرحمن لو أجد علي قريش أنصاراً لقاتلتهم كقتالي إيّاهم مع النبي (عليه الصلاة والسلام) يوم بدر [9] .

ولما رأي عمر بن الخطاب نزاع القوم علي خلافة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم). قال: هيهات لا يجتمع اثنان في قرن، والله لا ترضي العرب أن يؤمّروكم ونبيُّها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولِّي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمرهم منهم، ولنا بذلك علي من أبي من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان مـحمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته [10] .

وذكر ابن عساكر في تأريخه: لما دخل أبو سفيان علي عثمان بعدما عمي وقال: هل هنا أحد؟ فقالوا: لا. فقال: اللهم اجعل الأمر أمر جاهلية، والملك غاصبيَّة، واجعل أوتاد الأرض لبني أُميَّة.

وجاء في الاستيعاب عن الحسن: أنَّ أبا سفيان دخل علي عثمان حين صارت الخلافة إليه فقال: صارت إليك بعد تيم وعديّ، فأَدرها كالكرة، وأجْعَلْ أَوتادَها بني أُمية، فإنّما هو الملك ولا أَدري ما جَنّة ولا نار [11] .

أبو سفيان بن حَرْب وأشياعه من بني أميّة، الملعونين في كتاب الله، ثم المعلومنين علي لسان رسول الله في عِدّة مواطن، وعدّة مواضع، لماضي علم الله فيهم وفي أمرهم، ونفاقهم وكفر أحلامهم؛ فحارب مـجاهداً، ودافع مكابداً، وأقام منابذاً، حتي قهره السيف، وعلا أمر الله وهم كارهون؛ فتقول بالإسلام غير منطوٍ عليه، وأسرَّ الكفر غير مقلع عنه، فعرفه بذلك رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) والمسلمون، وميّز له المؤلفة قلوبهم، فقبله وولده علي علم منه؛ فمّما لعنهم الله به علي لسان نبيّه (صلي الله عليه وآله وسلم) وأنزل به كتاباً قوله: والشَّجَرةُ الملعُونَةَ في القُرآنِ ونُخوِّفُهُم فما يزيُدهُمْ إلاَّ طُغياناً كَبيراً [12] ولا اختلاف بين أحد أنه أراد بها بني أميّة.

ومنه قول الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وقد رآه مقبلاً علي حمار، ومعاويةَ يقودُ به، ويزيد ابنه يسوق به: (لعن الله القائد والراكب والسائق).

ومنه ما يرويه الرواة من قوله: يا بني عبد مناف تلقّفوها تلقّف الكرة، فما هناك جنة ولا نار. وها كفر صُراح يلحقه به اللعنة من الله كما لحقت الذين الذين كفروا من بني إسرائيل علي لسان داود وعيسي بن مريم ذلك بما عَصَوْه وكانوا يعتدون [13] .

ومنه ما يروون من وقوفه علي ثنيّة أحُد بعد ذهاب بصره، وقوله لقائده: ها هنا ذببنا مـحمداً وأصحابه [14] .

ومن خطبة لعلي (عليه السلام) لما رفع أهل الشام المصاحف علي الرماح: (عليه السلام)عباد الله، إنّي أحقّ من أجاب إلي كتاب الله، ولكنَّ معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وحبيب بن مسلمة وابن أبي سرح ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالاً، وصحبتهم رجالاً، فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال، إنّها كلمة حق يراد بها الباطل، إنّهم - والله - ما رفعوها ثم لا يرفعونها ولا يعملون بما فيها، وما رفعوها لكم إلاّ خديعة ووهن ومكيدة، أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعةً واحدة، فقد بلغ الحق مقطعه، ولم يبق إلاّ أن يقطع دابر الذين ظلموا(عليه السلام) [15] .

ومن كتاب لقيس بن سعد بن عبادة أمير الخزرج إلي معاوية: أما بعد، فإنّما أنت وثني ابن وثني، دخلت في الإسلام كرها، وأقمت فيه فرقاً، وخرجت منه طوعاً، ولم يجعل الله لك فيه نصيباً، لم يقدم إيمانك ولم يحدث نفاقك، ولم تزل حرباً لله ولرسوله وحزباً من أحزاب المشركين، وعدواً لله ولنبيه وللمؤمنين من عباده.

ولو سارت الأُمة الإسلامية في خطي الإمام الحسين (عليه السلام) الذي سار علي نهج جده رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) لكان خيراً للأُمة الإسلامية في نهضتها ومسيرتها.

لعلَّ البعض يتصوّر أنّ نهضته وثورته كانت مـجرد فتنة وقعت بين الظالم يزيد بن معاوية المعلن بالفسق والفجور وبين سبط الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم).

هذا التصور ناشئ من عدم الرؤية التأريخية، فعليه أن يكون جاداً في البحث الدقيق في مـجاري التأريخ وأحداثها التي حدثت في الأُمة الإسلامية بعد رحيل النبي (صلي الله عليه وآله وسلم).

فكل من كانت له بصيرة نافذة يري الحسين (عليه السلام) ريحانة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) وفلذة كبده وسيد شباب أهل الجنة، وقد ترعرع في حجر النبوة والإمامة، وأما يزيد فقد نشأ في أحضان الغواني والفجور والخمور، فلما عُرض علي الحسين (عليه السلام) البيعة ليزيد رفض الحسين (عليه السلام) من البداية قائلاً: (عليه السلام)إنّا أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومـختلف الملائكة، ويزيد رجل فاسق فاجر قاتل النفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله(عليه السلام) هذه الكلمات التي هزَّت عرش يزيد الفجور الذي أباح المدينة ثلاثة أيام بقيادة مسلم بن عقبة المري الذي أخاف المدينة ونهبها، وقَتل أهلها، وبايعه أهلها علي أنّهم عبيد ليزيد، وسماها نتنه، وقد سماها رسول الله طَيْبه، وقال (صلي الله عليه وآله وسلم): (عليه السلام)مَنْ أخاف أهل المدينة أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين(عليه السلام) فسمي مسلم هذا لعنه الله بمجرم ومسرف لما كان من فعله. وكانت وقعة الحرة عظيمة قتل فيها خلق كثير من الناس من بني هاشم وسائر قريش والأنصار، وراح ضحيتها أكثر من أربعة آلاف من سائر الناس ممن أدركه الإحصاء دون من لم يعرف. وافْتُضَّ فيها ألف عذراء، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون. ورميه الكعبة بالمجانيق، فتواردت أحجار المجانيق والعرادات [16] علي البيت، ورمي مع الأحجار بالنار والنفط ومشاقات الكتان... وانهدمت الكعبة، واحترقت البنية، ووقعت صاعقة فأحرقت من أصحاب المجانيق [17] .

وكان سبب خلع أهل المدينة له أنّ يزيد أسرف في المعاصي. وأخرج الواقدي من طرق أنّ عبد الله بن حنظلة بن الغسيل قال: والله ما خرجنا علي يزيد حتي خفنا أن نرمي بالحجارة من السماء! إنّه رجل ينكح أُمهات الأولاد والبنات والأخوات، ويشرب الخمر، ويَدَعُ الصلاة [18] .

وذكر أبو إسحاق الاسفرايني في كتابه: وأما ما كان من أمر يزيد بن معاوية، فإنه أقام بدمشق خليفة مكان أبيه، وأطاعة جميع العربان... وطغي وتجبّر وعمّ ظلمه سائر الأماكن والبلاد، وصار يقتل الأنفس، وينهب الأموال، وبسلبها، وظهر منه الجور والظلم في سائر الأفعال، وقد كان ابن زياد أظلم وأطغي من يزيد، فنزل البصرة بعسكره، وأقام بالكوفة نائباً، يحكم من تحت أمره، وأقام هو بالبصرة بالظلم والجور، وقتل النفس، ونهب الأموال، وقتل جميع الرجال والأبطال، وعم ظلمه سائر العباد [19] .

وإقدامه علي قتل سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي (عليهما السلام) وريحانة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وإخوته وأولاده وأصحابه وسبي نسائه، فأصبح الحسين من أعظم الثائرين انتصاراً وبطولة وتضحية ومدرسة وشعاراً، وراحت كل الأقلام إسلاميةً وغيرها تشيد بكتاباتها بعظمة الحسين (عليه السلام)، أمثال: (انطون بارا) الكاتب المسيحي في كتابه (الحسين في الفكر المسيحي)، يقول: رؤيا الفكر المسيحي لثورة الحسين. دلالة كافية علي إنسانية هذه الثورة، لأنّ هذه الثورة إنسانيةٌ أولاً وآخراً، فالفكر المسيحي يُقدِّس آل البيت (عليهم السلام) كما المسلم. إنّ الفكر المسيحي العربي يستمد تراثه الفكري من تراث عربي إسلامي. كيف أمكن الربط بين ثورة الإمام الحسين وبين فكر أهل الكتاب، إذ لم يسبق هذا الربط أي اهتمام فكري مسيحي بعلم من أعلام الإسلام.

فشخصية الحسين مـحيط واسع من المُثُلِ الأدبية والأخلاق النبوية، وثورته فضاء واسع من المعطيات الأخلاقية والعقائدية، ولعلَّنا نتمثل أهم سِمَةٍ من سمات العظمة في هذه الشخصية من قول جده الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم): (عليه السلام)حسين مني وأنا من حسين(عليه السلام) فارتقت إنسانية السبط إلي حيث نبوة الجد (عليه السلام)أنا من حسين(عليه السلام) وهبطت نبوة الجدَّ إلي حيث إنسانية السبط (عليه السلام)حسين مني(عليه السلام).

وإذا كان العالم المسيحيُّ الغربي له مآخذ علي الإسلام فإنّما ينظر إلي هذه المآخذ من كُوَي مثالب عهود بني أُميَّة والتشويهات التي استهدفت أُمة الإسلام فيما بعدها، حيث نظر الحكام إلي الدنيا والملك بالشكل الذي صوَّره معاوية بعد احتلاله الكوفة؛ إذ قال: إنّي لم أُقاتلكم لكي تُصلُّوا أو تصوموا... بل قاتلتكم لكي أتأمر عليكم [20] .

هذا المظهر الخاجي لجوهر الصراع الذي استشري بعد ذلك بين أهل بيت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وبين ذرَّية أبي سفيان، فأهل البيت يرون أنّ الخلافة مركب يقود إلي الآخرة وفق أحكام الله، وبنو أُميَّة يتطلعون إليها باعتبارها مركباً يقود للجاه والسلطان وانقياد الدنيا وفق أهواء النفس ومطالبها. وبين أحكام الله وبين أهواء النفس أحدث الانقسام المربع في جسد أُمّة الإسلام، والتفّ الأبناء حــول الرمـز الأقـرب لما تهيأت له أنفسهم منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة [21] فالفكر المسيحي الغربي لا يعي هذا التناقض الصارخ بين الحق المقهور وبين الباطل المنتصر.

كيف صارت الشهادة التي أقدم عليها الحسين (عليه السلام) وآل بيته وصحبه الأطهار رمزاً للحق والعدل، وكيف صار الذبيح بأرض كربلاء نوراً لا ينطفئ لكل متطلع باحث عن الكرامة التي خص بها سبحانه وتعالي، والسيرة العطرة لحياة سيد شباب أهل الجنة، واستشهاده الذي لم يسجل التاريخ شبيهاً له، كانا عنواناً صريحاً لقيمة الثبات علي المبدأ.

أحد القساوسة قال: (لو كان الحسين لنا لرفعنا له في كل بلدٍ بيرقاً، ولنصبنا له في كل قرية مِنبراً، ولدعونا الناس إلي المسيحية باسم الحسين) [22] .

ونقل لي عندما كنت في لبنان عن بولس سلامه صاحب ملحمة الغدير عن طريق ولده بأنّ والده عندما كان يقرأ واقعة الطف كانت دموعه تسيل علي خده مع أنّه مسيحي، وعالم المكتبات مليء بكتب تتحدث عن شخصية الإمام الحسين (عليه السلام) وثورته التي جاءت لخلاص الإنسان من عبودية الطغاة إلي عبودية الله تعالي.

وشتان بين الشجرتين: شجرة طيِّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وشجرة خبيثة أُجتثَّت من فوق الأرض مالها من قرار، وما أبعد ما بين الشجرتين: شجرة مباركة زيتونة، والشجرة الملعونة في القرآن: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلاّ فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن [23] بتأويل من النبي الأعظم (صلي الله عليه وآله وسلم) بلا اختلاف بين اثنين في أنّهم - بنو أميَّة - هم المراد من الشجرة الملعونة كما ورد ذلك في كتب الحديث والتاريخ [24] .

وعن سعيد بن المسيب قال: رأي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) بني أُميَّة علي المنابر فساءه ذلك، فأوحي الله إليه إنما هي دنيـا أعطوهـا فقـرت عينـه، وهـي قـولـه: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس [25] يعني بلاء للناس [26] .

ومن الرؤيا التي رآها النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) فوجم لها، فما رُئي ضاحكاً بعدها، فأنزل الله: وما جعلنا الرؤيا التي أرْيناك إلا فتنة للناس.

فذكروا أنه رأي نفراً من بني أميّة ينزون علي منبره [27] .


پاورقي

[1] سنن الترمذي: ج 5 ص 658 ح 3775.

[2] سورة آل عمران: الآية 61.

[3] ينابيع المودة: ص 379؛ تاريخ الطبري: ج 5 ص 623.

[4] تاريخ الطبري: ج 11 ص 358.

[5] العقد الفريد: ج 4 ص 338.

[6] کتاب الفتوح: ج 5 ص 10.

[7] الفصول المهمة: ص 188، ص 192؛ نور الأبصار: ص 231.

[8] أودي به: ذهب به.

[9] مروج الذهب: ج 2 ص 360.

[10] تاريخ الطبري: ج 2 ص 457.

[11] الاستيعاب في معرفة الأصحاب: ج 4 ص 1679.

[12] سورة الإسراء: الآية 60.

[13] سورة المائدة: الآية 78.

[14] تاريخ الطبري: ج 5 ص 621؛ تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 232.

[15] تاريخ الطبري: ج 5 ص 49.

[16] العرادات: جمع عرادة، وهي آلة من آلات الحرب، وهي منجنيق صغير، والمنجنيق: سلاح قديم يعتمد علي رمي الحجارة.

[17] مروج الذهب: ج 3 ص 81؛ تاريخ الخلفاء: ص 209.

[18] تاريخ الخلفاء: ص 209.

[19] نور العين في مشهد الحسين: ص 10.

[20] روي أبو الحسن المدائني: أنّه قد خرج علي معاوية قوم من الخوارج بعد دخوله الکوفة وصلح الحسن (عليه السلام)، فخطب معاوية أهل الکوفة فقال: يا أهل الکوفة، أتروْني قاتلتکم علي الصلاة والزکاة والحجّ وقد علمت أنّکم تصلُّون وتزکّون وتحجّون، ولکنّني قاتلتکم لأتأمر عليکم وعلي رقابِکم... وکل شرط شرطته - أي للحسن (عليه السلام) - فتحت قدميَّ هاتين. شرح نهج البلاغة: ج16 ص14، ترجمة الحسن بن علي (عليه السلام).

[21] سورة آل عمران: الآية 152.

[22] الحسين في الفکر المسيحي: ص 24.

[23] سورة الإسراء: الآية 60.

[24] التسهيل لعلوم التنزيل: ج 2 ص 174؛ الکشاف: ج 2 ص 455؛ الدر المنثور: ج 5 ص 309 ــ ص 310؛ تفسير البيضاوي: ج 1 ص 575؛ مسند الإمام أحمد بن حنبل: ج 2 ص 522؛ مـجمع الزوائد: ج 5 ص 240؛ الخلفاء الراشدون: ص 209 ــ 210.

[25] سورة الإسراء: الآية 60.

[26] تاريخ مدينة دمشق: ج 57 ص 266 ح 11989؛ شواهد التنزيل: ج 2 ص 457.

[27] تاريخ الطبري: ج 5 ص 621.