بازگشت

المبارزة الفردية


ابتدأت بتوجه الحر الرياحي بعد التحاقه بصفوف قوات الإمام الحسين (ع) يطلب الإذن له بالبراز، قال للحسين (ع):

«اذا كنت أول من خرج اليك وجعجع بك فأذن لي بأن أكون أول من يبرُز للقتال بين يديك ».فبرز إلي الميدان وهو القائد الحربي المجرّب فأخذ يفتك بقوات العدوّ، و يتوغل بين صفوفها في العمق مما اوقع في صفوفها خسائر فادحة بين قتيل و جريح ثم استشهد.

بعدها برز برير بن خضير منفرداً إلي الميدان شاهراً سلاحه ، فخرج في مقابله يزيد بن المفضل فاتفقا علي المباهلة إلي الله تعالي في ان يقتل المحق منهما المبطل ، وتلاقيا فقتله برير الذي استمر يجندل أفراد العدو إلي أن قُتل .

ثم خرج وهب بن جناح الكلبي مبارزاً وكانت معه امرأته و والدته ، وبعدأن اجهده التعب ، واشتد به العطش رجع إليهما وقال :

ياأم ارضيت أم لا؟ فقالت الام : مارضيت حتي تُقتل بين يدي الحسين . و قصته الكاملة مدونة في كتب المقاتل . ونحن قد اقتصرنا علي موضع الحاجة و خاصة فيما يتعلق بالجانب العسكري .

استمرت المبارزة الفردية وخرج عندئذ مسلم بن عوسجة ، فسقط علي الارض مضرّجاً بدمه وبه رمق ، فمشي إليه الحسين القائد و معه حبيب بن مظاهر. فأوصي مسلم بن عوسجة حبيباً بأن يقاتل دون الحسين حتي الموت .

ثم خرج عمر بن قرطة الانصاري ، وكان قد جعل من جسده درعاً يتقي به السِّهام و الرِّماح التي تنهال علي الحسين (ع) كالمطر فلا يأتي إلي الحسين (ع) سهم إلاّ اتقاه بيده ، ولاسيف إلاّ تلقاه بمهجته ، فلم يكن يصل إلي الحسين القائد سوء حتي أُثخن بالجراح ؛ عندئذ التفت إلي قائده الحسين (ع) وقال له : يابن رسول الله أوفيت ؟ فقال الحسين القائد: نعم أنت أمامي في الجنة .

ولم يقتصر القتال علي الاحرار من الرجال ، بل شارك فيه العبيد عندمابرز جون مولي أبي ذر إلي الميدان وكان عبداً أسود.

فقال له الحسين (ع): أنت في إذن مني ، فإنما تبعتنا طلباً للعافية .

فرفض القعود بإصرار، وله كلمات معبرة يذكرها أرباب المقاتل ، تدل علي الوفاء والإباء.

بعدها برز من تبقي من الانصار واحداً بعد الاخر حتي ذاقوا الحِمام ، و بقي مع الإمام الحسين (ع) أهل بيته وهم بدورهم وردوا الميدان ابتداءاً من ولده علي الاكبر إلي أخيه وقائد أركان حربه أبي الفضل العباس (سلام الله عليه )، وانتهاءاً بابن أخيه عبد الله بن الحسن بعد أن سبقه إلي الشهادة أخوه القاسم بن الحسن (ع)، وفي نهاية المطاف لم يسلم من القتل حتي الطفل الرَّضيع عبد الله بن الحسين الذي أصبح هدفاً لحرملة بن كاهل الاسدي ؛ وكان من أبرز القناصين و أكثرهم دقة في إصابة الهدف ، فسدّد رميته إلي نحرالرَّضيع فذبحه من الوريد إلي الوريد و هو علي صدر والده .

لقد سطّر أولاد الحسن و الحسين (ع) ملاحم بطولية رائعة ، و علي سبيل الاستشهاد لا الحصر: أراد عبد الله بن الحسن أن يدافع عن عمّه الحسين (ع) و هو جريح واتقي ضربة ً وجهت للإمام المطروح بيده فقطعتها إلي الجلد، ثم رماه حرملة بسهم فذبحه وهو في حجر عمّه .

بعدها استمر القتال الفردي بالسلاح الابيض بعد تصفية القاعدة إلي القيادة ؛ فبادر الحسين القائد إلي البراز فلم يزل يُقاتل كل من بَرزَ إليه حتي قَتل َ ـ كما يصف الرواة ـ مقتلة ً عظيمة ً. فقد وصف أحد الرجال الذين شهدوا معركة الطف حال الحسين (ع) و هو يخوض غمار الحرب ، فقال :

«والله مارأيت مكثوراً قط قُتل ولده ، لتشد عليه الرجّالة ، فيشد عليها بسيفه فتنكشف عنه انكشاف المعزي إذا شد عليها الذئب ، وكانوا ينهزمون بين يديه .واستمر الحال علي ذلك المنوال حتي أُثخن بالجراح و أصبح جسده كالقنفذ»، وكان يقوم بدور حربي مزدوج فمرّة يشن ُ هجوماً مقابلاً، ومرّة أخري عند اشتداد العطش وتزايد الطعان يتمسك بموقف الدفاع كان يحمل عليهم و يحملون عليه ، وهو مع ذلك يطلب شَربة من ماءٍ فلايجد حتي أصابه اثنان وسبعون جراحة ً، فبينما هو واقف إذ اتاه حجر فوقع علي جبهته فأخذ الثوب ليمسح الدَّم عن جبهته ، فأتاه ـ حسب وصف الراوي المذكور ـ سهم مسموم له ثلاث شعب فوقع علي قلبه ، ثم أخرج السهم من وراء ظهره ، فانبعث الدم كأنه ميزاب فضعف عن القتال .

و لما أحس القوم بضعفه حملوا علي مقرّ قيادته ، فطعن الشمر فسطاط الحسين (ع) بالرمح وقال : علي ّ بالنار احرقه علي من فيه . فقال الحسين (ع):يابن ذي الجوشن أنت الداعي بالنار لتحرق علي َّ أهلي ؟ أحرقك الله بالنار.

أما الطعنة القاضية التي وجّهت للحسين (ع) فكانت من قبل صالح بن وهب ، حيث سدّدها إلي خاصرته ، فسقط عندئذ عن فرسه إلي الارض علي خدّه الايمن ، بعدها أصدر الشمر أمراً يطلب فيه الإجهاز الجماعي علي الإمام (ع) قائلاً لاصحابه : «ماتنتظرون بالرجل ؟!»..فحملوا عليه من كل جانب ، وأفرغ كل منهم حقده : إما بطعنه برمح أو رميه بسهم أو ضربه بسيف ، أو رشقه بحجر.

بعد ذلك احتزّوا رأسه الشريف ، وتسارعوا إلي سلب ملابسه ، ثم تسابقوا علي نهب مافي رحله ؛ حتي جعلوا ينتزعون ملحفة المرأة عن ظهرها.

وهذه هي مصاديق الحرب غير العادلة التي لاتتطابق مع الاعراف و القواعد الإنسانية التي توجب احترام الاموات و عدم التمثيل بهم ، كماتوجب احترام حياة و املاك الابرياء وحسن معاملة الاسري و عدم التعرّض بسوء لغير المقاتلين و خاصة النساء و الاطفال و المرضي .

و يقتضي التنويه إليه علي أن ماتطرقنا إليه من دروس عسكرية هو غيض من فيض ، فالدروس العسكرية و المواقف الحربية التي تمخضت عن معركة الطف القصيرة كثيرة وغنية بالعبر والتجارب . وهذه المعركة الغنية بالدروس نستفيد منها في صراعنا ضد القوي الغاشمة و المتجبرة ؛حيث نخرج بنتيجة حاسمة وهي : أن الدم سوف ينتصر علي السيف ، و أن أبواق القوة لاتستطيع كتم صوت الحق ، و ان المعركة لاتقاس من الناحية العسكرية بعدد الخسائر بالارواح ، بل تقاس بالحصول علي هدف القتال المستقبلي و المعنوي المتمثل بفضح سياسة و أساليب القوي المتجبرة تمهيداً لإسقاطها.