بازگشت

الاعمال التمهيدية


أدرك الحسين (ع) ان القتال أصبح خياراً لامفرّ منه ، بعد أن تلاشت آماله في السَّلام المشرِّف ، و واجه الحقيقة المرّة من حيث كونه محاصراًمن جميع الجهات ، و مصدوداً عن الماء ووسائل التموين و الإعاشة .

مع كل ذلك لم يقف مكتوف اليدين بل أعد قواته للدفاع المستميت ، وقام بجملة من الاعمال التمهيدية ، كان من أبرزها مايلي :

1ـ انتخب موضعاً بني فيه مقرّ قيادته : أمر بفسطاط فنصب عند الصباح .

2ـ رتّب موضعه الدفاعي بالعمق : بعد أن وجد معسكره في أجرد البقاع عن مزايا الدفاع ، فقد سبرَ غور الوهاد والانجاد، وأشرف علي سلسلة هضاب و روابي تليق حسب مزاياها الطبيعية بأن تتخذ للحرم والخيم ، و(كانت ) الرَّوابي و التلال متدانية علي شاكلة الهلال و هو المسمي «الحير»أو «الحائر»..ثم أن الحسين (ع) رأي بجنب هذه وجنوبها رابية مستطيلة أصلح من اختها للتحصن ؛ لان المحتمي بفنائها يكتنفه من الشمال والغرب ربوات تقي من عاديات العدوّ برماة قليلين من صحب الحسين (ع)، اذا اختبأوا في الرَّوابي ، وتبقي من جهة سمتي الشرق و الجنوب جوانب واسعة ، تحميها أصحاب الحسين و رجاله ، ومنهايخرجون إلي لقاء العدو أو تلقي الرُّكبان ، فنقل إلي هذا الموضع حرمه و معسكره و يُعرف الان (المخيم ).

فصارت منطقة الحائر منطقة حرام (بالاصطلاح العسكري المعاصر) فاصلة بينه و بين معسكر الاعداء، وأمر أصحابه ان يقرّبوا البيوت بعضها من بعض ، حتي تتمكن قواته من خوض المعركة بقوة أقل ، ولتوقع بالعدو خسائر أكثر. قال أبو مخنف :

«فقال الحسين : اما لنا ملجأ نلجأ إليه لنجعله في ظهورنا و نستقبل القوم في وجه واحد، فقلنا له : بلي هذا ذو حسم (اسم جبل ) إلي جنبك تميل إليه عن يسارك ، فإن سبقت القوم إليه فهو كما تريد، قال : فاخذ إليه ذات اليسار، قال : و ملنا معه فما كان بأسرع من ان طلعت علينا هوادي الخيل فتبيناها و عدلنا، فلما رأونا وقد عدلنا عن الطريق عدلوا علينا، كأن اسنتهم اليعاسيب ، وكأن راياتهم أجنحة الطير. قال : فاستقبلنا إلي ذي حسم فسبقناهم إليه ، فنزل الحسين فأمر بأبنية فضربت ، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي ».

وهذا النص يثبت لنا بأن الحسين (ع) كان يفكر تفكيراً عسكرياً راقياً، و كان لايستبد برأيه بل يستشير أصحابه ، ويسأل دائماً عن المكان المناسب لكي يُتخذ كموضع دفاعي ، والنص صريح ـ أيضاً ـ بأن كل طرف كان يتسابق مع الطرف الاخر ويسعي للحصول علي المكان المناسب لخوض الحرب .

3 ـ قام بمحاولات جريئة للوصول إلي شاطي ء الفرات ، المحروس بقوات محصنة تحصيناً جيداً، وموزعة كمائنها علي المشرعة بصورة شبكة يصعب اختراقها، ولكن المراسلين الحربيين ـ كأبي مخنف ـ قد اعترفوا بان العباس (سلام الله عليه ) تمكن من اختراق صفوف القوات المكلّفة بحراسة المشرعة ، و جلب الماء، ولكن في محاولته الثانية لجلب الماء تمكنت الكمائن المنصوبة في طريقه من منعه من إيصال ماء القربة إلي العيال و الاطفال ، بواسطة قنّاصيها المنتشرين بين النَّخيل ؛ فقد أمطروه بسيل من السِّهام ، نفذ احدها إلي القربة وأراق ماءها، ثم أن أحد أفراد هذه الكمائن تمكن من إصابة العباس (سلام الله عليه ) بعمود من حديد علي هامته .

ضمن هذا السياق يُروي أن الحسين (ع) قام ـ أيضاً ـ باختراق تحصينات وحشود العدو المنتشرة علي المشرعة ، ودخل الفرات ، و أراد أن يشرب الماء لولا الخدعة التي منعته من ذلك ، وهي :

مناداة القوم عليه بان الاعداء قد هجموا علي حريمه و خيمه فكيف يهنا بشرب الماء وقد هتكت حُرمة حَريمه ؟

4 ـ حفر خندقاً حول المخيم ، وملاه حطباً، وأضرم فيه ناراً لاجل أن تكون جبهة الحرب ضيقة ومن جهة واحدة ؛ ويبدو أن «الشمر بن ذي الجوشن » كان يخطّط لتطويق قوات الإمام الحسين (ع)، وكان يحاول الالتفاف علي هذه القوات من الخلف ، ولكن خبرة الإمام (ع) بشؤون الحرب وتحسبه لكل الاحتمالات قد أحبطت هذه المحاولة . ومما يعزّزذلك ، نقل أبو مخنف عن الضحاك المشرقي ، قال : «لما اقبلوا نحونا فنظرواإلي النار من ورائنا لئلا يأتونا من خلفنا، إذ أقبل الينا منهم رجل يركض علي فرس فلم يكلّمنا حتي مر علي أبياتنا، فنظر إلي أبياتنا فإذا هو لايري إلا حطباً تلتهب النار فيه ، فقفل راجعاً. فنادي بأعلي صوته : ياحسين ، استعجلت النار في الدنيا قبل القيامة ؟ فقال الحسين : من هذا كأنه شمر بن ذي الجوشن ، فقالوا: نعم أصلحك الله هو هو، فقال : يابن راعية المعزي أنت اولي بهاصِلياً.

وفي موقف آخر يكشف أبو مخنف تفاصيل أكثر عن خطة الدفاع التي وضعتها القيادة الحسينيّة عند نشوب المعارك الحربية ، فيقول : «وكان الحسين (ع) اتي بقصب وحطب إلي مكان من ورائهم منخفض كأنه ساقية فحفروه في ساعة من اللّيل فجعلوه كالخندق ، ثم القوا فيه ذلك الحطب و القصب وقالوا: إذا عدوا علينا فقاتلونا ألقينا فيه النار كيلا نؤتي من ورائنا، و قاتلنا القوم من وجه واحد، ففعلوا وكان لهم نافعاً، وأيضاً مارواه أبو مخنف من أن (جبيرة الكلبي ) وقيل (ابن حوزة ) قال للحسين (ع) بعدان وقف بإزاء الخندق : «اتعجلت بالنار في الدنيا قبل الاخرة ؟!»..

فدعا عليه الحسين (ع) قائلاً: ابشر بالنار.

5 ـ عقد الحسين (ع) مؤتمراً حربياً لقادته وقواته : واختار اللّيل وقتاً لانعقاده ، حتي لاتنكشف استعداداته من قبل مراصد العدو، فقد اطلعهم علي الموقف العصيب الذي يواجهونه ، وبيّن لهم بان الحرب وشيكة الوقوع ، وسمح لمن أراد الانسحاب منهم بالذهاب واحلّه من بيعته ، وأمرالباقين بالصبر والجهاد حتي يقضي الله أمراً كان مفعولا.

6ـ جمع الحسين (ع) قواته وقسّمها حسب التقسيم التقليدي السائد:

إلي ميمنة وميسرة وقلب ، فجعل زهير بن القين ومعه عشرون فارساًعلي الميمنة ، يقول أبو مخنف : «وعبّأ الحسين أصحابه وصلّي بهم صلاة الغداة وكان معه اثنان وثلاثون فارساً، و أربعون راجلاً، فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه ، و حبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه ، و اعطي رايته العباس بن علي اخاه ، وجعلوا البيوت من ظهورهم ، و أدخل الاطفال والحرم إلي الخيمة . وتمكن من ترتيب قواته ؛ بحيث تبقي تحت تصرّفه قوة عسكرية احتياطية يعالج بها المواقف الطارئة .

7- أجّج معنويات جنوده : إلي درجة أصبحوا يستأنسون بالموت و الشهادة ، ويستبشرون بالجنة ويعدّون الساعات إليها؛ حتي أن البعض منهم كبُرير كان يضحك و يهازل وكأن شيئاً لم يكن .

كانت الميزة الاساسية لقوات الإمام الحسين (ع) تتمثل بالقوة المعنوية العالية ، التي أثبتت كل الحروب في جميع أدوار التاريخ أهميتها البالغة في الصمود، وحول هذه النقطة يقول القائد الفرنسي (نابليون بونابرت ): «إن العامل المعنوي في الحرب أكثر أهمية من العامل المادي بنسبة ثلاثة إلي واحد».

ولعل من أبرز العوامل التي عملت علي شحذ معنويات القوات الحسينيّة هو إحساسهم بعدالة القضية التي يقاتلون من أجلها، و كذلك حقانية و مظلومية الإمام الحسين (ع)، كما لعبت العبادة وخاصة الصلاة دو ر(الداينمو) الذي يشحن العزائم والهمم ..يقول الرواة : إن الحسين (ع) بات وأصحابه ليلة عاشوراء و لهم دوي كدوي النحل ، وكانوا بين راكع و ساجد و قائم وقاعد، فعبر إليهم في تلك الليلة من عسكر عمر بن سعد إثنان و ثلاثون رجلاً. و يبدو أن المعنويات العالية التي كان يتحلي بها أفرادالجيش الحسيني جعلت بعض أفراد جيش يزيد يتيقن من صدق و حقانية جبهة الحسين ؛ فالتحقوا بجبهته . كما نقل الرواة أيضاً بان الحسين (ع) طلب من أخيه العباس أن يحاول تأجيل القتال مااستطاع إلي ذلك سبيلاً، قال له :

«فإن استطعت أن تؤخّرهم إلي غد، وتدفعهم عنا العشية لعلنا نصلي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره ، فهو يعلم أني كنت احب الصلاة له ، و تلاوة كتابه ، وكثرة الذكروالاستغفار».

يبدو أن الحسين (ع) يريد بذلك إضافه إلي الجانب العبادي أن يُؤجّج العامل المعنوي في نفوس مقاتليه القليلي العدد والعُدة ، ليصمدوا في المعركة غير المتكافئة التي يخوضونها. وهذا النص يثبت ضرورة الإكثار من الصلاة و الذكر كأساليب ضرورية لجند الإسلام عند خوض الحرب .