بازگشت

الاصطدام المبكر


سار الحسين (ع) مع أهل بيته و خُلّص أصحابه سيراً حثيثاً نحو العراق ، و لم يفت من عضده مقتل سفيره مسلم بن عقيل (سلام الله عليه )، وخذلان أهل الكوفة له ؛ فقرر المضي إلي آخر الشوط . فلما وصل علي بعد مرحلتين من الكوفة ، ظهرت ـ كما أسلفنا ـ طلائع دورية الحر بن يزيد الرياحي القتالية المؤلفة من ألف فارس ، فقال الحسين (ع) للحر مستفهماً:«ألنا أم علينا؟». طرح الإمام (ع) هذا السؤال لان بعض القوات كانت تلتحق في صفوف جيشه اثناء تقدمه ، فقال الحر الرياحي : بل عليك ياأباعبدالله!.

وبعد مناقشات و مشادّات كلامية بين الجانبين ، حاول الإمام (ع) إقناع الحر بالسماح له بالمسير نحو الكوفة ، وعرض عليه الكتب المرسلة إليه من زعمائها و أهل الرأي فيها. لكن الحر أصرّ علي رفض هذا الامر، و تمخض النقاش عن حل وسط يُرضي الطرفين ؛ وهو أن يسلك الإمام (ع) طريقاً لايدخله إلي الكوفة و لايُرجعه إلي المدينة . وكانت قوات الحر الرياحي تواكب سير قافلة الحسين (سلام الله عليه ) حتي لاتحيد عن الخطة المرسومة لتحركها.

استمر الحال علي هذا المنوال فترة من الزمن ثم انقلب الموقف رأساً علي عقب بصدور أمرٍ عسكري صارم ٍ من عبيد الله بن زياد يطلب فيه من الحر الرياحي أن يُضيّق الحصار علي قوات الإمام ، ويوقف حركة مسيرتها. و عيّن ابن زياد ضابط استخبارات عسكرية كلّفه بمراقبة مدي التزام الحر الرياحي بهذا الامر الصادر إليه ، وكان النَّص الحرفي للامر هو:

«أمّا بعد، فجعجع بالحسين ، حين يبلغك كتابي ، و يقدم عليك رسولي ، ولا تنزله إلاّ بالعراء في غير حصن و علي غير ماء، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ، و لايفارقك حتي يأتيني بإنفاذك أمري والسلام ».

قاوم الحسين (ع) هذا الامر الصارم بكل قوة و عزم ، لكنه ابقي باب الحوار مع الحر مفتوحاً، فكلما أراد الإمام المسير كانوا يمنعونه تارة و يسايرونه أُخري حتي بلغ كربلاء في اليوم الثاني من المحرم .

و لم يكتف ابن زياد بالقوة الضاربة المؤلّفة من ألف فارس التي أرسلها في طليعة قواته مع الحر الرياحي ، حتي أرسل قوة ً أُخري إضافية لتشديد الحصار المضروب علي قوات الإمام (ع)، وقد بلغت هذه القوة خمسة آلاف مقاتل بقيادة عمر بن سعد، وكانت مكتملة التسليح و التجهيز، وتملك مواد الإعاشة و وسائل التمويل من غذاء وماء.

وعندما أخذ الحل السِّلمي يتضاءل رويداً رويداً، وباتت احتمالاته شبه معدومة ، اقترح بعض قادة جيش الحسين الميدانيين المبادرة بالقتال ، وفي هذا الصدد قال زهير بن القين : «لن يكون بعد الذي ترون إلا أشد مماترون ، يابن رسول الله، إن قتال هؤلاء البغاة أهون من قتال من يأتينا من بعدهم ، فلعمري ليأتينا بعدهم مالاقبل لنا به »، فقال الحسين (ع): «ماكنت لابدأهم بالقتال ».

وتجدر الإشارة إلي أن ابن القين لم يصل إلي قناعته بالحرب إلاّ بعد أن بالغ في النُّصح ، بحيث وصل الامر إلي ان يُرمي بسهم من قبل الشمر بن ذي الجوشن الذي عنّفه علي المبالغة في نصحه ، وقال له :«اسكت أسكت الله نأمتك أبرمتنا بكثرة كلامك ».

وهكذا نلاحظ بأن الإمام (ع) قد بالغ مع أصحابه في الدعوة إلي السِّلم مع الحرص الشديد علي مَدّ جسور الفهم والتفاهم مع اعدائه ، وعليه كان يحجم عن إصدار أوامر القتال علي الرغم من تدفق القوات المعادية من حوله كالسيول ، حرصاً منه علي حقن دماء المسلمين و حل النِّزاع بالطرق السِّلمية ، لاسيما وانه اتبع وسائل سلمية عديدة منها: تذكيرهم بالكتب المرسلة اليه والعهود التي قطعت له بالولاء و النصرة ، كما انه عرّفهم بنفسه و حسبه و نسبه و قربه من رسول الله (ص)، زد علي ذلك انه عقد مباحثات مطولة مع اركان و قادة الجيش المعادي له .

يذكر ابن مخنف في مقتله : بان الحسين (ع) كان يجلس مع ابن سعدليلاً، و يتحدثان طويلاً حتي يمضي من اللّيل شطره ، قال : «فتكلّما فأطالاحتي ذهب من اللّيل هزيع ، ثم انصرف كل واحد منهما إلي عسكره بأصحابه ».

وكانت أساليب الحسين (ع) السِّلمية تتقابل بنزعة حربية طاغية ، و رغبة ملحّة بتعجيل القتال من قبل بعض قادة الجيش المعادي كالشمر ابن ذي الجوشن الذي كان يصر علي القتال ، ووضع الحد للحوار الدائربين الجيشين ، و قد استغرب الحر الرياحي من اندفاع الشّمر للقتال ، و تعجله للشر، فالتفت الحر الرياحي لابن سعد، وقال : «أمقاتل أنت هذا الرجل ؟!»، فقال ابن سعد: «اي والله قتالاً ايسره ان تقطع الايدي و تطيح الرؤوس » عندئذانعقدت الدهشة لسان الحر و اصابه مثل الافكل ـ أي الرِّعدة ـ ثم التحق بصفوف الحسين (ع).

تجدر الإشارة إلي أن موقف ابن سعد القائد الميداني كان متردداً في البداية بالقتال ، وكان بين الإقدام و الإحجام ، ويلتمس العذر في بداية الامر، ولكن المغريات التي قُدمت اليه كالحصول علي ولاية الرّي قد قلبت قناعته رأساً علي عقب ؛ فرَّجح خِيارَ الحرب ِ علي السِّلم ، و اطلق إشارة بدء القتال بسهم من قوسه .