بازگشت

الموقف العام


وجد الحسين (ع) نفسه بعد وفاة معاوية و تسلم يزيد ابنه مقاليد السلطة الإسلامية أمام خيارين : أحلاهما مرّ، إما السِلَّة و المهادنة والذِّلة ، أو المواجهة والتصدي مع قلة العدد والعُدة ، لكن مع إصرار السلطة الحاكمة علي مبايعته ، و بما عُرف عنه من شهامة وإباء، اختار المواجهة والثورة ورفع شعاراً تعبوياً هو: (هيهات منا الذلة )، و قرّر الخروج من المدينة المنورة خوفاً علي ثورته من أن يُقضي عليها وهي في المهد. و توجه في أول الامر إلي مكة المكرمة لثلاث من شعبان سنة ستين للهجرة ، واختارفي مسيره الطريق العام ، ولم يسلك الطرق الفرعية الوعرة مما يغلب علي الظن بأن الحسين (ع) كان يبتغي إعلان دعوته علي الرأي العام ، و هذا الامر لايتحقق علي الوجه الاكمل لو سلك الطرق الجانبية التي قد تُؤمن له الاستتار لاغير.

يذكر الشيخ باقر شريف القرشي أنه (ع): سلك الطريق العام الذي يسلكه الناس من دون أن يتجنب عنه ، و اشار عليه بعض أصحابه ان يحيد عنه مخافة أن يدركه الطلب من السلطة في يثرب ، فاجابهم (ع) و كله ثقة في النَّفس قائلاً:

«لا والله لافارقت هذا الطرّيق أبداً، أو أنظر إلي أبيات مكة ، أو يقضي الله في ذلك مايحب ويرضي ..».

ثم ان عدم اتجاه الإمام الحسين (ع) إلي العراق بصورة مباشرة و هو مقصده الرئيسي وذهابه إلي مكة في موسم الحج يعطينا قناعة راسخة بانه يريد إعلان دعوته علي الملا، وخاصة في هذا الوقت الذي يكون عادة ً وقتاً مناسباً لتجمع الحجيج من كل فج ٍّ عميق .

مهما يكن من أمر فإنه (ع) توجه إلي مكة لثلاث مضين من شعبان سنة ستين للهجرة ، فأقام بها و قضي فيها عدة أشهر: شعبان و رمضان و شوال و ذي القعدة .

و لابد من التنويه علي أن مكة اصبحت القاعدة الرئيسية للمعارضة ضد السلطة الاموية ، وفيها تحصن عبد الله بن الزبير المعارض الثاني من حيث الاهمية بعد الحسين بن علي (ع). وكان بإمكان الإمام أن يتحصن في مكة ، ويستفيد من موقعها الديني المقدّس و طبيعة أرضها الوعرة الصالحة لخوض حرب العصابات ، لكن الإمام (ع) غادرها خوفاً علي قدسيتها من الدَّنس و خشية ً من إراقة الدماء فيها.

فبادر بالخروج منها قبل أن يبادر الطرف المعادي و يسعي لمحاصرته أو اغتياله ، حتي أن الفرزدق الشاعر عندما لاقي الحسين (ع) في الطريق سأله باستغراب قائلاً له : ماأعجلك عن الحج ؟!...فأجابه الحسين (ع): «لو لم أعجل لاخذت ».

أما السلطة الاموية ، فبعد أن تبين لها بان الحسين (ع) ـ وهو الذي تحسب له ألف َ حساب ـ قد رفض البيعة وغادر المدينة ، ثارت ثائرتها و وضعت قوّاتها في المدينة و مكة و الكوفة في حالة استنفار دائم لمراقبة تحركات الإمام في حلّه و ترحاله .

وقد زاد من توجسها وصول سفير الحسين (ع) مسلم بن عقيل إلي الكوفة و قيامه بأخذ البيعة للحسين (ع) وتهيئته للمقدمات اللاّزمة لمقدم الإمام (ع)، و سعيه للسيطرة علي بيت الإمارة في الكوفة .

وكانت الاستخبارات الاموية نشطة وفعّالة في الكوفة ، فقامت بإرسال التقارير الدورية عن تحركات مسلم بن عقيل (رض )، وكذلك عن حالة أمير الكوفة «النعمان بن بشير» الذي كان ـ حسب تقييمهم ـ ضعيفاً أومتضاعفاً لعدم تصديه الحازم لنشاطات مسلم بن عقيل (ع)، ولعدم سيطرته علي الاوضاع المضطربة في هذه الإمارة ذات الاهمية الاستراتيجية .

درست القيادة الاموية في الشام الموقف من جميع جوانبه ؛ فقد عقد يزيد بن معاوية مجلساً استشارياً بحضور أحد كبار مستشاريه و يدعي : سرجون النصراني ، و كان الاخير قد أشار علي يزيد بتولية عبيد الله بن زيادوالي البصرة علي الكوفة بما عُرف عنه من قسوة لامتناهية وسعة حيلة ، فأصدر يزيد بن معاوية أمراً عسكرياً مقتضباً تقدح عباراته ناراً و شَرَراً، و مما جاء فيه : «فسر حين تقرأ كتابي الكوفة ، فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتي تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه ، والسلام ».

لقد وجدت القيادة الاموية بان ّ مرور الوقت ليس في مصلحتها، فكل تأخير أو تهاون سوف يؤدي إلي وصول الحسين (ع) إلي العراق ، و من يُهيمن علي هذا البلد الحيوي فسوف يتمكن من تهديد معقل القيادة و خطوط مواصلات الشام ، و ربما يجدّد العراق علي الشام حرب صفين ، في وقت تخلو أرض الشام من الداهيتين معاوية وابن العاص .

وصل عبيد الله إلي الكوفة ليلاً متخفياً وعليه عمامة سوداء، و هو متلثم ، و الناس قد بلغهم إقبال الحسين (ع) فهم ينتظرون قدومه ، فظنوا حين رأواعبيد الله أنه الحسين ، فأخذ لايمر علي جماعة من الناس إلا سلموا عليه و قالوا: مرحباً يابن رسول الله، قدمت خير مقدم ، فراي من تباشرهم بالحسين ماساءه . ولما أدرك خطورة الموقف ، قام بالسيطرة علي المراكز الحساسة في الكوفة ، و عزل أميرها«النعمان بن بشير»، واتبع أسلوب «الترغيب و الترهيب » مع أهلها، وأخذ باعتقال و إعدام كبارالزعماء الموالين للحسين (ع)، وتمكن بواسطة مخابراته من تحديد مكان إقامة «مسلم بن عقيل »(رض ) في دار هاني ء بن عروة ، فسارع إلي اعتقاله وإعدامه ، كما اتخذ تدابير عسكرية عاجلة منها إرسال مجموعة من دوريات الاستطلاع لمراقبة حدود الحجاز و سد الطرق منها وإليها، كما أرسل دورية قتالية مؤلّفة من الف فارس بقيادة الحر بن يزيد الرياحي ، لتحول دون وصول الحسين (ع) إلي الكوفة أو الاقاليم القريبة منها، إذ كان التخوف الاموي شديداً من وصول الدعوة الحسينيّة إلي ماوراء الفرات و حدود بلاد العجم .