بازگشت

تنقيح السيرة الحسينية


جرت العادة في المجتمعات الشيعية علي قراءة السيرة الحسينية لا سيما أيام العشرة الأولي من محرم الحرام في كل عام، وحيث انها تتكرر كذلك، فإنها تتحول إلي جزء من الموروث الثقافي لأبناء المجتمع، وتؤثر في فكرهم وسلوكهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون. ولذا كان أمر تصحيح السيرة وتنقيحها، وعدم ذكر المستهجن أو غير المقبول في العقول ـ إلا مع التوضيح ـ فضلا عن غير الصحيح أمرا مهما.

وينبغي أن يشار إلي قضية مهمة وهي أنه لا ينبغي أن يشكك في المسائل الثابتة بزعم أننا نقوم بتنقيح السيرة، أو أننا لا نحب هذه الجملة أو تلك الواقعة فنقوم بحذفها من السيرة فهذا عمل خاطئ، بل هو خيانة للتاريخ لو كانت الجملة ثابتة والنص صحيحا.وكذلك الحال عندما يستطرق من بعض الأمور التاريخية غير الثابتة إلي التشكيك في جملة السيرة وأحداثها، فإن ذلك أمر خطر.

نعم ما كتب عن السيرة هو سائر المصادر التاريخية فيه الصحيح وفيه غير ذلك ولكن بحمد الله لم يتطرق الخلل إلي أصل السيرة، ولا إلي أحداثها الأساسية التي تنفع في الإقتداء والتأسي. ومع ذلك نحن نحتاج إلي تنقية ما علق بها، وهذا الأمر لا لجهة أن الآخرين ينتقدوننا وإنما لجهة أن بقاء مثل هذه الشوائب يشوه الصورة الحقيقية لصاحب السيرة العظيم.

وفي الواقع ينبغي الإلتفات إلي توجهين خاطئين: الاصرار علي أن كل ما في السيرة المنقولة في الكتب ـ من غير تحقيق ـ هو شيء مقدس لا تطاله يد التحقيق والمناقشة.. وهذا خطأ لاسيما عندما نري وجود قصص في بعض الكتب لا مصدر لها أصلا، أو أن مصدرها غير معتمد، ولكن يتم التركيز عليها مثلا من باب أنها مشجية أكثر، وأدعي لجلب الدمعة والحزن.

والتوجه الآخر: معاكس لهذا بالتمام، فهو يفترض أن الشك هو الأساس، وأن كل ما لا يقبله عقله، أو لم يصل إلي علمه، فهو غير صحيح يجب حذفه، ولو كانت أسانيده تامة. ولا يترتب عليه محذور، سوي مخالفته للمألوف أو للنهج الفكري الذي يعتمده ذلك الشخص.

ولقد بادر علماؤنا ومحدثونا مشكورين إلي ذكر هذه المسائل والتحذير منها في نصائحهم للخطباء وقراء التعزية الحسينية، فاعتبروا أن مما يعد كذبا ولا يجوز أخذ الأجرة عليه هو افتعال الروايات غير الصحيحة أو نقلها علي نحو الجزم. ولو كانت تؤدي إلي غرض حسن وهو إشعار الناس بعظم مظلومية أهل البيت عليهم السلام. فقد كتب المحدث النوري رحمه الله كتابا في آداب خطباء المنبر باللغة الفارسية بإسم (لؤلؤ ومرجان) وضمنه الكثير من النصائح في لزوم التثبت في النقل.

ويذكر المحدث الشيخ عباس القمي عن كتاب (الاربعين الحسينية) للميرزا محمد بن محمد تقي القمي [1] نصيحة بالغة وموعظة جامعة..منها:

.. وأضحي جماعة من ذاكري المصائب لا يتورعون عن اختراع وقائع مبكية وكثر اختراع الأقوال منهم واعتبروا أنفسهم يشملهم الحديث (من أبكي فله الجنة)، وشاع هذا الكلام الكاذب مع الأيام حتي صار يظهر في مؤلفات جديدة، وإذا حاول محدث أمين مطلع منع هذه الأكاذيب، نسبوها إلي كتاب مطبوع أو كلام مسموع أو تمسكوا بقاعدة التسامح في أدلة السنن، وتوسلوا منقولات ضعيفة توجب اللوم والتوبيخ من الملل الأخري، كجملة من الوقائع المعروفة التي ضبطت في الكتب الجديدة في حين أنه لا عين ولا أثر لهذه الوقائع عند أهل العلم والحديث كعرس القاسم في كربلاء الذي نقله في كتاب (روضة الشهداء) من تأليف الفاضل الكاشفي وقام الشيخ الطريحي وهو من أجلة العلماء والمعتمدين بنقله عنه ولكن في كتاب (المنتخب) أمورا كثيرة جري التساهل والتسامح بها وهي لا تخفي علي أهل البصيرة والاطلاع) [2] .

وأشار غيره من الفقهاء والمحققين إلي لزوم التدقيق فيما يذكر في واقعة كربلاء، فهذا السيد الأمين رحمه الله يقول مبينا خطورة ما يلجأ إليه بعض الخطباء: (... ولكن كثيرا من الذاكرين لمصابهم قد اختلقوا أحاديث في المصائب وغيرها لم يذكرها مؤرخ ولا مؤلف، ومسخوا بعض الأحاديث الصحيحة وزادوا ونقصوا فيها لما يرونه من تأثيرها في نفوس المستمعين الجاهلين بصحة الأخبار وسقمها حتي حفظت علي الألسن وأودعت في المجامع واشتهرت بين الناس ولا من رادع وهي من الأكاذيب التي تغضبهم عليهم السلام وتفتح باب القدح للقادح فإنهم لا يرضون بالكذب الذي لا يرضي الله ورسوله صلي الله عليه وآله وقد قالوا لشيعتهم: كونوا زينا لنا ولا تكونوا شينا علينا، وقد اكتسبوا ـ هم ومن قبلها منهم وأقرهم عليها ـ الإثم المبين، فإن الله لا يطاع من حيث يعصي ولا يتقبل الله إلا من المتقين، والكذب من كبائر الذنوب الموبقة لا سيما إن كان علي النبي صلي الله عليه وآله وأهل بيته الطاهرين..) [3] .

وهنا ينبغي التفريق بين عدم الثبوت وعدم تعقله من قبل السامع وقد يغفل عن هذا التفريق كثير من الناس، فقد يكون شيء غير ثابت من الناحية التأريخية وهذا يختلف عن أنه لا يتقبله ذهن هذا الإنسان فقد يكون المستوي الذهني لهذا الشخص غير مؤهل لقبول بعض الحقائق ولكن لا يعني ذلك عدم تحققها وعدم وجودها تماما كما أننا نجد اليوم حقائق في حياتنا المعاصرة لو سمعها الأقدمون لم يقبلها عقلهم!!.

وربما يزعم البعض بأن التهويل والتضخيم للمصائب يقع في دائرة (حدثوا شيعتنا بأعظم ما وقع علينا) لبيان مظلوميتهم ومأساتهم، وهذا غير صحيح فإن فيما وقع عليهم مما صح نقله شيئا كثيرا يستغني بمثله عن افتعال بعض القصص، أو زيادة الأقوال.. خصوصا أن هذا الأثر [4] يقول (بأعظم ما وقع علينا) أي لا بد من إحراز (أو الاطمئنان بـ) كونه مما وقع عليهم، ثم ينتخب الأعظم منه، لا أعظم ما لم يقع عليهم.

لقد كان آية الله الشيخ الشوشتري [5] رحمه الله يصعد المنبر ويصرح بأنه لا يحتاج المرء إلا إلي التأمل في بعض الروايات التاريخية الثابتة ويستنطقها ليري عظم المصيبة التي حلت بأهل البيت عليهم السلام، فلماذا يأتي البعض بروايات غير صحيحة، أو يبالغون في قسم من القضايا؟ وهذا ما يظهر لكل قارئ لكتابه المواعظ أو الأيام الحسينية.

فليس معني التحقيق في الروايات التاريخية تجريدها من الجانب المأساوي أو حذف مواضع المصيبة وإنما يعني أن تذكر المصائب الحقيقية، وهي كثيرة جدا.


پاورقي

[1] الميرزا محمد بن محمد القمي: کان له من الفقاهة والاجتهاد مقام سام، ورتبة عالية، وقد سافر في اوائل شبابه الي العتبات الشريفة. وحضر عند الميرزا الشيرازي، واستفاد منه وکانت عمدة تلمذه في الفقه والاصول علي يد الحاج الميرزا حبيب الله الرشتي، والملا کاظم الخراساني، وبعدما اکمل دراسته للعلوم الدينية وحصل علي القوة القدسية واجيز بالاجتهاد.. عاد الي وطنه (قم)، وظهرت له الرئاسة العامة والشهرة التامة، وذاعت شهرة فقاهته وفضيلته جميع الأصقاع، وقرعت کل الأسماع..) عن منازل الآخرة للمحدث القمي.

[2] منتهي الآمال للمحدث القمي ج 1.

[3] المجالس السنية في مناقب ومصاب العترة النبوية.

[4] مع أن البعض ينقله باعتباره حديثا عن الائمة عليهم السلام إلا أنني لم أجده ـ بهذا النص ـ في مصدر يعتمد عليه بالمقدار الذي وسعني البحث.

[5] فقيه من تلامذة الشيخ الأنصاري رجع إليه في التقليد في منطقته بجنوب إيران، وکان يصعد المنبر ويعظ، ويقرأ السيرة الحسينية بنحو قل نظيره، له من الآثار المطبوعة في مجال المنبر الخصائص الحسينية.