بازگشت

خطاب الامام السجاد


اكمالا للدور الاعلامي المهدوف في الشام اندفع الامام زين العابدين عليه السلام للادلاء ببيانه للتعريف بأهل البيت عليهم السلام في أوساط المجتمع الشامي المخدوع، و ذلك حينما أراد يزيد مواجهة اعلام الثورة الحسينية في الشام، فأمر الخطيب بأن يصعد المنبر و يكثر الثناء و التمجيد للأمويين و ينال من كرامة أميرالمؤمنين و ولده الحسين عليه السلام جريا علي السنة التي سنها أبوه معاوية من قبله، فصعد الخطيب المنبر و قال كما أراد يزيد.

(فانتفض الامام زين العابدين و صاح به:» ويلك أيها الخطيب، اشتريت رضا المخلوق بسخط الخالق، فتبوأ مقعدك من النار».

و التفت الي يزيد فقال له:» أتأذن لي أن أصعد هذه الأعواد فأتكلم بكلمات فيهن لله رضا و لهؤلاء الجالسين أجر و ثواب».

و بهت الحاضرون و بهروا من هذا الفتي العليل الذي رد علي الخطيب و الأمير، و قد رفض يزيد اجابته فألح عليه الجالسون بالسماح له.

و يعتبر ذلك بداية وعي عند أهل الشام فقال يزيد لهم: (ان صعد المنبر لم ينزل الا بفضيحتي و فضيحة آل أبي سفيان).


فقالوا له: و ما قدر ما يحسن هذا العليل... فقال لهم: (انه من اهل بيت قد زقوا العلم زقا).

فأخذوا يلحون عليه، فانصاع لقولهم، فسمح للامام فاعتلي أعواد المنبر فحمد الله و أثني عليه، و يقول المؤرخون: انه خطب خطبة عظيمة أبكي منها العيون و أوجل منها القلوب) [1] .

و يظهر أن التاريخ لم يحفظ لنا خطبة الامام بأجمعها، الا أن القسم المذكور منها واضح بأنها كانت تدور حول محور واحد و هو الكشف عن واقع أهل البيت، و التعريف بهم للمجتمع الشامي كاعلام مضاد للاعلام الأموي الذي عمل لمدة عشرين عاما في تشويه الحقيقة في أذهان أهل الشام و اعطائهم صورة مشوهة عن عميد العترة النبوية أميرالمؤمنين و أهل بيته عليهم السلام.

قال عليه السلام:

» أيها الناس، أعطينا ستا و فضلنا بسبع، أعطينا العلم و الحلم و السماحة و الفصاحة و الشجاعة و المحبة في قلوب المؤمنين. و فضلنا بأن منا النبي المختار محمد، و منا الصديق، و منا الطيار، و منا أسد الله و أسد الرسول، و منا سيدة نساء العالمين فاطمة البتول، و منا سبطا هذه الأمة و سيدا شباب أهل الجنة» [2] .


في هذا الجزء من بيانه عليه السلام أشار الامام الي مجموعة من الخصائص النفسية و الذاتية التي أعطاهم الله اياها فميزتهم عمن سواهم من الناس، و أشار الي الفضائل التي جمعها الله تعالي في الأسرة الهاشمية حيث جعل منهم نخبة هذه الأمة و قادتها.

أما المميزات الست التي أشار اليها الامام فهي:

1- العلم و كون العلم ميزة لأهل البيت انما يعني العطاء العلمي الالهي؛ لأنهم لم يأخذوا من غيرهم، فهم أغنياء عمن سواهم من الأمة في علومهم و معارفهم، بينما غيرهم من سائر الأمة محتاج اليهم، فلهم قنواتهم الخاصة التي يستقون منها علومهم و معارفهم.

القناة الأولي: التعلم المباشر من الرسول الأعظم، و هذا يتم بالنسبة الي أميرالمؤمنين و الحسنين عليهم السلام، أو تلقي الامام اللاحق عن الامام السابق، و هذا بالنسبة الي سائر الأئمة عليهم السلام.

القناة الثانية: المصادر الخاصة بهم، و هي الكتب التي دونت بخط علي و املاء رسول الله صلي الله عليه و آله كما تؤكد علي ذلك الروايات ككتاب (جامعة أميرالمؤمنين و أنها من جلد و طولها سبعون ذراعا فيها جميع ما يحتاج اليه الناس من حلال و حرام و غير ذلك حتي أن فيها ارش الخدش و ذلك كله تفصيل ما جاء في القرآن الشريف من الأحكام و غيرها.

و قد سميت فيها ورد عن الصادقين عليهماالسلام من الروايات بالجامعة و الصحيفة و كتاب علي و الصحيفة العتيقة، و قد رآها عند الباقر و الصادق بعض الرواة الثقات من


أصحابهما كأبي بصير و غيره، و ان الأئمة يتبعون ما في هذه الصحيفة و لا يحتاجون الي أحد من الناس في علومهم) [3] .

و منها: الجفر الأبيض و الجفر الأحمر، و هما كتابان أو وعاءان من الجلد أحدهما أبيض و الآخر أحمر، يحتويان علي علوم مدونة مما خصهم الرسول صلي الله عليه و آله بها باملائه و خط علي بن أبي طالب عليه السلام.

القناة الثالثة: هي المدد الغيبي و الالهام الرباني في المجالات التي تحتاج الي هذا الفيض و المدد الالهي الخاص.

و هذه القنوات هي التي يشار اليها في الروايات الواردة عمهم عليهم السلام، ففي (أصول الكافي) بسنده عن أبي الحسن الأول موسي عليه السلام، قال:» مبلغ علمنا علي ثلاثة وجوه: ماض، و غابر، و حادث - الغابر هنا بمعني الآتي - فأما الماضي فمفسر، و أما الغابر فمزبور - أي مكتوب - و أما الحادث فقذف في القلوب و نقر في الأسماع، و هو أفضل علومنا و لا نبي بعد نبينا» [4] .

2- الحلم: و هو (العقل و التؤدة و ضبط النفس عن هيجان الغضب... و ذوو الأحلام و النهي ذوو الأناة و العقول) [5] .

و الحلم من أرفع المكارم الأخلاقية و (المزايا الفاضلة التي لا يمحي أثرها، و لا يمكن أن ينكر فضلها أحد من ذوي الألباب (و كفي بهذا الخلق كمالا كونه من أسماء الله تعالي كما في قوله تعالي: (و الله شكور حليم) [6] .


و قد ورد في الحديث:» تخلقوا بأخلاق الله» [7] لذلك نجد فضيلة الحلم في مقدمة مظاهر الكمال الخلقي التي يتحلي بها الأنبياء و الأئمة الطاهرون عليهم السلام، و هذا عنصر من عناصر تكوينهم و ضرورة من ضرورات رسالتهم في الحياة و دورهم في حياة الناس، و هو ارشادهم و تعليمهم لطرق الكمال الانساني، فلا يمكنهم أداء هذه الرسالة الا بجذب الناس اليهم و الصبر علي جهلهم و نقصهم بالحلم و كظم الغيظ علي ما يصدر منهم من أخطاء و زلات.

و نجد هذا الخلق بأروع مظاهره في سيرة أئمة أهل البيت عليهم السلام، فان الله تعالي قد منحهم من مكارم الأخلاق أرفعها و أكملها.

(روي عن علي بن الحسين بن علي عليهم السلام، أنه سبه رجل فرمي اليه بخميصة كانت عليه و أمر له بألف درهم، فقال بعضهم: جمع له خمس خصال محمودة: الحلم، و اسقاط الأذي، و تخليص الرجل مما يبعد من الله عزوجل، و حمله علي الندم و التوبة، و رجوعه الي المدح بعد الذم، اشتري جميع ذلك بشي ء من الدنيا يسير) [8] .

3- السماحة: و هي الكرم و السخاء، و هو من أبرز جوانب العطاء في حياة أهل البيت عليهم السلام فان حياتهم كلها عطاء و انفاق و سماحة من أجل بناء الأمة من الناحية المادية و المعنوية، و سد ما فيها من ثغرات نتيجة عدم تحكيم القوانين الالهية بالشكل الكامل من قبل الحكام الذين كانت السلطة بأيديهم.

4- الفصاحة: و تعني ملكة الشجاعة الأدبية في ميادين البيان و فنون الكلام، و أوضح دليل علي ما منحه الله لأهل البيت من كمال في هذا المجال ما أثر عنهم من كلام (فان مدرستهم لها أساليبها الخاصة و طابعها المتميز سواء في مجال الخطب، أم في


مجال الأدعية، أم في الحكم و الكلمات القصار، أو النصوص الحديثية، فخذ أي نص من الكلام المنسوب اليهم و قارن بينه و بين أي كلام آخر فانك سوف تجد الفرق واضحا جليا، فان كلامهم تحت كلام الخالق و فوق كلام المخلوقين.

من هنا نجد علماءنا الأعلام كثيرا ما يغضون النظر عن ضعف السند اعتمادا علي قوة النص، فقد صححوا كثيرا من الأدعية مع ضعف سندها نظرا الي ما هي عليه من قوة البلاغة و البيان حيث ينسجم مع مدرستهم و أساليبهم في البيان) [9] .

5- الشجاعة: و هي قوة الارادة و الثبات في الميادين الصعبة و المواقف الخطيرة، و لا ينحصر ذلك في ميادين القتال، بل في كل مجال من مجالات الحياة و تحدياتها التي يحتاج الانسان فيها الي الشجاعة و قوة الارادة و الثبات، و لقد كان أهل البيت عليهم السلام المثل الأعلي في الشجاعة و الصمود في كل ميدان من ميادين التحدي، و سيرتهم أعظم شاهد علي ذلك.

الا أن مواقفهم في الحياة اختلفت و تفاوتت أساليبهم في العمل الا أنها لم تختلف من حيث الهدف و انما هذا الاختلاف اقتضته اختلافات الظروف التي مرت بها أمة الاسلام.

6- المحبة في قلوب المؤمنين: كيف لا تكون المحبة لهم في قلوب المؤمنين و محبتهم جزء من الدين، بل هي روح الايمان، و قد أوجبها الله علي الأمة في قوله تعالي: (قل لا أسألكم عليه أجرا الا المودة في القربي) [10] ، فلا يكتمل ايمان عبد الا بمحبتهم و مودتهم، و قد أوعد الله المؤمنين الصادقين بمودة القلوب في قوله تعالي: (ان الذين آمنوا و عملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) [11] .


(و قد ورد في أسباب النزول من طرق الشيعة و أهل السنة أن الآية نزلت في علي عليه السلام) [12] .

و في (المجمع) في الآية: (قيل: فيه أقوال: أحدها أنها خاصة في علي، فما من مؤمن الا في قلبه محبة لعلي، عن ابن عباس. و في تفسير أبي حمزة الثمالي حدثني أبوجعفر الباقر،قال:» قال رسول الله لعلي: قل: اللهم اجعل لي عندك عهدا و اجعل لي في قلوب المؤمنين ودا. فقالها فنزلت الآية»).

فلو أخذنا باطلاق الآية الكريمة و بكونها وعدا الهيا لعموم المؤمنين الصادقين فان عليا و ولده هم أكمل و أوضح المصاديق لمفهوم الآية الكريمة.

ثم انتقل الامام الي ما فضل الله هذه الأسرة (الأسرة الهاشمية) بأن جعل فيهم نخبة الأمة و طليعتها بدءا من الرسول المختار صلي الله عليه و آله الذي جاء بهذا الدين الذي أنقذ به البشرية و أخرجها من الظلمات الي النور و بني كيان هذه الأمة و رفعها فوق سائر الأمم، و قد لقي في سبيل ذلك المتاعب و واجه كافة التحديات من أحل أمته حتي أصبحت خير أمة أخرجت للناس.

و منهم سادة المجاهدين بين يدي الرسول الأعظم من أجل هذه الأمة و رسالتها و علي رأسهم أميرالمؤمنين و أول المسلمين و خير الصادقين و المصدقين للرسول الأعظم علي بن أبي طالب عليه السلام فكان صديق هذه الأمة.

و منهم جعفر بن أبي طالب الطيار الشهيد في واقعة مؤتة و قد قطعت يداه في المعركة دفاعا عن دين الله و أمة الاسلام، فأخبر النبي صلي الله عليه و آله عن فضله و بأنه قد عوضه الله تعالي بجناحين يطير بهما في الجنة مع الملائكة.

و منهم أسد الله وأسد الرسول و هم عم النبي الحمزة بن عبدالمطلب الذي استشهد


في سبيل الله تعالي في وقعة أحد، فكان سيدشهداء أحد أو سيدالشهداء الذين استشهدوا بين يدي الرسول الأعظم و تحت قيادته.

و منهم سيدة نساء العالمين و بضعة الرسول فاطمة الزهراء التي لم تعرف الدنيا امرأة أفضل و لا أكمل منها، كما نطقت به النصوص النبوية كقوله صلي الله عليه و آله:» فاطمة سيدة نساء أهل الجنة» [13] .

و منهم الحسن و الحسين سبطا هذه الأمة و سيدا شباب أهل الجنة، كما قال في حقهما جدهما الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله:» الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة» [14] .

فهذه النماذج الرفيعة التي أشار اليها الامام السجاد في خطابه تجعل هذه الأسرة هي القاعدة التي انطلقت منها الدعوة، و هي التي احتضنت الرسالة و دافعت عنها في الظروف الحرجة و بذلت الأموال و الدماء من أجل انتصارها.

فكان لها النصيب الأوفر في حمل الاسلام و الدفاع عنه و التضحية من أجله و لم يتأت ذلك و بهذا المستوي لأي الأسرة في الاسلام.

و الجدير بالملاحظة أن الامام السجاد عليه السلام في ذكره لهذه النخبة البشرية من أسرته و أسلافه ذكرهم بالألقاب المشعرة بالفضل و العظمة. فذكر النبي المختار و الصديق و الطيار و أسد الله و أسد رسوله و سيدة نساء العالمين و سبطي هذه الأمة و سيدي شباب أهل الجنة.

توضيحا لمكانة هذه الأسرة التي كانت مجهولة لدي أهل الشام فلا يعرفون شيئا من تاريخها و مواقفها الجهادية و ما جمع الله لها من جوانب الفضل و الفضيلة.


و بعد أن أشار الامام بهذه الاشارات الي ما فضل به أهل البيت بصورة اجمالية أخذ يفصل بشي ء من التفصيل فتحدث عن جده الرسول الأعظم.

أولا: حينما تحدث عن حسبه ونسبه ليوضح علاقة هؤلاء السبايا برسول هذه الأمة فقال:

» فمن عرفني فقد عرفني، و من لم يعرفني أنبأته بحسبي و نسبي، أنا ابن مكة و مني، أنا ابن زمزم و الصفا، أنا ابن من حمل الزكاة بأطراف الرداء، أنا ابن خير من أئتزر و ارتدي، أنا ابن خير من انتعل و احتفي، أنا ابن خير من طاف و سعي، أنا ابن خير من حج و لبي، أنا ابن خير من حمل علي البراق في الهواء، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام الي المسجد الأقصي، فسبحان من أسري، أنا ابن من بلغ به جبرائيل الي سدرة المنتهي، أنا ابن من دنا فتدلي فكان من ربه قاب قوسين أو أدني، أنا ابن من صلي بملائكة السماء، أنا ابن من أوحي اليه الجليل ما أوحي، أنا ابن محمد المصطفي» [15] .

و غرض الامام عليه السلام من حديثه عن جده الرسول الأعظم و ذكره بهذه الخصائص التي جمعها الله تعالي لحبيبه و رسوله المصطفي صلي الله عليه و آله غرضه هو أن يقول للناس: أننا نحن الذين تمثل تلك الفضائل المحمدية و نحن الامتداد الطبيعي لحياة تلك الشخصية التي هي الأكمل و الأفضل من بين كافة البشرية، و لبس كما يدعيه الأمويين لأنفسهم


بأنهم قادة المسلمين و حكامهم، و بأنهم أقرب الناس الي الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله.

ثم انتقل الي الحديث عن جده أميرالمؤمنين الذي شوه النظام الأموي سمعته، و كان المجتمع الشامي يجهل مواقفه و جهاده و ما يتحلي به من خصائص ربانية و علاقة خاصة بالرسول الأعظم صلي الله عليه و آله.

فقال عليه السلام:

» أنا ابن علي المرتضي، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتي قالوا: لا اله الا الله، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين و طعن برمحين و هاجر الهجرتين و بايع البيعتين و صلي القبلتين و قاتل ببدر و حنين، و لم يكفر بالله طرقة عين، أنا ابن صالح المؤمنين و وارث النبيين و قاطع الملحدين و يعسوب المسلمين و نور المجاهدين و زين العابدين و تاج البكائين و أصبر الصابرين و أفضل القائمين من آل ياسين و رسول رب العالمين، أنا ابن المؤيد بجبرئيل المنصور بميكائيل.

أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين، و قاتل الناكثين و القاسطين و المارقين، و المجاهد أعداء الناصبين، و أفخر من مشي من قريش أجمعين، و أول من أجاب و استجاب لله من المؤمنين، و أقدم السابقين، و قاصم المعتدين، و مبير المشركين، و سهم من مرامي الله علي المنافقين، و لسان حكمة العابدين، و عيبة علم الله. سمح سخي بهلول زكي أبطحي رضي


مرضي مقدام همام صابر صوام مهذب قوام شجاع قمقام، قاطع الأصلاب، و مفرق الأحزاب، أربطهم جنانا، و أطلقهم عنانا، و أجرؤهم لسانا، و أمضاهم عزيمة، و أشدهم شكيمة. أسد باسل، و غيث هاطل، يطحنهم في الحروب و يذروهم ذرو الريح الهشيم، ليث الحجاز، صاحب الاعجاز، و كبش العراق، الامام بالنص و الاستحقاق، مكي مدني أبطحي تهامي خيفي عقبي بدري أحدي و شجري مهاجري. من العرب سيدها و من الوغي ليثها وارث المشعرين و أبوالسبطين الحسن و الحسين:، مظهر العجائب، و مفرق الكتائب، و الشهاب الثاقب، و النور العاقب، أسد الله الغالب، مطلوب كل طالب، غالب كل غالب. ذاك جدي علي بن أبي طالب» [16] .

ان المقتضي لهذا الاسهاب من الامام زين العابدين في حديثه عن جده أميرالمؤمنين عليه السلام هو ما أشرنا اليه من تعرض شخصية جده لمحاولة التشوية من قبل الاعلام الأموي، و محاولة طمس مآثره و فضائله و فواضله، مما أدي الي جهل أهل الشام بكل ما يتعلق بشخصيته حتي أصبح يسب علي منابرهم، فأراد الامام السجاد عليه السلام أن يكشف لذلك المجتمع أن هذا الذي شتمه و يشتمه خطباء النظام الأموي هو من يحمل هذه الفضائل التي لم تجتمع لأي فرد من أفراد الأمة، سواء في الفضائل النفسية و الكمالات الذاتية أو المواقف الجهادية. فلقد كان القوة الضاربة بين يدي


رسول الله صلي الله عليه و آله في كل ميادين الجهاد، و لم ينتصر المسلمون في حرب من الحروب في عهد الرسالة الا و كان سيفه محور ذلك الانتصار.

و أما منزلته و مقامه من النبي صلي الله عليه و آله فهي تلك المنزلة التي لم تكن لأي فرد من الأفراد ممن كانوا حول الرسول صلي الله عليه و آله من الأقربين و الأبعدين، فهو أخوه و ناصره و أبوذريته و خليفته، بل هو نفسه كما قرر ذلك كتاب الله في آية المباهلة.

فأين هذه الصورة التي عرضها الامام السجاد لجده أميرالمؤمنين عليه السلام من الصورة التي كونها الأمويون في الذهنية العامة للمجتمع الشامي للامام علي عليه السلام.

فبهذا البيان مزق ذلك الغشاء الذي أراد الأمويون به طمس الحقيقة.

ثم تابع الامام السجاد حديثه عن أسلافه فقال:

»أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيدة النساء، أنا ابن الطهر البتول، أنا ابن بضعة الرسول صلي الله عليه و آله، أنا ابن الحسين القتيل بكربلاء، أنا ابن المزمل بالدماء، أنا ابن من بكي عليه الجن في الظلماء، أنا ابن من ناحت عليه الطير في الهواء» [17] .

و لم يزل يقول أنا حتي ضج الناس بالبكاء و النحيب) [18] .

هكذا أعطي الامام عليه السلام، لأسرته و أسلافه هذه الصورة المقدسة التي توضح مكانتهم من الاسلام و تبين مدي الاجحاف و الظلم الذي تعرض له أهل البيت من هذه الأمة مقابل ما قدموه من خدمات و تضحيات لم تقدمها أي أسرة أخري في الاسلام.

و الجدير بالذكر أنه لو لا هذه المسيرة التي قطعها سبايا أهل البيت الي الشام لما


أتيحت الفرصة لأي فرد من أهل البيت أو من أتباعهم بأن يقوم بهذه الدور الخطير الذي قام به الامم مع ركب السبايا من زخم اعلامي في خدمة أهداف الثورة و معطياتها و التي من أهمها بيان مقام أهل البيت من الرسول و الاسلام و القرآن.

حتي (خشي الطاغية من وقوع الفتنة و حدوث ما لا يحمد عقباه، فقد أوجد خطاب الامام انقلابا فكريا في المجلس الطاغية، و قد بادر بالايعاز الي المؤذن أن يؤذن ليقطع علي الامام كلامه فصاح المؤذن: (الله اكبر) فقال الامام:» كبرت كبيرا لا يقاس و لا يدرك بالحواس، لا شي ء أكبر من الله» فلما قال المؤذن:» أشهد أن لا اله الا الله) قال علي بن الحسين:» شهد بها شعري و بشري و لحمي و دمي و مخي و عظمي».

و لما قال المؤذن: (أشهد أن محمدا رسول الله) التفت علي بن الحسين الي يزيد فقال له:» يا يزيد، محمد هذا جدي أم جدك؟ فان زعمت أنه جدك فقد كذبت، و ان قلت: انه جدي، فلم قتلت عترته؟!» [19] .

و بعد هذين الخطابين اللذين أدلت بهما الحوراء زينب و الامام زين العابدين أصبحت فاجعة كربلاء هي الحديث الذي يجري بين كل اثنين في المجتمع الشامي. و بهذا وجدت أصداء الثورة طريقها الي الأفكار و القلوب، حتي تأكد يزيد أن بقاء سبايا آل محمد في الشام يشكل خطرا عليه و علي حكمه، لذلك أمر بتعجيل اخراجهم و ارجاعهم الي المدينة، و خرج ركب السبايا راجعا نحو الحجاز بعد أداء تلك الرسالة الاعلامية المقدسة.



پاورقي

[1] حياة الامام الحسين ج 3 ص 385.

[2] مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 71 - 69، کما حکاه عنه غير واحد، و البحار ج 45 ص 138، و لم يذکر اسم فاطمة من ضمنهم و أوعز هذا المقطع الي المناقب لابن‏شهر آشوب و لم أجده فيه. و في العوالم کما في البحار عينا، أما بقية المصادر مثل الفتوح لابن‏أعثم و المناقب و مثير الأحزان فلم يذکروا هذا المقطع ضمن خطبة. الامام سجاد عليه‏السلام، و انما تبدأ الخطبة بقوله: «فمن عرفني فقد عرفني...».

[3] اشراقات فکرية ص 97.

[4] أصول الکافي ج 1 ص 264، ط ايران.

[5] مجمع البحرين ج 6 ص 49.

[6] التغابن: 17.

[7] شرح الأسماء الحسني لملا هادي السبزواري ج 2 ص 41، و البحار ج 58 ص 129.

[8] الأخلاق الاسلامية ص 205.

[9] اشراقات فکرية من أنوار الخطبة الفدکية ص 54.

[10] الشوري: 23.

[11] مريم: 96.

[12] الميزان في تفسير القرآن ج 14 ص 113.

[13] صحيح البخاري کتاب فضائل الصحابة باب 12 قبل حديث رقم 3711، و باب 29 مناقب فاطمة قبل حديث رقم 3767.

[14] الجامع الصحيح الترمذي ج 5 ص 614 حديث 3768، و قال: هذا حديث حسن صحيح، و ج 5 ص 619 حديث 3781.

[15] مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 69.

[16] مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 70.

[17] مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 71.

[18] نقلنا الخطبة من مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 71 - 69، بواسطة جهاد الامام السجاد ص 51.

[19] حياة الامام الحسين ج 3 ص 288.