بازگشت

البيانات الاعلامية في الكوفة


ان الخطب التي أدلي بها سبايا آل محمد صلي الله عليه و آله في مسيرة السبي لتعتبر من أقوي البيانات الاعلامية للثورة الحسينية سواء كان ذلك في الكوفة أو في الشام، الا أن الملاحظ هو وجود تفاوت بين خطب الكوفة و بين خطب الشام، فان لكل قسم محاور خاصة نظرا لاختلاف الأجواء الاجتماعية التي يعيشها مجتمع الكوفة عن الأجواء السائدة في مجتمع الشام.

و بيانات الكوفة تتمثل في التالي:

1- خطبة عقيلة البيت الهاشمي زينب ابنة علي أميرالمؤمنين عليهاالسلام.

2- خطبة الامام زين العابدين عليه السلام.

3- خطبة فاطمة الصغري بنت الحسين عليهاالسلام.

4- خطبة أم كلثوم بنت علي عليهاالسلام.

و قد أكدت هذه البيانات (الخطب) علي محاور مهمة و خطيرة هي من أهم أهداف الثورة المقدسة، من أبرز تلك المحاور:

أ - الحديث عن فاجعة الطف و ما فيها من بشاعة الجريمة التي تدل علي خسة ولؤم مرتكبيها، و أنهم بعيدون عن روح الأنسانية فضلا عن الروح الاسلامية و أن هذه الفاجعة ليست كأي كارثة تحدث في التاريخ.


نظرا للأساليب الانتقامية التي قام بها القتلة المجرمون تجاه القتلي الشهداء و العائلة الكريمة، من القتل و التمثيل و حمل الرؤوس علي الحراب و حرق المخيمات و نهب كل ما فيها، و التعدي علي العائلة بالضرب و الاهانات و تسيير النساء و الأطفال سبايا و كأنهم من سبايا الروم و الديلم.

و مما يزيد الموقف فداحة و خسة أن المرتكبين لهذه الجريمة الكبري هم الذين بعثوا رسائلهم الي الامام الحسين عليه السلام يدعونه للمسير اليهم و قد أعطوه العهد و الميثاق و بايعوه علي السمع و الطاعة علي يد سفيره مسلم بن عقيل، و بعد ذلك خانوا عهودهم و نقضوا بيعتهم و خرجوا علي من بايعوه و عاهدوه فارتكبوا في حقه أبشع جريمة عرفها التاريخ، حيث انهم قتلوه هو و أصحابه و أهل بيته بأسلوب يدمي القلوب و يذهل الأفكار لبعده عن الرحمة الانسانية.

و بعد ارتكاب هذه الفاجعة عادوا يبكون و ينتحبون و يعلنون ندمهم علي ما ارتكبوا، الا أن الندم سوف يلازمهم الي الأبد، و سوف يبقي ذلك المجتمع و ما ارتكبه من جرم في حق العترة الطاهرة سيبقي و صمة عار في جبين هذه الأمة و صفحة سوداء في تاريخها.

فقد خطب الامام زين العابدين عليه السلام فيهم بعد أن أومأ الي الناس أن اسكتوا، فلما سكتوا حمد الله و أثني عليه و ذكر النبي فصلي عليه، ثم قال:

» أيها الناس من عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنا ابن من انتهكت حرمته و سلبت نعمته و انتهب ماله و سبي عياله، أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل و لا ترات، أنا ابن من قتل صبرا و كفي


بذلك فخرا، أيها الناس فأنشدكم الله هل تعلمون أنكم كتبتم الي أبي و خدعتموه و أعطيتموه من أنفسكم العهود و الميثاق و البيعة و قاتلتموه، فتبا لكم لما قدمتم لأنفسكم و سوأة لرأيكم بأية عين تنظرون الي رسول الله صلي الله عليه و آله، اذ يقول لكم قتلتم عترتي و انتهكتم حرمتي فلستم عن أمتي».

و علت الأصوات بالبكاء و نادي مناد منهم: هلكتم و ما تعلمون.

و استمر الامام في خطابه فقال:

» رحم الله امرأ قبل نصيحتي و حفظ وصيتي في الله و في رسوله و أهل بيته، فان لنا في رسول الله صلي الله عليه و آله أسوة حسنة».

فهتفوا جميعا قائلين بلسان واحد: نحن يابن رسول الله، سامعون مطيعون حافظون لذمامك غير زاهدين فيك و لا راغبين عنك، فمرنا بأمرك يرحمك الله، فانا حرب لحربك و سلم لسلمك ممن ظلمك و ظلمنا.

فرد الامام عليهم هذا الولاء الكاذب قائلا:

» هيهات هيهات أيها الغدرة المكرة حيل بينكم و بين شهوات أنفسكم، أتريدون أن تأتوا الي كما أتيتم الي أبي من قبل، كلا و رب الراقصات فان الجرح لما يندمل، قتل أبي - صلوات الله عليه - بالأمس و أهل بيته و لم ينسني ثكل رسول الله و ثكل أبي


و بني أبي، و وجده بين لهاتي، و مرارته بين حناجري و حلقي، و غصته تجري في فراش صدري» [1] .

أشعرهم الامام عليه السلام بأن ما أبدوه له من استعداد للامتثال لأمره و الوقوف معه و بأنهم سوف يكونون له أنصارا يحاربون من يحارب و يسالمون من يسالم، أشعرهم بأنهم غير صادقين في ما يدعون، و هيهات هيهات أن ينخدع بهم و بذلاقة ألسنتهم و بالأمس جري منهم ما جري علي صعيد كربلاء، و لا يمكن أن تزول تلك الصور المفجعة عن عينيه أو تبارح مخيلته، فلا زالت و لن تزول مرارتها و غصتها في صدره تقض عليه مضاجعه، فكيف ينسي و قد رأي بأم عينيه ما جري علي أبيه و اخوته و عمومته و بني عمومته و الأصحاب من الأحداث الجسام و المصائب العظام التي سوف تبقي مدي الدهي تتذكرها الأجيال؟!

و أما الحوراء زينب بنت علي عليهاالسلام (فقد أو مأت الي الناس فسكنت الأنفاس و الأجراس، فاندفعت عقيلة البيت الهاشمي فقالت:

» الحمد لله و الصلاة علي أبي محمد و آله الطيبين الأخيار، أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختل و الغدر، أتبكون فلا رقأت الدمعة و لا هدأت الرنة، انما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا، تتخذون أيمانكم دخلا بينكم. ألا و هل فيكم الا الصلف و النطف و العجب و الكذب و الشنف و ملق الاماء و غمز الأعداء، أو كمرعي علي دمنة أو كقصة (كفضة) علي ملحودة،


ألا بئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم و في العذاب أنتم خالدون». [2] .

في هذا الجزء من بيانها أعطت بطلة كربلاء صورة واضحة و دقيقة عن المجتمع الكوفي و واقعة السي ء فأشارت الي مجموعة من الصفات السيئة و الظواهر الانحرافية البارزة في حياة ذلك المجتمع، تلك الصفات التي جعلته من أحط المجتمعات أخلاقا و سلوكا.

و هي كما يلي:

الختل: و هو الخداع و المراوغة.

الغدر: و هو ترك الوفاء و نقض العهد.

و هنا ضربت لهم الحوراء مثلا قرآنيا حيث كان ينطبق عليهم تمام الانطباق و هو قوله تعالي: (و لا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربي من أمة) [3] .

قال المفسرون: ان (الآية تشير الي)رايطة (تلك المرأة التي عاشت في قريش زمن الجاهلية و كانت هي و عاملاتها يعملن من الصباح حتي منتصف النهار في غزل ما عندهن من الصوف و الشعر، و بعد أن ينتهين من عملهن تأمرهن بنقض ما غزلن، و بهذا عرفت بين قومها بالحمقاء، فما كانت تقوم به رايطة لا يمثل عملا بلا ثمر فحسب، بل هو الحماقة بعينها، و كذا الحال بالنسبة لمن يبرم عهدا مع الله و باسمه ثم يعمل علي نقضه، فهو ليس بعابث فقط و انما هذا دليل علي انحطاطه و سقوط شخصيته، (تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربي من أمة) أي لا


تنقضوا عهودكم مع الله بسبب أن تلك المجموعة أكبر من هذه فتقعوا في الخيانة و الفساد) [4] .

و هذا منطبق علي مواقف أهل الكوفة من الامام الحسين الشهيد عليه السلام حيث أعطوه عهودهم و مواثيقهم ثم خانوا تلك العهود و نقضوا تلك المواثيق و انظموا الي أعداء أهل البيت و أعداء الأمة؛ لأن القوة و الكثرة الي جانب الأمويين، فكان الختل و الغدر و الخيانة من أبرز المساوي ء الأخلاقية لذلك المجتمع الي جانب بقية الصفات التالية و هي:

الصلف: و هو ادعاء الانسان بما ليس فيه تكبرا.

و النطف: و هو القذف بالفجور.

و العجب: و هو الزهو، و رجل معجب مزهو بما يكون منه حسنا أو قبيحا.

و الكذب: و هو عدم الصدق في القول و العمل.

و الشنف: و هو البغض بغير حق.

و ملق الاماء: و الملق هو أن يعطي الانسان بلسانه ما ليس في قلبه و هو نوع من النفاق الاجتماعي.

و غمز الأعداء: و الغمز هو الطعن و العيب، و أشد ما يكون الطعن اذا كان عن عداوة.

أو كمرعي علي دمنة: و هو النبت الجميل المنظر الذي ينبت علي دمنة و هي المزبلة.

أو كقصة (كفضة) علي ملحودة: و القصة الجص و الملحودة القبر.

و في هاتين الصفتين (كمرعي علي دمنة أو كقصة علي ملحودة) شبهتهم الحوراء:


أولا: بالنبات الأخضر الجميل الذي يكون منبته في وسط المزابل، تعبيرا عما يتظاهرون به من صفات خارجية خادعة، الا أن جذورها في منابت السوء و الخبث.

ثانيا: بالقبر المجصص فهو جميل في ظاهره الا أنه قد انطوي علي جيفة منتنة، لو كشف عن باطنه لبرزت الرائحة النتنة و بدا المظهر الذي تمشئز منه النفوس، فقد كان أهل الكوفة يبرزون أنفسهم بمظاهر تخدع الآخرين الا أن بواطنهم كالجيف.

هذه هي أبرز مساوي ء المجتمع الكوفي في تشخيص الحوراء عليهاالسلام، و هي أمهات الرذائل و مساوي ء الأخلاق التي تهدم حياة المجتمعات، فأي مجتمع تسوده هذه الصفات فانه سوف يصبح مجتمعا ضعيفا متقلبا في مواقفه و سلوكه و يبتعد عن الفضائل الانسانية، و تسهل السيطرة عليه من قبل أعدائه و تسخيره لأهدافهم كما كان عليه مجتمع الكوفة.

و اذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما و عويلا.

و العامل الرئيس في وجود هذه الأمراض الاجتماعية هو ضعف الروح الدينية و الايمانية الواعية التي متي أصبحت قوية و ثابتة في نفس الانسان فانها تعطيه القوة و الثبات في مواقفه و يعيش بعيدا عن التذبذب و التأرجح في قراراته، فتسود المجتمع مظاهر الفضيلة.

و هذا ما يفتقر اليه المجتمع الذي تحدثت عنه العقيلة زينب عليهاالسلام، وفي ظني لو أن عددا من الخبراء الاجتماعيين و النفسانيين قاموا بدراسة شاملة لأوضاع ذلك المجتمع و تحليل الظواهر الاجتماعية السائدة فيه، فانهم لن يعطوا وصفا دقيقا في تشخيص ما فيه من أمراض اجتماعية أدق و أشمل مما أعطته زينب الحوراء عليهاالسلام من دقة الوصف و التشخيص في بيانها القصير.


و لا غرابة أن يصدر ذلك من هذه المرأة العظيمة، و ما عسي أن يقول انسان في شأنها بعد شهادة الامام زين العابدين و هو الامام المعصوم الذي يعني ما يقول و لا يرسل الألقاب جزافا حينما يخاطب عمته زينب قائلا:» اسكتي يا عمة، فأنت بحمد الله عالمة غير معلمة، و فهمة غير مفهمة».

و تابعت الحوراء خطابها فقالت:

» أتبكون و تنتحبون، اي و الله فابكوا كثيرا و اضحكوا قليلا، فلقد ذهبتم بعارها و شنارها و لن ترحضوها بغسل بعدها أبدا، و أني ترحضون قتل سليل خاتم النبوة و معدن الرسالة و مدرة حجتكم و منار محجتكم و ملاذ خيرتكم و مفزغ نازلتكم و سيد شباب أهل الجنة، ألا ساء ما تزرون.

فتعسا و نكسا و بعدا لكم و سحقا، فلقد خاب السعي و تبت الأيدي، و خسرت الصفقة، و بؤتم بغضب من الله و رسوله، و ضربت عليكم الذلة و المسكنة. ويلكم يا أهل الكوفة أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم؟! و أي كريمة له أبرزتم؟! و أي دم له سفكتم؟! و أي حرمة له انتهكتم؟! لقد جئتم شيئا ادا تكاد السماوات يتفطرن منه و تنشق الأرض و تخر الجبال هدا.

و لقد أتيتم بها خرقاء شوهاء كطلاع الأرض و ملأ السماء، أفعجبتم أن مطرت السماء دما و لعذاب الآخرة أخزي و هم لا ينصرون، فلا يستخفنكم المهل فانه لا يحفزه البدار و لايخاف


فوت الثار، و ان ربكم لباالمرصاد.»

فقال الامام السجاد:» اسكتي يا عمة، فأنت بحمدالله عالمة غير معلمة، و فهمة غير مفهمة.» [5] .

و هنا وضعت الحوراء عليهاالسلام نصب أعينهم نتائج أعمالهم فأشارت الي أن هذا البكاء الخادع سيكون من لوازم حياتهم و وجودهم، فقد باؤوا بالعار الذي لا يغسل و الخزي الدائم؛ لأنهم عمدوا الي قتل فرع النبوة و سليل صاحب الرسالة، و من كان لهم المفزع عند الملمات و الملاذ الذي يلتجأ اليه في النوازل، و الحجة التي نصبت من قبل الله علي العباد و هو سيد شباب أهل الجنة، فقد خاب سعيهم و خسرت صفقتهم، و نتيجة ذلك أن سيحل بهم غضب الله تعالي و سيشملهم الذل و المسكنة.

ثم تساءلت الحوراء ألم يكونوا يعلمون في حق من ارتكبوا هذه الفاجعة؟! بلي لقد كانوا علي علم من ذلك و لا يجهلون هذا الأمر بأنهم قد ارتكبوا أعظم فاجعة عرفها التاريخ؛ لأنهم قد مزقوا كبد رسول الأمة بأسيافهم و رماحهم و انتهكوا حرمته و حرمة الاسلام بابرازهم لحرائر النبوة و مخدرات الامامة، فلا عجب - لأجل ذلك - لو أصيب النظام الكوني بالاضطراب و تفطرت السماوات و انشقت الأرض و خرت الجبال هدا، و لا غرابة لو أن السماء بكت لهذه الفاجعة فأمطرت دما.

ثم حذرتهم بألا يغتروا بحلم الله تعالي عليهم و أناته، حيث لم يعجل عليهم النقمة و العذاب، فانه تعالي لا يفوته شي ء و انما يعجل من يخاف الفوت، و انه للظالمين لبالمرصاد، و لعذاب الآخرة أشد و أخزي.


و قد خطبت السيدة أم كلثوم موجهة كلامها أيضا الي ذلك الحشد الذي استقبلهم بالبكاء الخادع الكاذب فقالت:

» مه يا أهل الكوفة، تقتلنا رجالكم و تبكينا نساؤكم، فالحكم بيننا و بينكم الله يوم فصل الخطاب، يا أهل الكوفة سوأة لكم، خذلتم حسينا و قتلتموه و انتهبتم أمواله و سبيتم نساء و نكبتموه، فتبا لكم و سحقا. ويلكم، أتدرون أي دواه دهتكم، و أي وزر علي ظهوركم حملتم، و أي دماء سفكتم، و أي كريمة أصبتموها، و أي صبية أسلمتموها، و أي أموال انتهبتموها. قتلتم خير الرجالات بعد النبي صلي الله عليه و آله، و نزعت الرحمة من قلوبكم ألا ان حزب الله هم المفلحون و حزب الشيطان هم الخاسرون».

و اضطراب المجتمع من خطابها فنشرت النساء شعورهن و لطمن الخدود و لم ير أكثر باك و لا باكية مثل ذلك اليوم.) [6] .

هذا هو المحور الأول الذي تدور عليه هذه البيانات، حيث كان الكلام ينصب علي توضيح عظم الفاجعة و آثارها علي مرتكبيها و علي الأمة كافة، و توجيه التأنيب و التقريع الي المجتمع الكوفي لما ارتكبه من فجائع مؤلمة و جرائم مخزية.

أما المحور الثاني لبيانات الكوفة فهو الحديث عن قضية أهل البيت و معاناتهم من هذه الأمة بدءا من معاناة أميرالمؤمنين عليه السلام، فان فاجعة الطف انما هي الحلقة الأبرز و الأفضع من بين حلقات المعاناة التي واجهها أهل البيت عليهم السلام، فليست هي أول جريمة ترتكب في حقهم من قبل الأمة لا سيما من المجتمع الكوفي.


و قد (انبرت الي الخطابة فاطمة بنت الامام الحسين عليهاالسلام فخطبت أبلغ الخطاب و أروعه، و كانت طفلة، فبهر الناس ببلاغتها و فصاحتها، و قد أخذت بمجامع القلوب و تركت الناس حياري قد بلغ بهم الحزن الي قرار سحيق، فقالت:

» الحمد لله عدد الرمل و الحصي وزنة العرش الي الثري، أحمده و أومن به، و أتوكل عليه، و أشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له، و أن محمدا عبده و رسوله صلي الله عليه و آله، و أن أولاده ذبحوا بشط الفرات بغير ذحل و لا ترات.

اللهم اني أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب، و أن أقول عليك خلاف ما أنزلت عليه من أخذ العهود لوصيه علي بن أبي طالب المسلوب حقه المقتول من غير ذنب - كما قتل ولده بالأمس - في بيت من بيوت الله فيه معشر مسلمة بألسنتهم، تعسا لرؤوسهم ما دفعت عنه ضيما في حياته و لا عند مماته حتي قبضته اليك محمود النقيبة، طيب العريكة، معروف المناقب، مشهور المذاهب، لم تأخذه فيك اللهم لومة لائم، و لا عذل عاذل و هديته اللهم للاسلام صغيرا و حمدت مناقبه كبيرا، و لم يزل ناصحا لك و لرسولك صلي الله عليه و آله زاهدا في الدنيا غير حريص عليها، راغبا في الآخرة، مجاهدا لك في سبيلك، رضيته فاخترته و هديته الي صراط مستقيم.».


ان حديث السيدة فاطمة بنت الامام الحسين عليه السلام عن جدها أميرالمؤمنين عليه السلام و رجوعها الي الماضي و الاشادة بخصائص الامام علي، انما هي عملية ربط بين الأحداث التاريخية في حلقاتها المترابطة.

ان كل ما وقع علي أهل البيت من مآسي و ما واجهوه من القتل و ابادة، كل ذلك نتائج عن الحدث الأول و هو ابعاد الامام علي عن مركز القيادة بعد وفاة الرسول القائد صلي الله عليه و آله، و تجاهل الأمة لا يتمتع به علي عليه السلام من خصائص تجعله فوق من سواه من أفراد الأمة و تحدد موقعه القيادي، فترتبت علي هذا الموقف من الأمة تجاه أميرالمؤمنين عليه السلام النتائج اللاحقة تجاه العترة الطاهرة، تحيث لا يمكن الفصل بين فاجعة الطف و بين ما سبقها من الأحداث، و أس ذلك الغلطة الأولي التي وقع فيها المسلمون.

و أشارت السيدة فاطمة الي ما واجهه أميرالمؤمنين عليه السلام من معاناة و مرارة من مجتمع الكوفة من حالات التمرد و العصيان حتي امتلأ قلبه جروحا، و ختم هذه المعاناة بأن قتل بينهم في بيت من بيوت الله.

و واصلت السيدة بنت الحسين عليه السلام خطابها مشيرة الي مواقف هذا المجتمع تجاه أهل البيت بشكل عام، فقالت:

» أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل المكر و الغدر و الخيلاء، فانا أهل بيت ابتلانا الله بكم و ابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسنا، و جعل علمه عندنا و فهمه لدينا، فنحن عيبة علمه و وعاء فهمه


و حكمته و حجته علي الأرض في بلاده لعباده، أكرمنا الله بكرامته و فضلنا بنبيه محمد صلي الله عليه و آله علي كثير ممن خلق الله تفضيلا، فكذبتمونا و كفرتمونا و رأيتم قتالنا حلالا و أموالنا نهبا، كأننا أولاد ترك أو كابل، كما قتلتم جدنا بالأمس و سيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد متقدم، قرت لذلك عيونكم و فرحت قلوبكم افتراء علي الله و مكرا مكرتم و الله خير الماكرين، فلا تدعونكم أنفسكم الي الجذل بما أصبتم من دمائنا و نالت أيدكم من أموالنا، فانما أصابنا من المصائب الجليلة و الرزايا العظيمة (في كتاب من قبل أن نبرأها ان ذلك علي الله يسير - لكي لا تأسوا علي ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم و الله لا يحب كل مختال فخور) [7] .

لعمري، ان البيان الذي أدلت به هذه السيدة الجليلة ليدل علي أفق واسع و فكر و قاد و قابلية رفيعة في فهم الأمور و هضم الأحداث و ترتيب نتائجها علي مقدماتها، مع العلم أن هذه السيدة لم تكن في السن الذي يسمح لها في فهم الأمور من خلال التجارب الحياتية و تلقيها علي مرور السنين كما هي العادة في حياة الناس ما عدا النوابغ و الموهوبين الذين منحوا الفكر المميز و العبقرية النادرة، و هؤلاء يوجدون بنسبة قليلة في كل المجتمعات، و ان السيدة بنت الحسين عليه السلام هي من أسرة اجتمعت لها جوانب الفضل و الفضيلة و توفرت لها عناصر النبوغ و العبقرية المبكرة، و هذا ما أشار


اليه جدها أميرالمؤمنين عليه السلام مشيرا الي ملكة الشجاعة الأدبية عند أهل البيت عليهم السلام، قال عليه السلام:» و انا لأمراء الكلام، و فينا نشبت عروقه، و علينا تهدلت غصونه» [8] .

فلا غرابة من أن تكون هذه الطفلة في سنها الجليلة في فضلها و وعيها علي هذا المستوي من قوة البيان و رصانة المنطق، فقد أشارت الي ما منحهم الله تعالي من علم و فضل، حيث جعلهم معدن علمه و منابع فضله.

ثم أشارت الي ما حل بهم علي أيدي أهل الكوفة من الرزايا العظيمة و الكوارث الجسيمة من القتل و النهب و الأسر و السبي، و أكدت أن في ذلك ابتلاء لأهل البيت من جهة، و ابتلاء لأهل الكوفة و للأمة من جهة أخري.

فهو ابتلاء لأهل البيت كابتلاء الأنبياء و الرسل و الأولياء، يرفع الله بذلك درجاتهم و مقاماتهم عنده تعالي.

و هو ابتلاء لأهل الكوفة و للأمة (ليهلك من هلك عن بينة و يحيي من حي عن بينة) (و ليمحص الله الذين آمنوا) كما كان ذلك لأمم الأنبياء و الرسل.

الا أن أهل الكوفة، بل الأمة كلها، نتيجة هذا الابتلاء لم يحي منها الا القليل، و كان الهلاك نصيب الأكثرية كما هي نتائج الابتلاءات الالهية في الأمم السابقة.

و تابعت ابنة الحسين خطابها لأهل الكوفة محذرة لهم غب ما فعلوه، و بأنهم سوف يجنون ثمار ما كسبت أيديهم و ما ارتكبوه في حق عترة خاتم النبيين فلينتظروا، ذلك و ما عذاب الله من الظالمين ببعيد.

قالت عليهاالسلام:

» تبا لكم فانتظروا اللعنة و العذاب، فكأن قد حل بكم و تواترت من السماء نقمات فيسحتكم بعذاب و يذيق بعضكم بأس


بعض، ثم تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا، ألا لعنة الله علي الظالمين.

ويلكم أتدرون أية يد طاعنتنا منكم؟! و أية نفس نزعت الي قتالنا؟! أم بأية رجل مشيتم الينا تبغون محاربتنا؟! و الله قست قلوبكم، و غلظت أكبادكم، و طبع علي أفئدتكم، و ختم علي سمعكم و بصركم، و سول لكم الشيطان و أملي لكم، و جعل علي بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون.

فتبا لكم يا أهل الكوفة، أي تراث لرسول الله صلي الله عليه و آله قبلكم و ذحول له لديكم بما غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب جدي و ببنيه و عترته الطيبين الأخيار؟! فافتخر بذل مفتخر:



قد قتلنا عليكم و بنيه

بسيوف هندية و رماح



و سبينا نساءهم سبي ترك

و نطحناهم فأي نطاح



بفيك أيها القائل الكثكث و الأثلب، افتخرت بقتل قوم زكاهم الله و طهرهم و أذهب عنهم الرجس، فاكظم واقع ذكما أقعي أبوك، فانما لكل امري ء ما كسب و ما قدمت يداه. أحسدتمونا ويلكم علي ما فضلنا الله.




فما ذنبنا ان جاش دهرا بحورنا

و بحرك ساج ما يواري الدعامصا



(ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم) [9] .

(و من لم يجعل الله له نورا فما له من نور) [10] » [11] .

و لك أن تتصور مدي تأثير هذه البيانات في نفوس تلك الجماهير و ما تركته من ردود فعل متفاوته، و بالامكان أن نقسم ذلك الجمهور الي قسمين رئسيين:

القسم الأول: هو القسم الذي شارك في معركة الطف و باشر الحرب و علي أيدي هؤلاء تمت الجريمة و حدثت الفاجعة، و ان تأثير خطب سبايا أهل البيت علي هذا القسم هو تعميق الشعور بالخيبة و الحسرة الدائمة، حيث انهم قد اغلقوا علي أنفسهم باب الرحمة و لا يمكنهم تلافي الموقف، فلقد خسروا الدنيا و الآخرة، ألا ان ذلك هو الخسران المبين.

القسم الثاني: هم الذين لم يشتركوا في المعركة و لم يخرجوا لحرب الامام عليه السلام، الا أنهم وقفوا منه موقف الخاذل و لم يفوا بما أعطوه من وعود و عهود، و لا شك أن هذا الموقف يمثل جانبا آخر من الكارثة، الا أن هؤلاء و ان لم يحاربوا الي جانب معسكر ابن زياد الا أنهم خذلوا الحق و أضعفوه و أسلموه في أيدي الباطل.

و من الطبيعي أن تتفاوت ردة الفعل عند هؤلاء عن ردة الفعل عند القسم الأول فان ردة الفعل عند هذا القسم هو الشعور بالندم علي التفريط و سوء الموقف، الا أن لديهم مجالا للتكفير عن ذلك و ليس أمامهم طريق الا الانضمام الي جماهير الثورة


فيما بعد الواقعة، و أن يقرروا القيام للانتقام من المجرمين القتلة أو يقتلوا كما قتل الشهداء علي ثري الطف.

فكأن هذا الشعور من أهم العوامل في بلورة الثورة في النفوس و اثارة الحماس الشديد في مواجهة النظام الأموي و توسيع المد الثوري الذي رفع شعار الأخذ بثأر الحسين عليه السلام.

فقد (ندم أهل الكوفة أشد الندم علي خذلانهم للامام و جعلوا يتلاومون علي ما اقترفوه من عظيم الاثم، و قد أجمعوا علي اقرارهم بالذنب في خذلانه و لزوم التكفير عنه بالمطالبة بثأره.

و قد عقدوا مؤتمرا في منزل سليمان بن صرد الخزاعي و هو شيخ الشيعة و صاحب رسول الله صلي الله عليه و آله و ذو السابقة و القدم في الاسلام، فقد تداولوا الحديث فيما بينهم و رأوا أنه لا يغسل عنهم العار و الاثم الا بقتل من قتل الحسين عليه السلام، و قد ألقيت في قاعة الحفل عدة خطب حماسية، و هي تدعو الي التلاحم و وحدة الصف للأخذ بثأر الامام العظيم.

و كان انعقاد المؤتمر فيما يقول المؤرخون في سنة (61 ه) و هي التي قتل فيها الحسين) [12] .

و من هذا المؤتمر انطلقت ثورة التوابين للأخذ بثأر الامام الشهيد، و تسمية هؤلاء الثائرين أنفسهم بالتوابين يعبر عن حالة الشعور بالذنب العظيم تجاه الامام و ثورته، و اعلان التوبة من ذلك الذنب.

فأعلنوا ثورتهم سنة (65 ه) و اصطدموا مع النظام الأموي في منطقة تسمي (عين الوردة)، فكانت نتيجة المعركة أن قتل الكثير منهم و استطاع جيش العدو أن يسيطر علي الموقف.


فالتوابون يمثلون هذا التيار في المجتمع الكوفي.

و عاد هذا المد الثوري الي الظهور في الكوفة مرة أخري متمثلا في ثورة المختار الثقفي الذي استطاع أن يستأصل أولئك القتلة المجرمين الذين ارتكبوا فاجعة كربلا.

(فقد جهد علي الانتقام منهم و تطهير الأرض من أولئك الأرجاس، و قد قتل منهم فيما يقول الطبري في يوم واحد مائتين و ثمانين رجلا، و لم يفلت أحدا من قادتهم و زعمائهم، فقتل المجرم عبيدالله بن زياد و عمر بن سعد مع ولده حفص، و قتل الأبرص شمر بن ذي الجوشن و رمي بجيفته الكلاب، و قتل قيس بن الأشعث و الحصين بن نمير و شبث بن ربعي و غيرهم) [13] .

و هكذا أصبحت الكوفة قاعدة لانطلاقة العديد من الثورات في وجه الأمويين كثورة زيد بن علي بن الحسين و يحيي بن زيد، و كل ذلك أصداء لتلك الثورة المقدسة و دماء أولئك الأحرار.

و لا شك ان من أهم الأسباب في تبلور الفكر الثوري و الروح الجهادية هو ما أدلي به عقائل النبوة و سبايا آل محمد من البيانات الخطابية لتعميق الثورة في وجدان الجماهير.



پاورقي

[1] نقلنا نص الخطبة من اللهوف ص 93 - 92، و مثير الاحزان لابن نما ص 70 - 69 طبع الحيدرية و اللفظ للأول.

[2] مقتل المقرم ص 203.

[3] النحل: 92.

[4] تفسير الأمثل ج 8 ص 275.

[5] مقتل المقرم ص 204 - 203.

[6] مقتل المقرم ص 208.

[7] الحديد: 23 - 22.

[8] نهج‏البلاغة قطعة رقم 233 صبحي الصالح.

[9] الحديد: 21.

[10] النور: 40.

[11] اللهوف لابن‏طاووس ص 89 و ص 90، مثير الأحزان لابن نما ص 67 و ص 68 و اللفظ للأول.

[12] حياة الامام الحسين ج 3 ص 450.

[13] حياة الامام الحسين ج 3 ص 405.