بازگشت

المنكرون


هناك صنف من الناس يصعب عليه الاذعان و الايمان بأن للانسان حياة أخري غير هذه الحياة يرجع اليها ليأخذ نتيجة عمله في هذه الحياة، و يستبعد ذلك لأنه لم ير بعينه انسانا يحيي من جديد بعد موته و تلاشيه.

و اذا ما رجعنا الي حديث القرآن عن هذا الصنف نجده يسند هذا الانكار و الاستبعاد عند هؤلاء لا الي قناعة فكرية لديهم، بل يسند ذلك الي دوافع نفسية


مادية دنيوية دعتهم الي هذا الانكار و الجحود بيوم القيامة، فهم يريدون أن يتحرروا من كل القيود و الضوابط، و يريدون أن يعطوا لأنفسهم كل الرغبات فيعيشون حياة حيوانية صرفة، و أن ينساقوا وراء الدوافع الشهوانية، فدعاهم ذلك الي الانكار لمسألة المعاد و الحساب؛ لأن الايمان بذلك يتعارض مع هذا الهدف الذي بنوا عليه حياتهم.

أ - قال تعالي: (أيحسب الانسان ألن نجمع عظامه - بلي قادرين علي أن نسوي بنانه - بل يريد الانسان ليفجر أمامه - يسأل أيان يوم القيامة) [1] .

(فالآية الأولي تذكر معتقدهم و انكارهم، و الآية الثانية تذكر باعث انكارهم و أنه ليس هو ما يتظاهرون من عدم امكان جمع العظام، و انما هو رغبتهم في أن يرفعوا كل عائق يحد من انغماسهم في الملذات، و كل رداع يصدهم عن ارضاء الغرائز البهيمية، و قوله تعالي: (ليفجر أمامه) بمعني يشق أمامه و لا يرتدع بشي ء من القوانين و التشريعات) [2] .

ب - و قال تعالي: (و قال الملأ من قومه الذين كفروا و كذبوا بلقاء الآخرة و أترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا الا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه و يشرب مما تشربون - و لئن أطعتم بشرا مثلكم انكم اذا لخاسرون - أيعدكم أنكم اذا متم و كنتم ترابا و عظاما أنكم مخرجون - هيهات هيهات لما توعدون - ان هي الا حياتنا الدنيا نموت و نحيا و ما نحن بمبعوثين.) [3] .

فهنا باعثان من بواعث الانكار للمعاد و القيامة:

الأول: باعث نفسي هو الاتراف و الأخذ بأسباب الشهوات و الغرق في بحر الأهواء و الغرائز.


و الآخر: باعث سياسي و هو ما كان لفرعون و الملأ من قومه من تسلط و استعلاء علي أقوامهم، فأنكروا المعاد لئلا تتزعزع عروش سلطتهم بانتشار العقيدة بين أتباعهم و مرؤوسيهم، فكانوا يدعون الناس الي انكار المعاد بقولهم: (هيهات هيهات لما توعدون)، و لفظة (هيهات) تعني: بعد، و جاء الاستبعاد هنا مؤكدا من هؤلاء بمعني أنه بعيد كل البعد أن تبعثوا بعد موتكم، و ليس هناك حياة الا هذه الحياة الدنيا التي تعيشونها.

فهذه بعض الدوافع التي دفعت المنكرين الي انكارهم للآخرة و المعاد اتباعا للشهوات و عباده للهوي.

أما اذا تحرر الانسان من هذه الأمور و رجع الي عقله و فطرته فانه سيدرك أن الصانع المبدع الذي ابتدعه في النشأة الأولي غير عاجز عن اعادته مرة أخري في النشأة الثانية، كما جاء في الذكر الحكيم قوله تعالي: (و ضرب لنا مثلا و نسي خلقه قال من يحيي العظام و هي رميم - قل يحييها الذي أنشأها أول مرة و هو بكل خلق عليم.) [4] .

بل لو رجع الانسان الي مقاييسه العقلية فانه سيدرك أيضا بأن الاعادة للمخلوق مرة أخري أسهل علي الصانع من الابداع في المرة الأولي.

و قد طرح القرآن الكريم أيضا المسألة بهذا المقياس في قوله تعالي: (و هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده و هو أهون عليه و له المثل الأعلي في السماوات و الأرض و هو العزيز الحكيم). [5] .


فهنا تقول الآية: (انكم تعتقدون أن بداية الخلق من قبل الله، فعود الخلق مرة أخري أيسر و أهون من بداية الخلق.)

و الدليل علي أن عودة الخلق أهون من البداية هو أنه في البداية لم يكن شيئا و لكن الله هو الذي أبدعه، أما في الاعادة فعلي الأقل توجد المواد الأصلية، فبعضها في طيات التراب و بعضها متناثر في الفضاء، و انما تحتاج الي نظم و الي اعطائها صورتها الأولي فحسب فهي أهون.

و لكن من الضروري أن نلتفت الي هذه اللطيفة، و هي أن التعبير بالهين و الصعب هو من خلال نافذتنا الفكرية، و أما بالنسبة لمن ليس لوجوده بداية و لا نهاية فلا فرق عنده بين الصعب و السهل [6] .

و لعل في قوله تعالي: (و له المثل الأعلي) اشارة الي هذه اللطيفة، فانه يتساوي أمام قدرته تعالي البدء و الختام الخطير و الحقير و القليل و الكثير، قال تعالي: (ما خلقكم و لا بعثكم الا كنفس واحدة ان الله سميع بصير) [7] .

(و المعني ليس خلقكم معاشر الناس علي كثرتكم و لا بعثكم الا كخلق نفس واحدة و بعثها، فأنتم علي كثرتكم و النفس الواحدة سواء) [8] .

و لكن المنكرين للمعاد لسيطرة الأهواء و الشهوات علي نفوسهم و انشدادهم الي الحياة المادية قد تنكروا لعقولهم و فطرتهم، و لا شك أن رؤيتهم هذه سوف يكون لها التأثير الواضح علي سلوكهم و تعاملهم مع الحياة؛ فلا ينتظر من هؤلاء الا سلوك الانحراف و حياة الظلم و الفسوق و الفساد في الأرض و عدم الرحمة و ما الي ذلك من


السلوك اللا انساني؛ لأنهم لا يشعرون بأية مسؤولية تجاه ما يعملون، فيتساوي عندهم العدل و الظلم و الاحسان و الاساءة و القسوة و الرحمة.

فاذا ما تظاهروا ببعض الأخلاق الانسانية فان دافعهم الي ذلك دافع مصلحي صرف، فمتي ما تعارضت تلك الأخلاق و القيم مع أهدافهم و مصالحهم فانك لا تجد لتلك القيم وجودا في قاموس حياتهم. و لا أحسبني في حاجة الي اقامة دليل علي ذلك؛ لأن المسألة وجدانية و شواهدها واضحة كل الوضوح في حياة البشرية في كل عصر من عصورها.

قال تعالي: (للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء و لله المثل الأعلي و هو العزيز الحكيم) [9] .

(فعدم الايمان بالآخرة و استخفاف أمر الحساب و الجزاء هو مصدر عمل كل سوء و مورده، و بالمقابل الايمان بالآخرة هو منشأ كل حسنة و منبع كل خير و بركة. فكل مثل سوء و صفة قبح يلزم الانسان و يلحقه فانما يأتيه من قبل نسيان الآخرة، كما أن كل مثل حسن و صفة حمد بالعكس من ذلك... فالذين لا يؤمنون بالآخرة هم الأصل في عروض كل مثل سوء و صفة قبح، فان ملاكه و هو انكار الآخرة نعتهم اللازم.) [10] .


پاورقي

[1] القيامة: 6 - 5.

[2] الالهيات ج 2 ص 679.

[3] المؤمنون: 37 - 33.

[4] يس 79 - 78.

[5] الروم: 27.

[6] التفسير الأمثل ج 12 ص 467.

[7] لقمان: 28.

[8] الميزان ج 16 ص 233.

[9] النحل: 60.

[10] الميزان ج 12 ص 278.