بازگشت

ازفت ساعة الرحيل...


أزفت ساعة الرحيل.. أجال آجر الاسباط عينيه المتألقتين في الرمال الممتدّة حتي الأفق. نساء واطفال خرجوا من بين الخيام.. العيون الحزينة تحدق بآخر الرجال.. بآخر خيوط الأمل. هتف الحسين بأعلي صوته.. يخاطب التاريخ والانسان.

- هل من ذابّ عن حرم رسول اللَّه؟ هل من موحّد يخاف اللَّه فينا؟

وامتزجت صرخته بعويل وبكاء.. و انغمست بالدموع.. بالدماء. نهض فتيً طوّح به المرض.. نهض يجرجر نفسه و سيفه.. يتوكأ علي عصا.. فتي ادّخره أبوه ليوم آخر.

هتف الحسين بأخته:

- احبسيه لئلا تخلوا الأرض من نسل آل محمد!

كأسراب الغربان طاف الحزن بين الخيام.. جثم علي القلوب


المقهورة، وراح ينعق بصوت ينذر باقتراب الكارثة.

وقف الحسين للوداع.. و داع الأرض.. الشمس تغمر الرمال باللهب، والفرات يجري.. يمعن في الفرار. والقبائل مجنونة بثارات قديمة.. والريح تدور.. تعدو بعيداً.. مسكونة بالرحيل.. مبهورة بالسفر.. والحسين يرتدي حلّة العروج.. علي رأسه عمامة مورّدة، ملتحف ببردة النبي.. متقلد سيفه.

القبائل تجنّ لمنظره.. تشتعل في اعماقها شهوة الثأر.. تبرق عيونها للأسلاب العظيمة.

طلب الحسين ثياباً لا يرغب بها أحد، ليضعها تحت حلّته.

فقدموا له سروالاً قصيراً فأبعده بطرف سيفه.

- انه من لباس الذّلة.

اختار ثوباً قديماً، فخرّقه بسيفه، وليسه تحت ثيابه.

القبائل تتحفز لقتل آخر الاسباط.. والسبط يودّع الاطفال والنساء.

احتضن طفله الرضيع، وراح يقبله متمتماً بحسرة:

- بعداً لهؤلاء القوم اذا كان جدك المصطفي خصمهم.

الشفتان الصغيرتان تبحثان عن قطرة ماء.. والفرات يموج بالمياه.

يتلوّي وسط الصحراء حيّة تسعي. تقدم الحسين يحمل طفله الظامئ:


- ألا قطرة ماء؟

و ينطلق سهم غادر يحمل في نصله الذبح. الطفل يخرج يده الصغيرة من القماط. ماتزال يده ممدودة.. تستفهم التاريخ و الانسان.

الدماء الشفّافة تغمر صدر الحسين.. الأب يملأكفّه من النافورة الحمراء.. ثم يطوّح بها في السماء. رشاش الدم يصّعد الي الفضاء.. يخترق الحجب البعيدة.. يخرق قوانين الأرض همس الحسين:

- هوّن ما نزل بي انه بعين اللَّه، اللَّهم أنت الشاهد علي قوم قتلوا اشبه الناس برسولك محمد.

طيف ملائكي يخطف أمامه.. يحمل في جناحيه عبير الفردوس

- دعه يا حسين فإنّ له مرضعاً في الجنّة.

مثل عاصفة غاضبة هبّ الحسين يمزّق بسيفه القبائل. تساءل النخيل و هو يهزّ سعفاته بإجلال عن رجل وحيد يقاتل الآلاف.



أنا الحسين بن علي

آليت الّا انثني



صرخ ابن سعد و هو يري احلامه تتبدد:

- هذا ابن الانزع البطين. هذا ابن قتّال العرب. احملوا عليه من كل جانب. فاطبقت عليه القبائل، و أمّته آلاف السهام، و حالت بينه و بين الخيام.


هتف آخر الأسباط:

- يا شيعة آل أبي سفيان!! إن لم يكن لكم دين و كنتم لا تخافون المعاد، فكونوا احراراً في دنياكم، وارجعوا الي احسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون.

صاح الأبرص:

- ما تقول يابن فاطمة؟

- انا الذي اقاتلكم والنساء ليس عليهن جناح، فامنعوا عتاتكم عن التعرّض لحرمي مادمت حيّا.

- لك ذلك.

و قصدته القبائل.. الحسين الظامئ يدفع أمواج الغدر.. يقاتل.. يقاوم.. يحصد رؤوس الذين كفروا. شعر بعطش شديد.. والفرات محاصر بأربعة آلاف أو يزيدون... الفرات تنثال مياهه علي الشطآن ترتاده دوابّ الارض... و آخر الاسباط ينشد غرفة واحدة.

الزوبعة تتجه نحو النهر.. تجتثّ في طريقها اشباه الرجال.

قال ابن يغوث- و كان مع القبائل: ما رأيت مكثوراً قط قد قُتل ولده وأهل بيته وصحبه اربط جأشاً منه و لا امضي جناناً و لا أجرأ مقدماً.. ولقد كانت الرجال تنكشف بين يديه إذا شدّ فيها، و لم يثبت له أحد.


الحسين يقهر القبائل.. يحتلّ الفرات.. ويقحم فرسه المياه المتدفّقة.. الأمواج تتلألأ في ضوء الشمس. شعر الفرس ببردودة الماء.. حني رأسه ليشرب.. ليرتوي.

قال قاهر الفرات مخاطباً الفرس، و كان من جياد خيل النبي:

- انت عطشان وأنا عطشان فلا اشرب حتي تشرب.

رفع الجواد رأسه.. رفض أن يشرب قبل صاحبه. مدّ الفارس يده ليغرف: ناداه رجل من القبائل:

- أتلتذّ بالماء و قد هتكت حرمك..

طوّح السبط بقبضة الماء وانطلق صوب الخيام.. اشرقبت الوجوه الخائفة. لقد عاد الأمل.

التفّت حوله صبية ونساء.. تعلقت به. الشمس تجنح نحو الغروب، والحسين يسافر مع الشمس. ودّع عياله. كشف لهم صفحة من عالم الغد، وقرأ عليهم سطوراً من دفتر الأيام:

- استعدّوا للبلاء، و اعلموا أن اللَّه تعالي حاميكم و حافظكم وسينجيكم من شرّ الاعداء ويجعل عاقبة أمركم الي خير و يعذّب عدوّكم بانواع العذاب و يعوّضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة. فلا تشكوا و لا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم.

افتقد ابنته سكينة.. لم تكن مع المودّعين.. وجدها وحيدة في


الخيمة و قد غلب عليها الاستغراق. كانت تفكّر في طريق ابيها العجيب.

صرخ رجل من القبائل و هو يحلم بعبور جثة الحسين:

- اهجموا عليه ما دام مشغولًا بنفسه و حرمه.

نفثت القبائل سهاماً مسمومة النبال تخترق الخيام.. و تشك أُزرَ النساء. فرّت النسوة الي داخل الخيام.. العيوم تحدّق بالحسين.. ماذا سيفعل آخر الاسباط؟

الفارس الذي قدم من الجزيرة علي قدر.. يحدّد ساعة الصفر، ويبدأ الهجوم. التاريخ يركض مبهور الانفاس.. يتشبّث بركاب الحسين.. والحسين يسبق التاريخ.. يغوص في عوالم بعيدة.. و يبقي التاريخ بقلب كفيه حائراً وسط الرمال.

القبائل تفرّ مذعورة بين يديه، ووابل النبال يرشقه من كل حدب وصوب، و الحسين يقهر الموت.. يحطّم جدران الزمن.. يتخطي القرون.

الروح العظيمة.. تريد الإنطلاق من أهاب الحجسد المجرّح.. الجراح المتدفقة كينابيع فوّارة، تروي الرمال المتوهّجة.. الفرات يمعن في الفرار.. يضنُّ بقطرة ماء

- يا حسين! ألا تري الفرات كأنه بطون الحيّات؟ فلا تشرب منه


حتي تموت عطشاً.

ورماء أبو الحتوف بسهم في جبينه، فانتزعه. وتدفقت الدماء من جبهته الشّماء.

همس الرجل الوحيد في قلب السماء: اللهم انك تري ما أنا فيه من عبادك هؤلاء العصاة، اللهم احصهم عدداً واقتلهم بددا، و لا تذر علي وجه الارض منهم أحدا، و لا تغفر لهم أبدا.

ثم هتف بأعلي صوته:

- يا أمّة السوء بئسما خلفتم محمداً في عترته. أما انكم لا تقتلون رجلاً بعدي فتهابون قتله. بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم اياي. وأيم اللَّه اني لأرجو أن يكرمني اللَّه بالشهادة ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون.

عوي ذئب من القبائل:

- وبماذا ينتقم لك منّا يا ابن فاطمة؟

- يلقي بأسكم بينكم و يسفك دماءكم ثم يصبّ عليكم العذاب صبّا.

الحسد الواهن تتسرب منه الدماء.. دماء كثيرة صبغت صعيد الارض.

توقف السبط ليستريح قليلاً، فرماه رجل من القبائل المسعورة


بحجر فانبثقت الدماء من جبهته.

أراد الحسين أن يوقف نزف الدم بطرف ثوبه، فجاءه سهم محدّد له ثلاث شعب. انغرس السهم المثلث في قلب الحسين.. السهم يتشبث بالقلب الجبل.. انها النهاية.. نهاية الألم.. بداية الحريل الي عوالم السلام.

تأوّه الحسين:

- بسم اللَّه و باللَّه و علي ملّة رسول اللَّه..

ثم رفع وجهه نحو السماء متضرعاً.

- الهي انك تعلم انهم يقتلون رجلاً ليس علي وجه الارض ابن بنت نبي غيري!

السهم يغوص في الجسد الواهن.. يخرج رؤوسه من القفا كالأفاعي.. و تنبعث الدماء غزيرة.. غزيرة. صوت يشبه نشيج الميازيب في مواسم المطر.

الحسين يملأ كفّيه دماً عبيطاً ثم يطوّح به نحو السماء و يهتف:

- هوّن ما نزل بي أنه بعين اللَّه.

الدماء القانية الثائرة تسافر في عالم الافلاك.. تصبغ النجوم.. تلوّن الآفاق.

مرّة أخري، ملأ الحسين كفّيه دماً، ثم خضب به رأسه ولحيته


استعداداً للرحيل:

- هكذا ألقي اللَّه.. و جدّي رسول اللَّه.

وأعياه نزف الدم، فهوي علي الارض كنجم منطفئ.

تقدم «ابن النسر» اليه وعيناه تبرقان حقداً، فضربه بالسيف علي رأسه.

تمتم الحسين متألماً:

- لا أكلت بيمينك و لا شربت، وحشرك اللَّه مع الظالمين.

وأحاطت به القبائل كلاباً مسعورة. تنهش جسده.

همس الحسين:

- هذا تأويل روياي قد جعلها ربّي حقاً..

ضربه «زرعة» علي كتفه الايسر، ورماه «ابن نمير» في حلقه وطعنه «سنان» في ترقوته، ثم في صدره، ورماه بسهم في نحره.

الكلاب تنهش جسده.. وكان أشدّها الابقع....

العينان الواهنتان فيها بقايا ألق.. يوشك علي الرحيل.. الحسين يرفع طرفه نحو السماء:

- اللَّهم متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غنيّ عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر علي ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغ النعمة، حسن البلاء، قريب اذا دعيت، محيط بما خلقت،


ادعوك محتاجاً وارغب اليك فقيرا، صبراً علي قضائك يا رب لاإله سواك.

الحسين ينوء بنفسه. الروح تتسرب من أفواه الجراح.. تغوص في الرمال.. تبثّها اسراراً توقظ فيها مدناً ثائرة.

ماذا يفعل الفرس؟ لِمَ يدور حوله؟ يلطخ ناصيته بدمه.. يشمه.. يصهل بغضب.. ينادي: الظليمة الظليمة من أمّة قتلت ابن بنت نبيها.

صرخ ابن سعد بالقبائل:

- دونكم الفرس فإنه من جياد خيل رسول اللَّه. فدارت به الخيل.. اخذت عليه الطرق. الفرس يقاتل.. يقاوم يتحول الي بركان. وانبهر قائد القبائل:

- دعوه لننظر ما يصنع..

انطلق الفرس نحو مضارب القافلة، وهو يصهل عالياً:

- الظليمة.. الظليمة من امّة قتلت ابن بنت نبيها...

هبّت نسوة واطفال.. لقد وقعت الواقعة. صرخت زينب:

- وامحمداه.. واأبتاه... وا علياه.. وا جعفراه.. وا حمزتاه. هذا حسين بالعراء.. صريع بكربلا.. ليت السماء أطبقت علي الارض، وليت الجبال تدكدكت علي السهل!..

عندما وصلت زينب، كان الحسين يوشك علي الرحيل.. يودّع


الصحراء، بعد أن روّاها بدمه.

القبائل مفتونة.. تدور حول آخر الاسباط.. و قد زلزلت الارض زلزالها. ماذا بوسع زينب أن تفعل. الحسين يجود بنفسه.. لقد تمزق جسده.. و ما تزال الروح هي هي.. شديدة البأس. زينب تحاول ايفاظ بقايا الانسان في زعيم القبائل... هتفت بلوعة:

- اي عمر! أيقتل أبو عبداللَّه وانت تنظر اليه!!

لقد مات الانسان في داخله...

أهاب بالقبائل لإسدال الفصل الاخير:

- انزلوا اليه وأريحوه.

صرخت زينب:

- اما فيكم مسلم؟!

و لا من جواب. لقد مات الانسان في عصر الذئاب والليل والعواء.

- انزلوا اليه وأريحوه.

كان الأبرص ينتظر الإشارة بلهفة. التمعت عيناه بوحشية، وهو

يرفس جسد الحسين الممزّق.. جلس علي صدره. الا بقعُ ينهش جسد السبط.. يقبض علي شيبته.. و يهوي يسيف غادر علي رأسه. ينفصل الرأس عن الجسد.. القبائل تموج مأخوذة بهول ما يجري


فوق الرمال...

الجسد ساكن بلا حراك. الكلاب تهنهش.. تنهش الجسد الدامي.

ويرتفع رأس ابن النبي فوق رمح طويل.. يتطلع الي آخر الدنيا، و يقرأ سورة الكهف.

انطفأت الشمس.. ومطرت السماء دماً عبيطاً، وبدا الافق الغربي شديد الحمرة كجراح نازفة.

وعصفت القبائل المسعورة بالخيام.. فأشعلت فيها النار. وفرّت النسوة والأطفال.. هاموا علي وجهوهم في الرمال.

وانبرت عشرة خيول مجنونة.. خيول اعتادت السلّب والنهب والغارات.. تعوّدت سحق ورود البنفسج وبقربطون الاطفال... اهتزّت الارض تحت سنابك الخيل وهي تمزّق صدر الحسين.. وفاحت من الجسد قبلات محمد والزهراء، ملأت الفضاء وامتزجت مع ذرات رمال الصحراء.. والتاريخ.

النار المجنونة تلتهم الخيام.. و صراخ الاطفال يملأ الدنيا.. و الذئاب تعوي بقسوة.. والليل شديد الظلمة.. الريح تذرو الرمال.. تغطّي الاجساد العارية بغبرة خفيفة.. والقبائل تنهب و تسلب.. والفرات يمعن في الفرار.. ورأس الحسين فوق رمح طويل.. ينظر الي آخر الدنيا.. الي قوافل قادمة من رحم الأيام.