بازگشت

فجر يشبه رماداً ذرته الريح في العيون...


فجر يشبه رماداً ذرّته الريح في العيون، والفرات ما يزال يجري متلوّياً كحيّة تسعي، والقبائل التي باتت تحلم بالأسلاب استيقظت ترنو بعيون متنمّرة الي مضارب خيام بعيدة.

اختلطت أصوات عديدة، رغاء جمال.. و صهيل خيول.. وقعقعة سيوف و رماح ودموع.

و الحرّ الذي أوقع بالقافلة، و ساقَها الي أرض الموت، يقف مشدوهاً لمنظر جموع غفيرة.. جاءت لقتل سبط النبي. لم يخطر بباله أبداً أن تنحدر الكوفة لقتل «المخلّص».

حرّك فرسه الي مقدّمة الصفوف، وراح يحدّق في الأفق حيث يقف الحسين. شاهده من بعيد يرتّب مقاتليه. انهم لا يزيدون علي السبعين أو الثمانين. هل سيقاتل الحسين حقاً؟ هل يدخل معركة خاسرة؟


و سمع الحرّ الحسين يخطب بجيشه الصغير:

- ان اللَّه تعالي قد أذن في قتلكم وقتلي في هذا اليوم فعليكم بالصبر والقتال....

رآهم ينقسمون الي ثلاث فرق، الجناح الأيمن بقيادة «زهير بن القين»، والجناح الأيسر بقيادة «حبيب بن مظاهر». اما الحسين فقد ثبت في القلب.. و تسلّم الراية «أبوالفضل» فبدا والراية تخفق فوق رأسه جيشاً لوحده.

القبائل تزحف باتجاه الخيام.. والخيول تجول.. تثير غباراً والقلوب الصغيرة في حنايا الخيام تخفق بشدّة.. يا له من يوم عصيب!

اصدر الحسين أمره بإضرام النار في الخندق.. فتصاعدت ألسنة اللهب.. وتراجعت الخيول.. فرّت مذعورة من خطّ النار.

اغتاظ «الأبرص» من هزيمة فرسانه، فصاح بنفاق:

- يا حسين، تعجّلت بالنار قبل يوم القيامة!

سأل الحسين مستوثقاً:

- من هذا؟! كأنّه شمر بن ذي الجوشن.

- نعم.. إنه الشمر.

انطلق صوت الحسين:


- يابن راعية المعزي! أنت أولي بها صليّاً.

وضع «مسلم بن عوسجة» سهماً في كبد القوس.. استهدف الأبرص الذي باع نفسه للشيطان. و في اللحظة الأخيرة. تدخّل الحسين قائلاً:

- أكره أن أبدأهم بقتال.

تذكّر الحسين كيف كان الأبقع ينهش جسده بوحشية. رفع يديه الي السماء.. الي العالم اللانهائي.. شاكياً ويلات الارض. كانت كلماته تنساب كنهر بارد.. نهر قادم من جنات عدن:

- اللَّهم أنت ثقتي في كل كرب، و رجائي في كل شّدة، وانت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدّة.. كم من هم يضعف فيه الفؤاد و تقلّ فيه الحيلة، و يخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدوّ أنزلته بي وشكوته اليك رغبةً مني اليك عمّن سواك، فكشفتَه و فرّجتَه. فأنت وليّ كلّ نعمة و منتهي كل رغبة...

القبائل تزداد ضراوة.. و السيوف تبرق من بعيد.. تقطر حقداً ونذالة.. والحرّ يتقدّم قليلاً قليلاً. راح ينظر الي الحسين الذي ركب ناقته.. يريد أن يخطب بالقبائل المحيطة به. أرهف الحرّ سمعه لهذا القادم من اقصي الجزيرة يحمل معه كلمات محمد و عزم علي.

استوي الحسين علي ناقته، فبدا كنبيٍّ يعظ قومه:


- ايها الناس اسمعوا قولي و لا تعجلوا حتي أعظكم بما هو حق لكم علي، و حتي اعتذر اليكم من مقدمي عليكم. فإن قبلتم عذري و صدّقتم قولي و أعطيتموني النصَف من انفسكم كنتم بذلك أسعد، و لم يكن لكم عليّ سبيل. وإن لم تقبلوا مني العذر و لم تعطوا النصَف من انفسكم فأَجمِعوا أمركم و شركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غُمّة ثم اقضوا إليَّ و لا تُنظرون إنّ وليّي اللَّه الذي نزّل الكتاب و هو يتولّي الصالحين.

اختلطت الكلمات مع بكاء مرير انبعث من قلب الخيام....

توقف الحسين عن إلقاء الخطاب.. أمر أخاه «أباالفضل» وابنه «علياً الأكبر»:

- سكتاهن، فلعمري ليكثر بكاؤهن...

عاد الصمت ثقيلاً.. سكوت عجيب يهمين علي كل شي ء ما خلا ريح خفيفة كانت تحمل كلمات الحسين:

- ايها الناس إن اللَّه تعالي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال

متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال. فالمغرور من غرّته و الشقي من فتنته فلا تغرّنكم هذه الدنيا فإنها تقطع رجاء من ركن اليها و تخيّب طمع من طمع فيها. وأراكم قد اجتمعتم علي أمر قد أسخطتم اللَّه فيه عليكم، و أعرض بوجهه الكريم عنكم. أحلّ بكم نقمته. فنعم الربّ


ربّنا وبئس العبيد أنتم، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمّد، ثم انكم زحفتم الي ذرّيته وعترته تريدون قتلهم. لقد استوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر اللَّه العظيم.. فتبّاً لكم و لما تريدون. انا للَّه و انا اليه راجعون.. هؤلاء قوم كفروا بعد ايمانهم، فبعداً للقوم الظالمين...

الكلمات تخترق الآذان.. تتغلغل في القلوب. شعر الحرّ بأن زلزالاً يضرب دنياه. راح يصغي الي دويّ الانقاض وهي تتراكم في اعماقه: هل أنا في كابوس؟.. ماذا أري؟.. ماذا اسمع؟ ربّاه ماذا افعل؟!

راكب الناقة مايزال يرسل كلمات يبعثها مع الريح.. علي اجنحة الفكر..

- ايها الناس انسبوني من أنا، ثم ارجعوا الي انفسكم وعاتبوها وانظروا هل يحلّ لكم قتلي.. ألست أنا ابن بنت نبيكم؟ وابن وصيه وابن عمه؟ و أول المؤمنين باللَّه والمصدّق لرسوله؟.. أو ليس حمزة سيدالشهداء عم أبي؟! أو ليس جعفر الطيار في الجنة عمّي؟.. أو لم يبلغكم قول رسول اللَّه لي ولأخي هذان سيدا شباب أهل الجنّة؟ فإن صدّقتموني بما أقول، و هو الحق واللَّه ما تعمدت الكذب منذ علمت أن اللَّه يقمت عليه أهله و يضرّ به من اختلقه. وإن كذبتموني فإنّ فيكم من اذا سألتموه عن ذلك أخبركم. سلوا «جابر بن عبداللَّه الانصاري» و «أبا سعيد الخدري» و «سهل بن سعد الساعدي»


و «زيد بن أرقم» و «أنس بن مالك» يخبرونكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول اللَّه لي و لأخي. أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟.

صرخ صوت شيطاني يريد أن يبتلع كلمات الانبياء. صرخ الابرص:

- إنّا لا ندري ما تقول؟!

هتف حبيب، و كان رجلاً علي أعتاب السبعين،

- أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول. قد طبع اللَّه علي قلبك.

البركان الثائر يستأنف إرسال حممه:

- فإن كنتم في شكّ من هذا القول، أتشكّون اني ابن بنت نبيكم، فواللَّه ما بين المشرق و المغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم، ويْحَكم! اتطلبوني بقتيل لكم قتلته! أو بمال لكم استهلكته أو بقصاص جراحة؟!.

وقفت القبائل عاجزة. ان في طينة البشر قابلية الانحطاط..

الانحطاط حتي المسخ.. قابلية تشبه الجاذبية في الاجسام. الكوفة مثقلة بالاثم والغدر.. قلبها مع الحسين وسيفها يمزّق قلبه.

ونادي الحسين بصوت جهوري:

- يا «شبث بن ربعي» و يا «حجّار بن أبجر» و يا «قيس بن الأشعث» و يا «زيد بن الحارث» ألم تكتبوا الي أن أقدم قد أينعت


الثمار و اخضرّ الجناب وانما تقدم علي جند لك مجنّدة؟

تعالت اصوات مذعورة.. أصوات فئران خائفة:

- لم نفعل.. لم نفعل.- سبحان اللَّه! بلي واللَّه لقد فعلتم.. ايها الناس اذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم الي مأمن من الارض.

صرخ قيس بن الاشعث، وقد التمعت عيناه بالغدر:

- أوَلا تنزل علي حكم ابن عمّك؟ فإنهم لن يروك الا ما تحب، ولن يصل اليك منهم مكروه.

- انت اخو أخيك. أتريد أن يطلبك بنوهاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا واللَّه لا اعطيهم بيدي اعطاء الذليل و لا أفرّ فرار العبيد.. عباد اللَّه اني عذت بربي و ربكم أن ترجُمون. اعوذ بربي و ربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب.