بازگشت

ما بين عين التمر و القريات، لاحت من بعيد خيمة وحيدة...


ما بين «عين التمر» و «القريات»، لاحت من بعيد خيمة وحيدة.. في خارجها رمح مركوز وفرس تحمحم و في داخل الخيمة رجل وحيد.. فرّ من الكوفة.. يريد أن ينأي بنفسه بعيداً عن قدر رهيب. فجاءه رجل من أقصي الجزيرة يسعي.

- ماذا تريد!!

- اني جئتك بهدية وكرامة. هذا الحسين يدعوك الي نصرته.

أجاب الرجل الوحيد:

- واللَّه ما خرجت من الكوفة الا لكي لا أراه.. لعلّك لم تسمع الاخبار. لقد خذلته شيعته.. قُتل «مسلم بن عقيل» و «هاني بن عروة» و رجال آخرون، و لا اقدر علي نصره..

وأردف و هو يطرق برأسه الي الارض:

- ولست أحب أن يراني وأراه.


ولكن الحسين أراد أن يراه فمضي اليه.. و رأي «الجعفي» لمّةً من الناس تهفو اليه.

رجل ذرّف علي الخمسين و حوله رجال وصبية وأطفال قادمين، فأوسع لهم في المجلس، وجلس الجعفي قبال رجل لم يره من قبل.. تموج في جبينه طيوف النبوّات. أراد أن يكسر حاجز الصمت، فقال مبتسماً و هو يشير الي لحيه تشبه ليلة غاب فيها القمر:

- أسواد أم خضاب؟!

- عجّل عليّ الشيب يا ابن الحرّ.

- خضاب اذن!

- يا ابن الحرّ.. الا تنصر ابن بنت نبيّك و تقاتل معه؟

- إنّ نفسي لا تسمح بالموت.. ولكن فرسي «المللحقة» هذه لك.. واللَّه ما طلبت عليها شيئاً قط الّا لحقته.. ولا طلبني أحد الّا سبقته...

- اما اذا رغبت بنفسك عنّا، فلا حاجة لنا في فرسك.

ونهض الحسين. كان يريد أن يرفع الرجل.. أن يسمو به، ولكنه اثّاقل الي الأرض.

و في آخر الليل أمر الحسين فتيانه بالاستقاء والرحيل. و نهضت النوق.. يمّمت وجوهها نحو الارض التي بورك فيها للعالمين.. و كان


هناك ألف ذئب تتوهج عيونها غدراً.. القافلة تسير.. تشقّ طريقها في الظلام.. تتبعها قطعان الذئاب وهي تعوي في آخر الليل.

لاح راكب من بعيد... مدجج بالسلاح. كان رسولاً من ابن زياد الي «الحرّ» يحمل اليه كتاباً خطيراً. قرأه الحرّ بصوت يسمعه الحسين:

- جعجع بالحسين حين تقرأ كتابي و لا تنزله الّا بالعراء علي غير حصن ولا ماء. قال الحسين:

- دعنا ننزل «نينوي» أو «الغاضريات».

- لا استطيع. فحامل الكتاب عين عليّ.

قال «زهير بن القين»، و كان رجلاً صحب الحسين علي قدر:

- يابن رسول اللَّه! دعنا نقاتلهم.. ان قتال هؤلاء أهْون علينا من قتال من يأتينا بعدهم. فلعمري ليأتينا ما لا قبل لنا به.

- ما كنت أبدأهم بقتال.

- ههنا قرية و «الفرات» يحدق بها من ثلاث جهات.

- ما اسمها؟.

- «العقر».

- نعوذ باللَّه من العقر.

والتفت الحسين الي الحر:


- سر بنا قليلاً.

و مضت القافلة لا تلوي علي شي ء.. يتبعها ألف ذئب أغبر.

اهتزّت البوصلد.. تعثرت النوق.. و وقف جواد الحسين.. تسمّر في مكانه.. رفعت النوق رؤوسها.. تلفتت.. لعلّها شمّت رائحة وطن تبحث عنه. سأل الحسين:

- ما اسم هذه الأرض؟

- الطّف.

- فهل لها اسم آخر؟

- كربلاء.

تجمّعت الدموع في عينيه كغيوم ممطرة:

- أرض كرب و بلاء.. ههنا محطّ ركابنا وسفْك دمائنا. بهذا اخبرني جدّي رسول اللَّه.

و في تلك الليلة، لاح هلال «المحرّم» حزيناً كقارب وحيد.. تائه في بحر الظلمات.

تعالت أصوات رجال يدقّون أوتاد الخيام، وضحكات بريئة لأطفال يلهون في الرمال.. ونسائم عذبة تهبّ من ناحية «الفرات»، و كان الحسين واقفاً يتأمّل الأفق البعيد.. يحدّق في آخر الدنيا.