بازگشت

الكوفة خائفة جلست ذليلة في حضرة ابن زياد...


الكوفة خائفة. جلست ذليلة في حضرة ابن زياد.. و زياد يشير بسوطه.. فتتساقط الرؤوس.. و تطيح الايدي. وانحنت الرقاب «للأرقط». لقد انتصر بجيشه الوهمي القادم من الشام. الكوفة كلّها اسيرة في قبضته.. تنقاد له طائعة. يصرخ فيها:

- اقتلوا آل الحسين.. إنهم اناس يتطهّرون.

وينتظم العبيد. عبيد الدنيا جيشاً عرومرماً يقوده «الحرّ».

المهمة خطيرة.. القبض علي القافلة.. فارس يقود الف فارس مدجّج السلاح يجوبون الصحراء بحثاً عن قافلة صغيرة.

قدر عجيب ساق هذا الرجل.. جعله في طليعة الذين يريدون اغتيال الحرّية.. و هو «الحرّ» كما سمّته امّه..


و الحرّ يجوب الصحراء في مهمّة كان يلعنها في اعماق نفسه.. الرمال الممتدة الي ما لا نهاية تدعوه الي الرحيل.. الرحيل الي الشمس، وكانت الارض تشدّه اليها كما شدّت الفاً يسيرون خلفه.

و يسمع الحرّ صوتاً عجيباً.. صوتاً قادماً من وراء الرمال:

- ابشر يا حرّ بالجنّة.

- اية جنّة وانا سائر لقتال سبط النبي

الخيل تلهث.. أضرّ بها الظمأ.. والصحراء تلتهب.. تتوهج.. تشتعل جحيماً لايطاق والحرّ يُبشَّر بالجنّة. وتبدو في الافق قافلة تتجه نحو ذي حسم (الجبل الصغير).

الشمس في كبد السماء تتشظي حمماً.. تتفجّر لهباً، والرمال تشتعل جمراً، والخيل تلهث.. تهوّم عيونها نحو سراب بعيد يحسبه الظمآن ماء. وقف الحرّ قبال الحسين في الظهيرة العظمي.. الخيول تنظر الي الحسين.. تشمّ رائحة الماء وتحمحم.

هتف الحسين:

- اسقوهم و ارشفوا الخيل...

و مرّت مئات الخيول الظامئة.. تعبّ من الماء.. وتطفئ لهب


الصحراء.

ورأي الحسين فارساً وصل متأخراً، وقد اضرّ به العطش، فقال بلغة حجازية:

- أنخ الرواية.

-..؟!

- انخ الجمل.

اناخ الظامئ الجمل. و لما أراد أن يشرب، جعل الماء يسيل من السقاء، فقال الحسين بلغة حجازية:

- أخنث السقاء.

فلم يدر الرجل ما يصنع، فعطف الحسين له السقاء حتّي ارتوي وسقي فرسه.

و ساد صمت رهيب رغم حمحمة الخيل.. و كان الجميع يتساءلون عن سرّ وجودهم في تلك البقعة الملتهبة من دنيا اللَّه. وأذَّن «ابن مسروق» للصلاة، فقال الحسين:

- اتصلّي بأصحابك.


- لا، بل نصلّي جميعاً بصلاتك.

و صلّي الحسين بالجموع.. و صلّي خلفه الف فارس كانوا يريدون القبض علي الرجل القادم من الحجاز. و قال الحسين بعد الصلاة:

- نحن أهل بيت محمّد أولي بالأمر من هؤلاء المدّعين.. السائرين بالجور والعدوان، فإن ابيتم الّا الكراهية لنا، و الجهل بحقنا، وكان رأيكم علي غير ما اتتني به كتبكم انصرفت عنكم...

تساءل الحرّ:

- ما ادري، ما هذه الكتب التي تذكرها؟!

فنظر الحسين الي «ابن سمعان»، فاحضر خرجين مملوءين كتبا.. رسائل بالآلاف.. كتبها الكوفيون، كلّها تقول ان أقدم علينا ليس لنا امام غيرك.

تمتم الحرّ خجلا:

- اني لست من هؤلاء.. و اني أمرت ان اقدامك الكوفة علي ابن زياد.

قال صاحب الأنف الاشمّ:


- الموت ادني اليك من ذلك..

القافلة تريد أن تستأنف رحلتها.. سفن الصحراء ترفع مراسيها.

و «الحرّ» يعترض:

- انا انفّذ أمر الخليفة.

- ثكلتك امّك.

- اما لو غيرك من العرب يقولها لي ما تركت ذكر امّه كائناً من كان.. ولكن مالي الي ذكر امّك من سبيل.. فامّك الزهراء البتول.

واردف الحرّ متوسّلاً:

- لتسلك طريقاً وسطاً.. لا يدخلك الكوفة و لا يردّك الي المدينة، حتي اكتب الي ابن زياد، فلعلّ اللَّه يرزقني العافية.

كانت القافلة تسير باتجاه بوصلة القدر.. باتجاه مدينة تعيش في رحم المستقبل.

كانا يسيران علي مهل.. يسيران في طريق واحد.. طريق رسمته الاقدار.

همس الحرّ بحزن:


- اني اذكّرك اللَّه في نفسك، فاني اشهد لئن قاتلت لتُقتلَنَّ وادرك الحسين ماتموج به اعماق «الحرّ».

- أفبالموت تخوّفني؟!



سأمضي وما بالموت عار علي الفتي

اذا ما نوي حقاً وجاهد مسلما



فان عشت لم اندم وان متّ لم أُلَم

كفي بك ذلاً أن تعيش وترغما



وادرك الحرّ هدف الحسين.. الغاية التي يتحرك نحوها. ابتعد عنه.. أخذ ناحية أخري من الطريق.. يسايره فيها من بعيد.. ولكنه شعر بنفسه تهفو الي الرجل السائر نحو الموت.. الرجل الذي قال من قبل: من لحق بنا استشتهد و من تخلّف عنا لم يبلغ الفتح.