بازگشت

ما لها المدينة خائفة هكذا، بيوتها ترتجف، وجدرانها تهتزّ رعباً؟...


ما لها المدينة خائفة هكذا، بيوتها ترتجف، وجدرانها تهتزّ رعباً؟.. اين مجد الكوفة الضائع؟.. أين هيبتها القديمة؟.. أم تراها نسيت أنها كانت العاصمة؟!

تساءل الرجل الغريب- الذي كانت تحفه الألوف قبل ليلة.. امّا الآن فهو يجوس أزقّة المدينة خائفاً يترقب.. ليس معه من يدلّه علي الطريق....

هل تراه أخفق في مهمته.. انه سفير الحسين الي الكوفة عاصمة المجد الغابر. أين الرجال الذين بايعوه علي الثورة؟.. اين كل تلك السيوف والدروع، وتلك الكلمات التي تشبه بوارق الفضاء و دويّ الرعود؟!.

كيف تحوّل جيش ناهز العشرين ألفاً الي فئران خائفة تختبئ مذعورة في جحور.. منقوبة في الأرض؟.


فكّر أن ينادي بأعلي صوته: «يا منصور أمت»، شعار الثورة.. ذكريات بدر.. علّهم يلتفّون حوله من جديد.. علّهم يهبّون لحصار قصر الظلم مرّة أخري. ولكن من تركوه في وضح النهار، كيف يعودون اليه في قلب الظلام. الذين فرّوا في ضوء الشمس، هل يعودون في غمرة الليل؟

كان مسلم بن عقيل يسير.. ينقل خطيً واهنة. تداعت أمامه كل الصور المثيرة، وهو يعبر الصحراء مع دليليه.. الرمال المتموّجة القاحلة حيث لا ماء.. و لا حياة.. و لا شي ء، سوي الذرات الملتهبة.. الظمأ.. التيه..

مات الدليلان عطشاً، اما هو فبقي يواصل سيره وحيداً، أراد أن يعود من حيث أتي.. ولكن الحسين كان يريد له المسير حتي النهاية. انه سفيره الي الكوفة.. الكوفة التي تريد إسترداد مجدها الضائع.. الكوفه التي تتلهف لرؤية علي بن أبي طالب مرّه أخري.. تنشد عدله.. رحمته.. رفقه بالفقراء و المساكين.. تريد أن تطرب علي بلاغته من جديد.. تريد للمنبر المهجور أن يتدفّق علماً و فصاحة.

تلك الحلام الرجال الفئران تحلم في جحورها و ترتجف ذعراً.

الاحلام الوردية تحتاج سواعد بقوّة الحديد أو اشدّ بأساً.

«السفير» أعياه التعب.. كقائد مخذول كان يجرجر نفسه بعناء..


يحسّ مرارة الهزيمة. أمام جيش و همي. حقّ له أن يندهش كيف تشتّت جيشه الكبير امام شائعة كاذبة!.. امام جيش سوف يصل من الشام.. جيش وهمي.. صنعه الخيال المريض.. الخيال الذي يحلم بعقل فأرة مذعورة من القط.. من اسمه فقط.

جلس الغريب عند بابٍ عتيقة، وراح يلتقط أنفاسه كأنه ما يزال يخترق الصحراء.. يجوب الأودية.

فتحت «طوعة»- المرأة العجوز التي كانت تنتظر عودة ابنها، والابن ذهب يبحث عن الرجل الجائزة.

- هل لي في جرعة من الماء؟.

و ما أسرع أن عادت المرأة تحمل اليه الماء.. فراح يعبّ منه، ثم سكب الباقي علي صدره. اراد ان يطفئ لهيب الصحراء في أعماقه.

قالت العجوز مستنكرة جلوسه:

- ألم تشرب يا عبداللَّه؟!.. قم فانصرف الي اهلك.

اعتصَم بالصمت.. الصمت المجهول الذي لا يريد أن يسير غوره أحد.

- قم عافاك اللَّه.. فانه لا يجدر بك الجلوس علي بابي.

- و ماذا افعل.. لقد ضللت الطريق.. و ليس هناك من يدلّني.


قالت المرأة متوجسة:

- من تكون يا عبداللَّه؟!

- انا مسلم بن عقيل.

فهتفت المرأة مأخوذة بالمفاجأة:

- انت مسلم؟!.. انهض اذن انهض.

- الي اين يا أمة اللَّه.

- الي بيتي..

وانفتح باب في الافق المظلم.. كوّة تفضي الي النور.. لحظة من أمل.. قطرة ماء في لهب الصحراء.

واحتضن بيت كوفي «مسلم بن عقيل»- الرجل الشريد. امّا بقية البيوت فقد كانت تصغي برعب الي حوافر الخيل و هي تدكّ الارض بحثاً عن رجل غريب.