بازگشت

الكلاب تنهش جسده بقسوة...


الكلاب تنهش جسده بقسوة.. كلاب لم يرها من قبل.. متوحشة.. ملوّثة بكل القذارات.. ينزّ من أنيابها الصديد. يحاول دفعها ولكن لا جدوي. انها مسعورة وتزداد ضراوة وقسوة. و أشدّها كان الأبقع. انه يطلب العنق.. يندفع بوحشية لينقضّ علي الرقبة الناصعة.. كإبريق فضة.

- آه.. آه.. ماء.. ماء.. قلبي يتفطّر عطشاً.

انتبه من نومه.. جفّف حبّاب عرق كانت تتلألأ في ضوء القمر.

تقابل الوجهان.. وجه القمر، ووجهه.

تأمّل الحسين النجوم في أغوارها البعيدة.

البريق القادم من الأعماق السحيقة يشتدّ لمعاناً.. يومض.. يحاول كشف الأسرار.


نهض السبط من فراشه.. أسبغ وضوءه.. أشاعت برودة الماء السلام في روحه. لقد مضي من لليل ثلثاه، و ليس هناك ما يخدش صمت الليل سوي نباح كلاب بعيدة.

حمل جراباً مليئاً بالطعام، وكيساً يغصّ بصرار الدراهم الفضية والدنانير، وراح يجوس أزقّة المدينة.

اجتاز بعض المنعطفات.. توقّف أمام بيت يكاد يتهدّم. أحكم لثامه، فبدا كشبح من أشباح الليل، أو سرّ من أسراره. وضع قدراً من السمن، و شيئاً من الدقيق، وأسقط- من كوّة صغيرة- صرّه نقود، ثم طرق الباب، وحثّ الخطي- قبل ان تفتح- داخل زقاق غارق في الظلام..

كانت تنبعث من كوّة بيت كبير أضواء ساطعة.. و سمع ضحكة ما جنة أعقبتها ضحكات. استعاذ باللَّه، و هو ينعطف نحو اليمين. صار قريباً من قصر الوليد بن عتبة بن أبي سفيان- حاكم المدينة.

منظر القصر المنيف، والبيوت الطينية التي تحيطه من كل الجهات يعبّر عن الظلم الفادح في توزيع الثروات، الفقر الي جانب الغني.. البؤس الي جانب الترف والبذخ..

- اين انت يا رسول اللَّه؟!.. هلّم لتشاهد ما يفعل طلقاؤك.. في مدينتك.. اين أنت يا جدّاه....


الليل ما يزال يغمر المدينة بظلمة حالكة يحيطها بالاسرار، و النجوم ما تزال مسمّره في صفحة السماء، و القمر يختفي خلف الربي و التلال، فيزداد الظلام رهبة. كراهبة ترفل بحلّتها السوداء بدت المدينة تلك الليلة.

توقّف الرجل الاسمر ذوالعينين المتألّقتين والانف الاشمّ. وقف الي جانب النخلة التي غرسها جدّه النبي و تذكّر حديثه: اكرموا عمتكم النخلة. لقد شاخت كثيراً، ولكنها ما تزال تهَب الرطب والتمر والظلال. أسند جذعه الي جذعها.. أضحيا جذعاً واحداً.. انبثق نبع

من الصلاة، و غمر رشاش الكلمات السماوية المكان... و صلّي الحسين ركعتين.. ثم انطلق نحو النبي.

الذاكرة ماتزال تتألق بصور الطفولة.. الحسين بسنواته السبع يركض نحو جدّه العظيم.. يرتمي في أحضان النبوّة وعبق الوحي، وابتسامات الملائكة تغمر دنياه. و تتلاحق الصور.. تشتعل و تنطفئ كبروق سماوية.

ألقي الرجل الذي ذرّف علي الخمسين بنفسه علي القبر، شعر بدف ء الاحضان. احتضن التربة الطاهرة، وراح يستنشق.. يملأ صدره بشذي السماء شعر بأنه يقبّل وجه جدّه.. يمسّد شعره المتموّج تموّج الصحاري، و يداعب سوالفه المتلألئة. شعر أنه يعانق آدم


و ابراهيم، و يحتضن الكون كلّه.

- يا جدّاه، انهم يريدون مني شيئاً عظيماً.. تكاد له السماوات يتفطّرن و تنشقّ الارض. يريدون لقمم الجبال أن تغادر اماكنها الشماء الي الهاوية، و للسحب أن تدع السماء، وللنخيل أن تنحني.. انهم يريدون للحسين أن يبايع.. يبايع يزيد....

أغمض الحسين عينيه المتعبتين، فانبثق شلال من نور محمد.. وجه يتلألأ كالبدر، ترفرف حوله أجنحة الملائكة مثني و ثلاث و رباع.

- حبيبي يا حسين.. إن اباك وامك و اخاك قدموا عليّ.. انهم مشتاقون اليك، فهلمّ إلينا.

- لا حاجة بي الي الدنيا، فخدني اليك يا أبتي.

- و الشهادة يا بني.. الدنيا كلّها تحتاج شهادتك.

وانتبه الحسين علي أنفاس الصبح، فودّع جدّه وقفل عائداً الي منزله. الرؤيا تتجسّد امام عينيه، حتي كاد يلمس غصناً من سدرة المنتهي. نور سماويّ يسطع في أعماقه.. ونداء يتردد في صدره.. يدعوه الي الرحيل. لقد أزفت الساعة.. والنوق في الصحاري رفعت رؤوسها تترقب انتظام القافلة.