بازگشت

الاسي والرثاء


لم يبق أحدٌ لم يدخل عليه الحزنُ والألمُ بقتل الحسين عليه السلام، فالإمام لم يكن شخصاً، بل كان شاخِصاً، إليه تشخص أعين الأُمّة كي يُنجدها من المأزق الذي حاصرها وحاصر دينها ودنياها.

ولئن تقاعس الناسُ عن إدراك ما يجب عليهم أن يفعلوه في تلك الظروف العصيبة، ولم يتمكّنوا من الإقدام علي الفداء والتضحية، إلاّ أنّ الإمام الحسين عليه السلام بتضحيته وإقدامه فجّر في نفوسهم كوامنها، فلم يحبسوا عن الإمام نصرهم بالعواطف، بعد أن فاتهم نصره بالنفوس، وإن كان بعد أن خسروا وجوده الشريف، وما يحمله من معارف ومعاني ومكارم!


فكانت المراثي، التي تعتبر ـ في مثل ذلك الظرف الرهيب ـ استمراراً لثورة الحسين، واحداً من نتائجها لمّا انطلقت الألسنُ عن صمتها.

وأوّل من أعلن الرثاء أُمّ سلمة، زوجة الرسول صلّي الله عليه وآله وسلّم، التي ساهمتْ في نشر أخبار سيرة الحسين عليه السلام بكثرة، فقد كانتْ تستطلعُ أخبار الحسين، فقالتْ لجارية لها:

[89] أُخرجي فخبّريني، فرجعت الجارية، فقالت: قتل الحسين!

فشهقتْ شهقةً غشي عليها، ثمّ أفاقت، فاسترجعتْ، قالت: قتلوه!؟ قتلهم الله، قتلوه!؟ أذلّهم الله، قتلوه!؟ أخزاهم الله.

[329] قالت: قد فعلوها؟!

«ملأ الله بيوتهم ـ أو قبورهم ـ ناراً»

ووقعت مغشيّاً عليها! [1] .

وكان ابن عبّاس يتوقّع خبر الحسين بن عليّ إلي أن أتاه آت، فسارّه بشي، فأظهر الاسترجاع، قال الراوي:

[330] فقلنا: ما حدث يا أبا العبّاس؟!

قال: مصيبةٌ عظيمةٌ عند الله نحتسبها! [2] .

وحتّي الجنّ قد أسهموا في هذا الحُزن العظيم، مع المؤمنين، ومع الطبيعة، فقد جاءت الأخبار بما يلي:

[335] قالت أُمّ سلمة: سمعت الجنّ تنوح علي الحسين يوم قتل، وهنّ يقلن:



أيّها القاتلون ظلماً حسيناً أبشروا بالعذاب والتنكيلِ

كلّ أهل السماء يدعو عليكم من نبيّ ومرسَل وقتيلِ



قد لُعنتم علي لسان ابن داود وموسي وصاحب الإنجيلِ [3] .




[336] وجنيّة تنوح:



ألا يا عين فاحتفلي بجهدِ ومن يبكي علي الشهداء بعدي

علي رهط تقودهم المنايا إلي متجبّر في ملك عبدِ [4] .



[337] قال ابو جناب الكلبيّ: أتيتُ كربلاء، فقلت لرجل من أشراف العرب بها: بلغني أنّكم تسمعون نوح الجنّ؟

قال: ما تلقي حرّاً، ولا عبداً، إلاّ أخبرك أنّه سمع ذاك.

قلت: أخبرني ما سمعتَ أنتَ؟

قال: سمعتهم يقولون:

مسحَ الرسول جبينه فله بريق في الخدودِ

أبواه من عَلْيا قريـ ش جدّه خير الجدودِ [5] .

[338] كان الجصّاصون إذا خرجوا في السحر سمعوا نوح الجنّ علي الحسين ينشدون ذلك الشعر.

[339] ولمّا قتل الحسين بن عليّ سُمع مناد ينادي ليلاً، يُسمع صوتُه ولم يُر شخصُه:



عقرتْ ثمودٌ ناقة فاستؤصلوا وجرت سوانِحُهم بغير الأسعدِ

فبنو رسول الله أعظم حرمة وأجلّ من أُمّ الفصيل المقصدِ



عجباً لهم ولما أتوا لم يُمسخوا والله يملي للطغاة الجُحَّدِ [6] .

وأمّا الإنس: فقد فجرّت واقعة كربلاء قرائح الشعراء، أصحاب الولاء لأهل البيت، وقد ملأت مراثيهم دواوين الأشعار وكتب الأخبار، وعرف كثير من شعراء العربية برثائهم للحسين عليه السلام فقط.



وفي طليعة أهل الرثاء: خالد بن عَفران: من أفاضل التابعين كان بدمشق، وحدّثوا: أنّ رأس الحسين بن عليّ عليه السلام، لمّا صلب بالشام، أخفي خالد ابن عَفران شخصه عن أصحابه، وطلبوه شهراً حتّي وجدوه، فسألوه عن عزلته؟


فقال: أما ترون ما نزل بنا؟!

ثمّ أنشد يقول:



جاؤوا برأسك يابن بنت محمد متزمّـــلاً بدمــائه تزميـــلا

وكأنّما بك يابن بنت محمّد قتلوا جهاراً عامدين رسولا



قتلوك عطشاناً ولم يترقّبوا في قتلك التنزيل والتأويلا

ويكبّرون بأن قُتلتَ وإنّما قتلوا بك التكبير والتهليلا [7] .



[400] ومنهم ـ وقيل: إنّه أوّل من رثي الإمام عليه السلام ـ سليمان بن قَتّة، قال:



وإنّ قتيل الطفّ من آل هاشم أذلّ رقاباً من قريش فذلَّتِ

فإنْ تبتغوه عائذ البيت تفضحوا [8] كعاد تعمّتْ عن هداها فضلّتِ



مررتُ علي أبيات آل محمّد فلم أرها أمثالها حيث حلّت

وكانوا لنا غُنماً فعادوا رزيّةً لقد عظمت تلك الرزايا وجلّتِ



فلا يُبعد الله الديار وأهلها [9] لقد عظمتْ منهم برغمي تخلّتِ

إذا افتقرتْ قيسٌ جبرنا فقيرها وتقتُلنا قيسٌ إذا النعلُ زلّتِ



وعند غنيٍّ قطرة من دمائنا سنجزيهم يوماً بها حيث حلّتِ

ألم تر أنّ الأرض أضحتْ مريضةً لفقد حسين والبلاد اقشعرّتِ [10] .




[401] وأنشدوا لبعض الشعراء في مرثية الحسين بن عليّ:



لقد هدَّ جسمي رزء آل محمد وتلك الرزايا والخطوب عظامُ

وأبكتْ جفوني بالفرات مصارعٌ لآل النبيّ المصطفي وعظامُ



عظامٌ بأكناف الفرات زكيةٌ لهنَّ علينا حرمة وذمامُ

فكم حُرّةٌ مسبيّةٌ فاطميَّةٌ وكم من كريم قد علاه حسامُ



لآل رسول الله صلّتْ عليهم ملائكةٌ بيضُ الوجوه كرامُ

أفاطمُ أشجاني بَنُوكِ ذَوُو العُلا وشِبتُ وإنّي صادقٌ لَغُلامُ



وأصبحتُ لا ألتذُّ طيبَ معيشة كأَنَّ عَلَيَّ الطّيباتِ حرامُ

ولا الباردُ العذبُ الفراتُ أُسيغهُ ولا ظلَّ يهنيني الغَداةَ طعامُ



يقولون لي صبراً جميلاً وسلوةً ومالي إلي الصبر الجميل مرامُ

فكيف اصطباري بعد آل محمّد وفي القلب منهم لوعة وسقامُ





پاورقي

[1] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:153).

[2] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:153).

[3] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:154).

[4] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:154).

[5] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:154).

[6] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:155).

[7] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:392). في ترجمة خالد بن عَفران.

[8] البيت في مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور: (فإن تبتغوه عائذ البيت تصيحوا).

[9] الشطر الثاني من البيت السابق، وهذا الشطر کلاهما من مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور.

[10] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:158).