بازگشت

مواقف متأخرة


ودائماً، وفي كلّ حوادث التاريخ، يبقي بعضُ الناس في المؤخّرة، لأنّهم يحتاطون، فيقفون بعيداً عن الأحداث، لئلاّ يُصيبهم شررٌ أو أثارة من سوء.

لكن ليس مصير المتأخّرين دائماً النجاة والسلامة، وإنْ بقوا بعيدين عن الإصابات، فهم ليسوا بمنجاة من الحسابات، حسابات التأريخ والضمير والواقع.

وهكذا كان شأن الّذين تخلّفوا عن اللحوق بالحسين عليه السلام سواء في مسيره إلي أرض كربلاء، أو في سيرته علي أهداف كربلاء، وخاصّةً أُولئك الّذين كانت تمدّ إليهم الأعناق، باعتبارهم حاملين للنصوص الفاصلة لكلّ نزاع، التي هي وصايا النبيّ وسُنّته صلّي الله عليه وآله وسلّم، وهم صحابته وحاملو آرائه.

ولكن هؤلاء الّذين لم يلحقوا الفتح بتخلفّهم عن وجهة الحسين عليه السلام في المسير والسيرة، وجدوا أنفسهم ـ بعد الحسين عليه السلام ـ بين مخالب القتلة، وزهوهم بعد المذبحة التي ارتكبوها بحقّ الثائرين!

ومهما فرضنا لهؤلاء المتخلّفين من البساطة، وأنّهم لم يكونوا يتصوّرون أن الدولة الإسلاميّة تُقدِمَ علي قتل جمع من خيرة رجال المسلمين، وفي

مجموعتهم كوكبة من آل محمد، وعلي رأسهم الحسين ابن بنت رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم! وأنّهم فوجئوا بذلك، فأُسقط في أيديهم!

لكنَّ بُعْدَهم عن مجريات الأحداث، إلي الحدّ الذي يؤدّي بهم إلي هذه السذاجة، وتخلّفهم عن ركب الدفاع عن حياض الإسلام، والالتحاق بالوحيد المتبقّي من سلالة محمّد صلّي الله عليه وآله وسلّم، هو في نفسه يشكّل نقطة محاسبة عسيرة.

وكفاهم ذُلاًّ ومهانة، أنْ يحضروا مجلس الحكّام القتلة ليُشاهدوا بأعينهم ما يجري علي رأس الحسين ـ ذلك الرأس الذي رأته أعينهم ذاتها علي صدر


الرسول صلّي الله عليه وآله وسلّم، وعلي عاتقه وفي حجره! ـ لكن في حالة أُخري، وبالضبط كما يروونها هم:

فهذا أنس بن مالك:

[319] قال: لمّا قُتل الحسين جي برأسه إلي عبيدالله ابن زياد، فجعل ينكث بقضيب علي ثناياه، وقال: إن كان لحسن الثغر!

فقلتُ: أما والله لأسوأنّك، لقد رأيتُ رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم يقبّل موضع قضيبك من فيه [1] .

وهل كان أنس ـ وهو خادم النبيّ ـ جريئاً حتّي يتمكّن من مواجهة ابن زياد بهذا؟!

ولماذا لم يُحاول أن يُسيئ إلي ابن زياد، قبل أن يضرب ثنايا الحسين؟!، بل قبل أن يقتل الحسين عليه السلام؟!

ألم يكن عبيد الله مجرماً، ومستحقّاً للإساءة قبل هذا؟!

ثمّ ماذا يفعل أنس في مجلس عبيد الله، في مثل هذا الوقت؟!

وهل رأي أنس رسول الله يفعل ذلك ـ فقط ـ بسبطه الحسين؟! دون غيره من أفعال فعلها بالحسين، وأقوال قالها في الحسين، والتي عرفنا بعضاً منها في فصلي (10 و11).

هذا وهو خادم رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم، ملازم له علي باب داره؟!

ثم ـ أخيراً ـ لماذا لم يُحاول أن يُبرز هذا الذي رآه يفعله الرسول بسبطه الحسين، قبل هذا المجلس؟! حتي لا يصل الأمر إلي هذه الحال؟!

وهذا زيد بن أرقم:

[321] قال: كنت عند عبيد الله بن زياد لعنه الله، إذ أُتي برأس


الحسين بن عليّ، فوضع في طست بين يديْه، فأخذ قضيباً، فجعل يفتر به عن شفتيه، وعن أسنانه!

فلم أرَ ثغراً ـ قطّ ـ كان أحسن منه، كأنّه الدرّ، فلم أتمالك أن رفعتُ صوتي بالبكاء.

فقال: ما يُبكيك، أيّها الشيخ؟!

قلت: يُبكيني ما رأيت رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم، يمصّ موضع هذا القضيب ويلثمه، ويقول: الّلهمّ إنّي أُحبُّه فأحبَّه [2] .

وفي نصٍّ آخر، أن ابن زياد قال لزيد: «إنّك شيخ قد خرفتَ وذهب عقلك!»

والذي يستوقف الناظر: ماذا كان يفعل هذا الصحابي الشيخ في مجلس عبيدالله؟ داخل القصر؟ في مثل هذه الأيّام؟!

هل كان يجهل أنّ النّاسَ في الكوفة قد ذهبوا لقتال الحسين عليه السلام؟!

فهو إذاً قد خرف حقّاً!

ثمّ أين كان حماسُهُ هذا، قبل أن يؤتي برأس الحسين عليه السلام؟!

ولماذا لم يرو قبل هذا ما رواه بعد هذا المجلس، لمّا:

[322] خرج زيد بن أرقم من عنده ـ يعني ابن زياد ـ يوْمئذ وهو يقول: أما والله، لقد سمعت رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم، يقول: الّلهمّ إنّي استودعكه وصالح المؤمنين.

فكيف حفظكم لوديعة رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم [3] .

لكن، كيف كان حفظُك أنت يا صحابي لوديعة رسول الله صلّي الله عليه وآله

وسلّم؟! وقد أسلمتَه وحدَه، في كربلاء، يُذْبَح هو وأهل بيته، وشيعته؟! وأنت تنادم ابن زياد؟!

ولكن هذه المواقف المتأخّرة، هل تَسُدُّ شيئاً ممّا أُصيب به الإسلام من


الثلمات؟! أو تردّ علي الأُمّة ما فقدوه من الرجالات؟!

ولو وقفوا هذه المواقف قبل قتل الحسين عليه السلام، لكانت أشرفَ لهم، وأنفع للأُمّة.

ولو ساروا بعد ذلك بسيرة الحسين عليه السلام، لكان أعذرَ لهم، وأخلد لذكرهم!

أمّا لو ضيّع الصحابة وديعة الرسول صلّي الله عليه وآله وسلّم، وهم «السلف» المخاطبون بحفظها مباشرة! فما هو عتابه علي البُعداء التابعين لهم في دينهم وعقيدتهم، وهم «الخلف» الّذين يستنّنون بسُنّتهم!


پاورقي

[1] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:151).

[2] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:152).

[3] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:152).