بازگشت

و اما نوعية انصار الحسين، كيفا


فقد مثّلوا كلّ شرائح المجتمع البارزة، ذلك اليوم، بالإضافة إلي عِيْنة الأُمّة أهل البيت.

ففيهم من صحابة الرسول صلّي الله عليه وآله وسلّم، أنس بن الحارث بن نبيه الأسدي، الكوفي.

وهو الذي روي عن رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم، قوله:

[283]: إنّ ابني هذا ـ يعني الحسين ـ يقتل بأرض يقالُ لها: «كربلاء» فمن شهد ذلك منكم فلينصره!

قالوا: فخرج أنَسُ بن الحارث إلي كربلاء، وقتل بها مع الحسين.


لكنّ حديث النبي وإخباره عن مقتل ابنه في كربلاء، لم ينحصر سماعه لهذا الصحابي العظيم.

فأين كان سائر الصحابة الّذين عاصروا معركة كربلاء؟!

ولماذا لم يحضروا، ولم ينصروا؟!

إنّ وجود العدّة القليلة من الصحابة الكرام في معركة كربلاء كافية لتمثيل جيل الصحابة الّذين كانت لهم عند الناس حرمة وكرامة بصحبة رسول الله، وقد تمّت بوجودهم الحجّة، إذ يمثّلون الاستمرار العينيّ لوجود سُنّة الرسول صلّي الله عليه وآله وسلّم وحديثه وأمره، في جانب الحسين عليه السلام.

وكان مع الحسين من أصحاب الإمام عليّ أمير المؤمنين عليه السلام: عمّار ابن ابي سلامة بن عبد الله الهمداني، الدالاني، وغيره، ممّن شاهدوا علّياً وهو يُواسي الحسين في هذه الأرض بنداءاته المدوّية في فَضائه: «صبراً أبا عبد الله».

وكانوا يمثّلون بحضورهم وجود عليّ عليه السلام وصرخاته وتشجيعاته للحسين وأصحابه.

وقد اشترك في معركة كربلاء إلي جانب الحسين عليه السلام أُناس كانوا قبل قليل من أعدائه، كالحرّ بن يزيد الرياحي.

وكان فيهم ممّن يكنّ أبلغ الحقد والعداء للإمام، ومن المحكّمة الخوارج، فانحازوا إلي الإمام لمّا سمعوا منه الحقّ، وشاهدوا ما عليه من المظلومية، وما كان عليه أعداؤه من الباطل والقساوة والتجاوز.

وحتّي كان في جيش الحسين عليه السلام، ذي العدد الضئيل، جنود مجهولون، لم تحرّكهم إلاّ أنْباء كربلاء، التي بلغتْهم، فبلغتْ إلي عقولهم، وبلغتْ بهم قمم الشهادة، فالخلود.

[269] قال العربان بن الهيثم: كان أبي يَتَبديَ [1] فينزل قريباً من


الموضع الذي كان فيه معركة الحسين، فكنّا لا نبدو إلاّ وجدنا رجلاً من بني أسَد هناك، فقال له أبي: أراك ملازماً هذا المكان؟

قال: بلغني أن حُسَيْناً يُقتل هاهنا، فأنا أخرج إلي هذا المكان، لعلّي أُصادفه فأُقْتَلَ معه!

قال الراوي: فلّما قُتِلَ الحسين، قال أبي: انطلقوا ننظر: هل الأسدي فيمن قُتِلَ؟

فأتينا المعركة، وطوّفنا، فإذا الأسدي مقتول! [2] .

ولئن خان الجيشُ الكوفيّ بعهوده، واستهتر برسائله وكتبه ووعوده، لكن أصحاب الحسين عليه السلام ـ علي قلّة العدد ـ ضربوا أروع الأمثلة في الوفاء، والفداء، وكانوا أكبر من جيش الكوفة في الشجاعة والبطولة والإقدام، وقد مجّد الإمام الحسين عليه السلام بموقفهم العظيم في كلماته وخطبه في «يوم عاشوراء».

أمّا هُمْ، فكانوا يقفون ذلك الموقف عن بصائر نافذة، وعن خبرة، وعلم اليقين بالمصير، ولقد أصبحَ إيثارهم بأرواحهم لسيّدهم الإمام الحسين عليه

السلام عينَ اليقين، للتاريخ، ومضرب الأمثال للأجيال.

ومثال واحد ذكره ابن عساكر عن محمّد بن بشير الحضرميّ الذي لزم الحسين وكان معه في كربلاء:

[200] إذ جاءه نبأُ ابنه أنّه اُسِرَ بثغر الريّ، فقال: عند الله أحتسبُه ونفسي، ما كنتُ أُحبُّ أن يُؤسَرَ، ولا أنْ أبقي بعده.

فسمع الحسينُ كلامه، فقال له: «رحمك الله، وأنت في حلٍّ من بيعتي، فاعمل في فكاك ابْنِك!»

قال: أكَلَتْني السباعُ حَيّاً إنْ فارقتُكَ!

فقال له الحسين: فأعْطِ ابنك هذه الأثواب البُرود، يستعِنْ بها في


فداء أخيه.

فأعطاه خمسة أثواب، قيمتها ألف دينار [3] .

إنّ الكلمة لتقصُر عن التعبير في وصف موقف هؤلاء، كما أنّ الذهن ليعجز عن تصوير ما في قلوبهم من الودّ والإخلاص لإمامهم.

إلاّ بتكرار عباراتهم نفسها!

وبهذه النفوس الكبيرة، والعقول البالغة الرشيدة، والقلوب المليئة بالولاء، والمفعمة بالإخلاص، وعلم اليقين بالموقف والمصير، وبالشجاعة والجرأة والبطولة النادرة والثبات علي الطريق، دخل الحسين عليه السلام معركته الفاصِلة في كربلاء.


پاورقي

[1] أي يخرج إلي البادية.

[2] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:145).

[3] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7 :129 ـ 130). ولقد تحدثنا عن المواقف الأُخري للشهداء، تلک المليئة بالوفاء والإيثار في مقال بعنوان «شهداء حقّاً» نشر في مجلة «ذکريات المعصومين، الکربلائية» سنة1385 عدد محرم.