بازگشت

عراقيل علي المسير


لا ريب أنّ تخلّص الحسين عليه السلام من مسألة البيعة، وخروجه بهذا الشكل المتخفي من المدينة، لم يُرض الدولة ولا أجهزتها، فلذلك تصدّوا للموقف بمحاولة اغتيال الحسين عليه السلام في مكّة، وفي زحام الموسم، وقد جـاء في بعض المصـادر «أنّ يزيد بثّ من يغتـاله ولو كان متعلّقـاً بأستـار الكعبة».

وعلي أبعد احتمال كان الحسين عليه السلام يُجَرُّ إلي المواجهة المسلّحة مع رجال الدولة في منطقة الحرم، ذلك الأمر الذي لا يريده الحسين عليه السلام، بل يربأ بنفسه أن يقع فيه، كما عرفناه في الفقرة(22).

فلذلك عزم علي الخروج من مكّة.

[ص205] فخرج متوجّهاً إلي العراق، في أهل بيته، وستّين شيخاً من أهل الكوفة، وذلك يوم الإثنين في عشر ذي الحجّة سنة ستّين.

ولابُدّ أنّ أجهزة الحكم كانت تلاحق الحسين وتراقب تحرّكاته، ويحاولون صدّه عن ما يريد، وبالخصوص توجّهه إلي منطقة الكوفة في العراق التي تعتبر


ـعند حكّام الشام ـ أرض المعارضة الشيعيّة العلوية، وإذا أفلت الحسين عليه السلام منهم، فلا بُدّ من وضع العراقيل في طريقه حتّي يتراجع، ولا يخرج إلي العراق.

ومن الملاحظ في طريق الحسين عليه السلام كثرة عدد «الناصحين» له عليه السلام بعدم الخروج إلي العراق، وتكاد كلمتهم تتّفق علي السبب، وهو «أنَّ أهل العراق أهل غدر وخيانة، وأنّهم قتلوا أباه وطعنوا أخاه».

ومن الغريب أن نجد في الناصحين: القريب والغريب، والشيخ والشابّ، والرجل والمرأة، ثم نجد الصحابي، والتابعي، والصديق، والعدوّ.

ومن جهة أُخري: نجد إجابة الإمام الحسين عليه السلام لكلّ واحد تختلف عن إجابته للآخر، ولكنّ الحقيقة واحدة. وسكت عن إجابة البعض.

وأمّا تفصيل الأمر:

جاءه أبو سعيد الخُدْري، فقال:

[ص197] يا أبا عبد الله، إنّي لكم ناصح، وإنّي عليكم مشفق، وقد بلغني أنّه كاتبك قوم من شيعتكم بالكوفة يدعونك إلي الخروج إليهم، فلا تخرج، فإنّي سمعتُ أباك، يقول بالكوفة: «والله لقد مللتُهم وأبغضتُهم وملّوني وأبغضوني، وما بلوت منهم وفاءً ومن فاز بهم فاز بالسهم الأخيب» والله ما لهم ثبات، ولا عزم أمر، ولا صبر علي سيف!

ولم يذكروا جواب الإمام الحسين عليه السلام لأبي سعيد، الصحابي الكبير، ولعلّ الإمام تغافل عن جوابه، احتراماً لكبر سنّه، أو تعجّباً منه لعدم تعمقّه في الأُمور، وعدم تفكيره فيما أصاب الإسلام وما يهدّده من أخطار، بقدر ما كان يفكر في سلامة الحسين عليه السلام؟!

وقال عبد الله بن عيّاش بن أبي ربيعة:

[ص201] أين تريد يابن فاطمة؟!


إنّي كاره لوجهك هذا، تخرج إلي قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك، حتّي تركهم سخطة وملّة لهم.

أُذكّرك الله أن تغرّر بنفسك [1] .

ولم يذكروا جواب الإمام هنا أيضا.

وقال أبو واقد الليثي:

[ص201] بلغني خروج حسين، فأدركته، بـ «مَلَل» فناشدته الله أن لا يخرج، فإنّه يخرج في غير وجه خروج، إنّما يقتل نفسه!

وقد ذكر جواب الحسين عليه السلام لهذا أنّه قال: «لا أرجع» [2] .

وكتب إليه المِسْوَر بن مخرمة:

[ص202] إيّاك أن تغترّ بكتب أهل العراق... إيّاك أن تبرحَ الحرمَ، فإنّهم إن كانت لهم بك حاجة فسيضربون إليك آباط الإبل حتّي يوافوك، فتخرج في قوّة وعدة [3] .

ويبدو أنّ المِسْوَر كان يعرف السبب الأساسيّ لتوجّه الحسين عليه السلام وخروجه، وهذا يدلّ علي مزيد من الارتباط والتداخل مع قضيّة الحسين عليه السلام، لكنّه ـ لجهله بمقام إمامة الحسين ـ يتصدّي بهذه اللهجة لتحذيره، ولعدم وجود سوء نيّة عنده، يذكر خيانة أهل العراق، ويقترح علي الحسين عليه السلام مخرجاً من التكليف، وهو أن يترك العراقيّين ليقدموا بأنفسهم إلي الخروج إلي الحسين عليه السلام، وهذه نصيحة مشفق، متفهّم لجوانب من الحقيقة، وإن خفي عليه لبّها وجوهرها.

ولذلك نجد إن الحسين عليه السلام كان ليّناً في جوابه:

فجزّاه خيراً، وقال: أستخير الله في ذلك [4] .


وكتبت إليه عمرة بنت عبد الرحمن، تعظّم عليه ما يريد أن يصنع، وتأمره

بالطاعة ولزوم الجماعة! وتخبره أنَّه إنّما يُساق الي مصرعه، وتخبره، وتقول:

[ص202] أشهدُ لحدّثتني عائشة أنّها سمعتْ رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم يقول: يقتل حسين بأرض بابل [5] .

إن تدخّل هذه المرأة في الأمر غريب، والنساء ـ الأكبر منها قدراً والأكثر منها معرفة وحديثاً ـ حاضرات، والأغرب أنّها «تأمر» الإمام «بالطاعة ولزوم الجماعة» وهذه اللغة، إنّما هي لغة الدولة ورجالها والمندفعين لها، ولا أستبعد أن يكون وراء تحريك هذه! وهي ربيبة عائشة والراوية لحديثها، أيد عميلة للدولة.

وقد كان جواب الإمام لها إلزامها بما رَوَتْ، فلما قَرأ كتابها قال:

«فلابُدّ لي ـ إذَنْ ـ من مَصْرعي»

ومضي عليه السلام.

وأتاه أبو بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقال:

[ص202] إنّ الرحم تُصارّني [6] عليك، وما أدري كيف أنا عندك في النصيحة لك؟!

قال عليه السلام: يا أبا بكر: ما أنت ممّن يُستغشَّ ولا يُتَّهم، فقل.

قال: قد رأيتَ ما صنع أهل العراق بأبيك وبأخيك، وأنت تريد أن تسير إليهم، وهم عبيد الدنيا، فيقاتلك مَنْ قد وعدك أن ينصرك، ويخذلك من أنت أحبّ إليه ممّن ينصر. فاذكّرك الله في نفسك.

إنّ أبا بكر، حسب النصّ عن الحسين ليس هو متّهماً ولا يتوقع منه الغش، كما يُتّهم غيره من «الناصحين»! ثم يبدو أنّه إنسان بعيد النظر حيث تنبّأ بأُمور، أصبحت حقيقةً، فيبدو أنّه كان مخلصاً في نصحه.

ولذلك كان جواب الإمام الحسين عليه السلام له، أن قال:


[ص202] جزاك الله ـ يابن عمّ ـ خيراً، فقد أجتهدت رأيك ومهما يقضِ الله من أمر يكنْ.

وكتب إليه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب كتاباً يحذّره أهل الكوفة، ويُناشده الله أن يشخص إليهم.

فكتب إليه الحسين عليه السلام:

[ص202] إنّي رأيتُ رؤيا، ورأيت فيها رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم، وأمرني بأمر أنا ماض له، ولستُ بمخبر بها أحداً حتّي أُلاقي عملي [7] .

وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص:

[ص202 ـ 203] إنّي أسأل الله أن يُلهمك رُشدك، وأن يصرفك عمّا يُرديك، بلغني أنّك قد اعتزمت علي الشخوصَ إلي العراق، فإنّي أُعيذك بالله من الشقاق.

فإنْ كنتَ خائفاً فأقبلْ إليّ، فلك عندي الأمانُ والبرّ والصلة.

وعمرو هذا من الأُمراء الأقوياء، في فلك الحكام، وذو عدّة وعَدَد، ويبدو من كتابه أنّه علي ثقة من نفسه، وأنّه إنّما كتب الكتاب مستقلاًّ، وأمّا نيّته فلا يبعد أن يكون قد فكّر في التخلّص من الحسين عليه السلام وحركته بنحو سلميّ، لأنّه كان ممّن يرشَّح نفسه للحكم، أو هو محسوب علي الحكم، ولا يحبّ أن يتورّط في مواجهة مع الحسين عليه السلام، ومع هذا فهو جاهل بكلّ الموازين والمصطلحات الإسلامية، فهو يحذّر الإمام من «الشقاق» ثمّ هو يُحاول أن يُطمع الحسين في الأمان والبرّ والصلة!

وقد كتب إليه الحسين عليه السلام جواباً مُناسباً هذا نصّه:

[ص203] إن كنتَ أردتَ بكتابكَ إليَّ برّي وصلتي، فجُزيتَ خيراً في الدنيا والآخرة.


وإنّه لم يُشاقق مَنْ دعا إلي الله وعمل صالحاً وقال إنّني من المسلمين.

وخير الأمانِ أمانُ الله، ولم يؤمِنِ الله من لم يَخَفْهُ في الدنيا، فنسأل الله مخافةً في الدنيا توجب لنا أمانَ الآخرة عنده [8] .

ومن العِبَرِ أنّ عمراً ـ هذا ـ اغترّ بأمان خلفاء بني أُميّة فغدروا به، وقطّعوه بالسيوف، ولم ينفعه أهله وعشيرته، فخسر أمان الدنيا وأمان الآخرة!

ويبقي من الناصحين العبادلة: ابن عبّاس، وابن عمرو، وابن الزبير، وابن عمر:

أمّا ابن عبّاس: فلو صحّت الرواية فإنّ يزيد بن معاوية، دفعه علي التحرّك في هذا المجال، وكتبَ إليه يخبره بخروج الحسين إلي مكّة، وقال له:

[203] وأنت كبير أهل بيتك والمنظور إليه، فاكْفُفْه عن السعي في الفُرقة.

وتقول الرواية: إنّ ابن عبّاس أجاب يزيد، فكتب إليه: إنّي لأرجو أن لا يكون خروج الحسين لأمر تكرهه، ولستُ أدع النصيحة له في كلّ ما يجمع الله به الأُلفة وتُطفأ به النائرة.

وتقول الرواية: ودخل عبد الله بن العبّاس علي الحسين، فكلّمه ليلاً طويلاً، وقال:

[ص204] أنشدك الله أن تهلك غداً بحال مضيعة، لا تأتِ العراقَ، وإن كنتَ لابُدّ فاعلاً، فأقم حتّي ينقضي الموسم وتلقي النّاسَ، وتعلم علي ما يُصدرون؟ ثمّ تري رأيك!

وتحدّد الرواية تاريخ هذا الحديث «في عشر ذي الحجّة سنة ستّين».

وتقول الرواية: فأبي الحسين إلاّ أن يمضي إلي العراق، وقال لابن عبّاس:


يابن العبّاس، إنّك شيخ قد كبُرتَ [9] .

ثمّ خرج عبدالله من عند الإمام عليه السلام، وهو مغضب!

ولو صحّت الروايةُ، فإنّ إقدام ابن عبّاس علي هذا العمل، وانبعاثه ببعث يزيد، وأُطروحته بتأخير الحركة، وسائر كلامه يدلّ علي تناسي ابن عبّاس لمقام الحسين عليه السلام في العلم والإمامة، وعلي بُعده عن الأحداث.

فكان جواب الحسين عليه السلام بأنّه «شيخ قد كبر» تعبيراً هادئاً عن فقده للذاكرة، وقوّة الحدس، وما اتصّف به ابن عبّاس من الذكاء طول حياته الماضية، والتي كشفتْ عنها مواقفُه السامية.

مع انّ الإمام الحسين عليه السلام ذكر لابن عبّاس أمراً جعله يهدأ، وهو قوله له:

[ص204] لأن أُقتلَ بمكان كذا وكذا، أحبّ إليّ أن تستحلّ بي ـ يعني مكّة ـ.

فبَكي ابن عبّاس، وكان يقول:

فذاك الذي سلا بنفسي عنه [10] .

وهذا ما يُبعد كل ما احتوته تلك الرواية، ولعل الرواة خلطوا بين ابن الزبير وابن عبّاس.

ولو كان يزيد تمكّن من تحريك شيخ بني هاشم في تنفيذ ما يُريد، فكيف لغيره من البُلهاء والمغفَّلين، أو البسطاء والمستأجرين!

وأمّا ابن عمرو ـ ابن العاص ـ فلم تُؤثر عنه كلمة في «الناصحين» إلاّ أنّه قال ـ لمّا سئل عن الحسين ومخرجه ـ:

[ص206] «أما إنّه لا يَحِيْكُ فيه السلاحُ» [11] .


ومعني كلامه: أنّه لا يضرّه القتل مع سوابقه في الإسلام، لكنّ الفرزدقَ الشاعرَ استشعر من الكلام دلالةً أُخري، ولعلّه عدّها تشجيعاً علي الخروج وتأييداً له وحثّاً عليه، حتّي عدّ ذلك من ابن العاص نفاقاً وخبثاً!

وأمّا ابن الزبير فقد حشرهُ بعض المؤرّخين في «الناصحين» وإنْ صحّت الرواية بذلك، فهو بلا ريب ممّن «يُستغشُّ» في نُصحه، لأنّه هو الذي شبّ علي عداء أهل البيت النبويّ، ودفع أباه في أتون حرب الجمل، ووقف مع عائشة خالته في وجه العدالة، ولقد أبدي حقده وسريرة نفسه، لمّا استولي علي الحكم في مكّة، فكان يترك الصلاة علي النبي صلّي الله عليه وآله وسلّم حسداً لآله.

وقد جمع آل أبي طالب في الشعب، مهدّداً بالإحراق عليهم، لمّا أبوا أن يبايعوه ويعترفوا بإمارته.

وقد كان يكيد للإمام زين العابدين في المدينة [12] .

هذا الرجل لم يُحاول نصح الحسين عليه السلام بعدم الخروج خوفاً عليه من قتلة أبيه وأخيه، بل لا يذكر ذلك إلاّ شماتةً!

وقد أجابه الإمام الحسين عليه السلام ـ كما في الرواية ـ متُناسياً هذا الماضي الأسود، لكن مذكّراً إيّاه بمستقبل مشؤوم.

[248] فقال له: لأن أُقتلَ بمكان كذا وكذا أحبَّ إليَّ من أن تستحلّ بي ـ يعني مكّة ـ.

متنبئاً بتسبّبه في انتهاك حرمة البيت والحرم، عندما يعلن طغيانه في داخل مكّة ويستولي عليها، ممّا يفتح يد جيش الشام لانتهاك حرمتها، بل رميهم للكعبة وهدمها.

بينما الحسين عليه السلام قد خَرج من مكّة رعايةً لهذه الحرمة أن تهتك.

وهكذا كان أهل البيت يُحافظون علي هذه الحرمة كما قرأناه في الفقرة


(22).

لكن هُناك نُقولٌ وأحاديث كثيرة تؤكّد علي أنّ ابن الزبير لم يكن إلاّ من المشجّعين للحسين عليه السلام علي الخروج إلي العراق، صرّح بذلك سعيد بن

المسيّب [13] واتّهمه بذلك بشدّة المِسْوَر بن مخرمة [14] وأمّا ابن عبّاس فقد واجه ابن الزبير بذلك، حين قال له:

[ص204] يابن الزبير، قد أتي ما أحببت، قرّت عينك، هذا أبو عبد الله يخرج، ويتركك والحجاز، وتمثّل:

يالــك من قُبَّــرة بمعمــرِ خلا لَك الجوّ فبيضي واصفري

ونقّري ما شئتِ أنْ تنقّريْ [15] .

وأمّا ابن عمر: ذلك المتظاهر بالورع المُظْلم، الذي لم يميّز به الحق ولم يبتعد عن الباطل، ويُحاول ـ بزعمه ـ الانعزال عن الفتنة، رغبةً في العفّة عن الدماء.

فإنّه كان أصغر من أن يجد الحل المناسب للخروج عمّا يدخل فيه، إن أحْسَنَ أن يدخُلَ في شيء!

فهو علي أساس من نظرته الضعيفة والملتوية امتنعَ عن مبايعة الإمام عليّ أمير المؤمنين عليه السلام المجمع علي إمامته، لكنّه يقصد الحجّاج ليُبايعه زاعماً أنّه سمع رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم يقول: «من باتَ وليس في عُنقه بيعةٌ،

ماتَ ميتةً جاهليّة» [16] فمدّ الحجّاج إليه رجله يُبايعه بها، وحاجَجَهُ في امتناعه عن بيعة عليّ عليه السلام بأنّه لمَّا ترك بيعته أما كان يخافُ أن يموت في بعض تلك


الليالي؟!

فكان الحجّاجُ المُلحد، أبصَر في ذلك من ابن عمر المتزهّد!!

وهكذا يجرُّ الخذلانُ بعضَ الناس إلي العمي عن رؤية ما بين يديه، وهو يدّعي أنّه يري الأُفقَ البعيدَ!

وبعد هذه المواقف الهزيلة، يأتي ابنُ عمر إلي الحسين عليه السلام ليحشر نفسه في «الناصحين» له بعدم الخُروج إلي العراق، زاعماً:

[245] إنّ أهل العراق قومٌ مناكير، وقد قتلوا أباك وضربوا أخاك، وفعلوا، وفعلوا.

ولمّا أبي الإمام ـ بما سيأتي نقله ـ قال ابن عمر:

[246] أستودعك الله من قتيل.

لكن كلّ ما ذكره ابن عمر، لم يكن ليخفي علي الحسين نفسه، لأنّه عليه السلام كان أعرف بأهل الكوفة، وما فعلوه، حيث كان فعلهم بمنظر منه ومسمع، وبغياب ابن عمر عن ساحة الجهاد ذلك اليوم، فليس إلي تنبُّؤات ابن عمر حاجة؟!!

واذا كانت نظرة ابن عمر عدم التدخّل في السياسة، والانعزال عن الفتن، فلم يكن تدخُّله اليوم، ومحاولته منع الحسين من الخروج منبعثاً عن ذات نفسه، وإنّما أمثاله من البله يندفعون دائماً مع إرادات الظالمين، ولو من وراء الكواليس، أُولئك الّذين كان ابن عُمر يُغازلهم ويتقرّبُ إليهم مثل معاوية، ويزيد، والحجّاج!

وما أجابَ به الإمامُ الحسين عليه السلام هؤلاء الناصحين، قد اختلف حسب الأشخاص، وأهوائهم، وأغراضهم، ومواقعهم، وقناعاتهم، وقربهم، وبُعدهم، كما رأينا.

وأمّا الجواب الحاسم، والأساسيّ، فهو الذي ذكره الإمام في جواب الأمير الأُموي عمرو بن سعيد، فقال:


[ص203]... إنّه لم يُشاقق مَنْ دعا إلي الله، وعمل صالحاً، وقال: إنّني من المسلمين [17] .

فإذا كان الحسينُ عليه السلام خارجاً لأداء واجب الدعوة إلي الله، فلا يكون خروجه لغواً، ولا يحقّ لأحد أن يُعاتبه عليه، لأنّهُ إنّما يؤدّي بإقدامه واجباً إلاهيّاً، وضعه اللهُ علي الأنبياء وعلي الأئمّة، من قبل الحسين وبعده.

وإذا أحرز الإمام تحقّق شروط ذلك، وتمَّتْ عنده العدّة للخروج، من خلال العهود والمواثيق ومجموعة الرسائل والكتب التي وصلت إليه. فهو لا محالة خارج، ولا تقف أمامه العراقيل المنظورة له والواضحة، فضلاً عن تلك المحتملة والقائمة علي الفرض والتخمين، مثل الغدر به وهلاكه، ذلك الذي عرضه

«الناصحون»، فكيف لو كان المنظور هو الشهادة والقتل في سبيل الله، التي هيَ من أفضلِ النتائج المتوقّعة، والمترقّبة، والمطلوبة لمن يدخل هذا السبيل.

مع أنّها مقضيّة، ومأمور بها، وتحتاج إلي توفيق عظيم لنيلها، فهي إذن من صميم الأهداف التي يضَعها الإمام أمام وجهه، لا أنّها موانع لإقدامه!

وأمّا أهل العراق وسيرتهم، وأنّهم أهل النفاق والشقاق، وعادتهم الغدر والخيانة. فتلك أُمور لا تُعرقل خُطّة الإمام في قيامه بواجبه، وإنّما فيها الضرر المتصوّر علي حياة الإمام وتمسُّ راحته، وليس هذا مهمّاً في قبال أمر القيادة الإسلامية، وأداء واجب الإمامة، حتّي يتركها من أجل ذلك، ولذلك لم يترك الإمام عليّ عليه السلام أهل الكوفة، بالرغم من استيائه منهم إلي حدّ الملل والسأم، لكن لا يجوزُ له ـ شرعاً ـ أن يترك موقع القيادة، وواجب الإمامة من أجل أخلاقهم المؤذية لشخصه.

وكذلك الواجب الذي أُلقي علي عاتق الإمام الحسين عليه السلام بدعوة أهل العراق، وأهل الكوفة، بالخروج إليهم، والقيام بأمر قيادتهم، وهدايتهم إلي


الإسلام، لم يتأدَّ إلاّ بالخروج، ولم يسقط هذا الواجب بمجرّد احتمال العصيان غير المتحقّق في ظاهر الأمر!

فكيف يرفع اليد عنه؟ وما هو عذره عن الحجّة التي تمّت عليه بدعوتهم له؟ ولم يبدُ منهم نكثٌ وغدرٌ بعدُ؟

فلابُدّ أنْ يمضي الإمام في طريق آداء واجبه، حتي تكون له الحجّة عليهم إذا خانوا وغدروا، كما حدث في كربلاء، ولو علي حساب وجوده الشريف.

وقد كان الإمام يُعلن، ويُصرّح، ويُشير ـ باستمرار ـ إلي «كتب القوم ورسائلهم» عندما يُسأل عن وَجْه مسيره. ليدلّ المعترضين علي خروجه، إلي هذا الوجه الرصين المحكم، وهذا الواجب الإلهيّ المستقرّ علي الإمام عليه السلام.

وهكذا أسكت الإمام اعتراض ابن عمر فقال له مكرّراً:

[246] «هذه كتبهم وبيعتهم» [18] .

وكلّ مسلم يعلم أنّ الحّجة إذا تمّت علي الإمام ـ بحضور الحاضر ووجود الناصر ـ فقد أخذ الله عليه أن يقومَ بالأمر عند انعدام العذر الظاهر، ولا تصدُّه احتمالاتُ الخِذلان، ولا يردعُه خَوفُ القتل عن ترك واجبه، أو التقصير في ما فُرض عليه.

بل لابُدّ من أن يسيرَ علي ما ألزمه الله ظاهراً، من القيام بالأمر وطلب الصلاح والإصلاح في الأُمّة، حتّي تنقطع الحّجة، ولا يبقي لمعتذر عذر.

وهكذا كانَ يعملُ الأنبياء من قبل.

وهاهو الحسين عليه السلام، إمام عصره، وسيّد المسلمين في زمانه، يجد المخطّط الأُمويّ لعودة الناس إلي الجاهليّة يُطبَّق، والإسلام بكلّ شرائعه وشرائحه يُهدّد بالاندثار والإبادة، ويجد أمامه هذه الكثرة من كتب القوم، ودعواتهم، وبيعتهم، وإظهارهم للاستعداد، فأيُّ عذر له في تركهم؟! وعدم الاستجابة لهم؟!


وهل المحافظة علي النفس، والرغبة في عدم إراقة الدماء، والخوف من القتل، أُمور تمنع من أداء الواجب، وتعرقل مسيرة المسؤولية الكبري، وهي المحافظة علي الإسلام وحرماته؟! وإتمام الحجّة علي الأُمّة بعد دعواتها المتتالية!؟ واستنجادها المتتابع؟

ثمَّ هَلْ تُعْقَلُ المحافظة علي النفس، بعد قطع تلك المراحل النضالية والتي كان أقل نتائجها المنظورة القتلُ، حيث إنّ يزيداً صمّم علي الفتك بالإمام عليه السلام الذي كان يجده السدّ الوحيد أمام استثمار جهود أبيه في سبيل الملك الأُموي العَضوض فلابدّ من أن يزيحه عن هذا الطريق، ويتمني الحكم الأُموي لو أن الحسين عليه السلام يقف هادئاً ولو للحظة واحدة حتي يركّز في استهدافه ويقتله! وحبّذا لو كان قتل الحسين بصورة اغتيال حتي يضيع دمه وتهدر قضيته!

وقد أعلن الحسين عليه السلام عن رغبتهم في ان يقتلوه هكذا، وانّهم مصممون علي ذلك حتي لو وجدوه في جُحْر! واشار يزيد إلي جلاوزته أن يحاولوا قتل الحسين أينما وجدوه ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة، فلماذا لا يُبادرهم الإمام عليه السلام إلي انتخاب أفضل زمان، وأفضل مكان، وأفضل شكل للقتل!

الزمان «يوم عاشوراء» المسجّل في عالم الغيب، والمثبت في الصحف الأُولي، وما تلاها «من أنباء الغيب» التي سنستعرضها.

وكذا المكان «كربلاء» الأرض التي ذكر اسمها علي الألسن منذ عصر الأنبياء.

أما الشكل الذي اختاره للقتل، فهو النضال المستميت الذي ظلّ صداه مُدَويّاً في اُذن التأريخ، يقضّ مضاجع الظالمين والمزوّرين لكتبه.

إنّ الإمام وبمثل ما قام به من الإقدام، أثبت ذكره ومقتله علي صفحات التاريخ، حتي لا تناله خيانات المنحرفين، وجحود المنكرين، وتزييف المزورين،


ويخلد في الخالدين [19] .

وسيأتي حديث عن علم الإمام بمقتله من الغيب، وإقدامه علي ذلك في الفقرة التالية: (28).


پاورقي

[1] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:139).

[2] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:139).

[3] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:140).

[4] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:140).

[5] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:140).

[6] في مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور: تظارُّني.

[7] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:141).

[8] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:141).

[9] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:142).

[10] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:142).

[11] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:144).

[12] لاحظ کتابنا جهاد الإمام السجاد عليه السلام (ص283).

[13] کما في (ص201) من تاريخ دمشق، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام.

[14] کما في (ص202) من المصدر السابق، وکذلک الحديث (331) منه.

[15] بل اعتبر ابن عبّاس تعزية ابن الزبير له بمقتل الحسين عليه السلام شماتة کما في الحديث (330). مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:144).

[16] رواه مسلم في صحيحه (12:240).

[17] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:141).

[18] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:135).

[19] انظر مقال «علم الأئمة بالغيب» ص 58 ـ69.