بازگشت

تباشير الحركة


كانت المواقف الأخيرة التي وقفها الإمام الحسين عليه السلام في وجه معاوية تعتبر تباشير التحرّك المضادّ، ضدّ مخطّطات معاوية.

وبالرغم من أنّ الإمام لم يُطاوع أحداً ممّن دعاه إلي خلع معاوية، إذ كان امتداداً لمواثيق أخيه الإمام الحسن عليه السلام، ومن الموقّعين علي كتاب الصلح مع معاوية، حتّي لو أنّ معاوية قد نقض العهد، وخالف بنود الصلح في أكثر من نقطة، إلاّ أنّه بدهائه ومكره كان قد لبَّس نفسه ثوباً من التزوير لا يسهل اختراقه، وكان يحتال علي الناس بالتحلّم والتظاهر مستعيناً بالوضّاعين من رواة الحديث وبالدجّالين من أدعياء العلم والصحبة والزهد، ممّا أكسبه عند العامّة العمياء ما لا يُمكن المساس به بسهولة.

إلاّ أنّ الإمام الحسين عليه السلام استغلّ موضوع تنصيب معاوية يزيد مَلِكاً، وإلزامه الناس بالبيعة له، إذ كان هذا مخالفة صارخة لواحد من بنود الصلح، مع مخالفته للأعراف السائدة بين المسلمين، ممّا لا يجهله حتّي العامة، وهي كون الصيغة التي طرحها للخلافة من بعده، مبتدعةً لم يسبق لها مثيل.

ثم «يزيد» بالذات لم يكن موقعاً للأهليّة لمثل هذا المنصب الحسّاس، بل كان معروفاً بالشرب، واللعب، والفجور، بشكل مكشوف للعامة.

وكانت هذه المفارقات ممّا يُساعد الإمام الحسين عليه السلام علي اتّخاذ موقف مبدئي، جعله هو المنطلق للتحرّك، كما تناقله الرواة، فقالوا:

[ص197] لمّا بايع معاوية بن ابي سُفيان الناسَ ليزيد ابن معاوية كان حسين بن عليّ بن أبي طالب ممّن لم يبايع له [1] .

وبالرغم من وضوح أهداف الإمام لمعاوية، وحتّي لمروان والّذين


يحتوشونه، حتّي أنّهم أعلنوا عن تخوّفاتهم وظنونهم بأنّ الإمام يفكّر في حركة يسمّونها «نزوة» أو «مرصداً للفتنة» وما إلي ذلك، لكنّهم لم يُقْدموا علي أمر ضدّهُ، ولعلّ معاوية كان يُحاول أن يقضي عليه بطريقته الخاصّة في الكيد والمكر، إلاّ أنّ سرعة الأحداث، ومجي الأجل لم تمهله لذلك.

فكانت مواجهة الحسين عليه السلام وصدّه من آخر وصايا معاوية لابنه يزيد، كما كانت هي من أُولي اهتمامات يزيد نفسه، ففي التاريخ:

[255 ص199] توفّي معاوية ليلة النصف من رجب سنة ستّين، وبايع الناس ليزيد، فكتب يزيد مع عبدالله بن عمرو بن أُويس العامري إلي الوليد بن عتبة ابن أبي سفيان ـ وهو علي المدينة ـ: أن ادع الناسَ فبايعهم، وابدأ بوجوه قريش، وليكن أوّل من تبدأ به الحسين بن عليّ بن أبي طالب....

فبعث الوليد بن عتبة من ساعته ـ نصف الليل! ـ إلي الحسين بن عليّ.

إنّ اهتمام يزيد، وتأكيده بأخذ البيعة أوّلاً من الحسين عليه السلام، واستعجال الوالي بالأمر بهذا الشكل، لم يكن إلاّ لأمر مبيّت، ومدبّر من قبل البلاط ورجاله. ولابُدّ أنّ الإمام كان قد قدّر الحسابات، فلّما طلب الوالي منه البيعة، رفضها وقال له: «نصبح فننظر ما يصنع الناس، ووثب فخرج» كما جاء في نفس الحديث السابق.

ويبدو أنّ الوليد الوالي لم يكن متفاعلاً بشدّة مع الأمر، أو أنّه لم يكن متوقّعاً لهكذا موقف من الإمام، لأنّه لما تشادّ مع الحسين في الكلام قال الوليد: «إن هجنا بأبي عبد الله إلاّ أسداً».

ولكنّها هي الحقيقة التي وقف عليها معاوية في حياته، وأطلقها، وإن كان الوليد لم يعرفها إلاّ اليوم.

وتتمّة الحديث السابق:


[ص200] وخرجَ الحسين من ليلته إلي مكّة، وأصبحَ النّاس، وغدوا إلي البيعة ليزيد، وطُلِبَ الحسين فلم يوجد! [2] .


وهكذا أفلت الحسين عليه السلام من والي المدينة، وفيها مروان بن الحكم العدوّ اللدود لآل محمد، والذي كان يحرّض الوالي علي قتل الحسين عليه السلام في نفس تلك الليلة إن لم يُبَايع.

وخرج الحسين عليه السلام إلي مكّة، التي هي أبعد مكان من الأزمة هذه، والتي سوف يتقاطر عليها الحُجّاج لقُرب الموسم، فتكون قاعدةً أفْسح وأوسع للتحرّك الإعلاميّ في صالح الحركة.


پاورقي

[1] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:136).

[2] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:138).