بازگشت

معاوية بين فكي الاسد


كان من مخطّطات معاوية مخالفة كلّ التراتيب الإدارية الإسلامية حتّي في شكل تعيين الخليفة خارجاً عن جميع الآراء حتي تلك التي عملها الخلفاء قبله، فَعَمَد إلي تجاوز سنن الّذين سبقوه كلّهم، فلا هو عمل كما فعل أبو بكر في العهد لعمر من بعده، ولا عمل مثل عمر في جعلها شُوري، ولا أرجع الأمر إلي أهل الحلّ والعقد يختارون لأنفسهم، بل عَمَدَ إلي تنصيب ابنه خليفة وأخَذ البيعة له قبل أن يموت، ليعلنها «مُلكاً عَضُوضاً» بعد أن كانت خلافة!


وكان هذا الإجراء من أخطر ما أقدم عليه معاوية في آخر سنيّ حياته، ولذلك كان للناس مواقف متفاوتة تجاه هذه البدعة، أمّا الحسين عليه السلام فقد استغلّ ذلك للإعلان عن مخالفة هذا الإجراء لبنود وثيقة الصلح الموقّعة من قبل معاوية «فلا خلاف بين العلماء أنّ الحسن إنّما سلّم الخلافة لمعاوية حياته لا غير» [1] .

مع أنّ يزيدَ، كان معروفاً بين الأُمّة بفسقه، ولهوه، وعدم لياقته للأدني من الخلافة، فَضلاً عنها.

ولم يُخفِ الحسين عليه السلام نشاطه، حتّي عرف منه ذلك، فجاءته الوفود يقولون له:

[254 ص 197] «قد علمنا رأيك ورأي أخيك».

فقال عليه السلام: «إنّي أرجو أن يُعطيَ الله أخي علي نيّته في حُبّهِ الكفَّ، وأن يعطيني علي نيّتي في حُبّي جهاد الظالمين» [2] .

إنّ كلمة «الجهاد» تهزّ الحكومة الظالمة، التي تخيّلت أنّها قد قطعت شأفة أهل الحق، واجتثّت أُصول التحرّك الجهاديّ، بقتل كبار القوّاد، وطمس معالم الحقّ، وتشويه سمعة أهل البيت، وسلب الإمكانات المادّية منهم.

ولكن لمّا يَسْمع الحكّام كلمة «جهاد الظالمين» من الحسين عليه السلام السبط الوحيد الذي تشخص إليه أبْصار البقيّة الباقية من المسلمين، والقلائل الّذين بقوا من أولاد الشهداء والصحابة الصلحاء الّذين ضاقوا ذرعاً من تصرّفات معاوية وولاته الجائرين، فإنّ الأُمراء يتهيّبون الوضع، بلا ريب.

وخاصة مثل مروان بن الحكم ـ ابن طريد رسول الله ولعينه ـ الذي لم يجد فرصة للإمارة علي مدينة الرسول، إلاّ حكم معاوية، وإلاّ فأين هو من مثل هذا


المقام الذي لم يحلُم به؟!

فهاهو يجد في تحرّك الإمام الحسين عليه السلام أنّ أجراس الخطر تدقّ تحت آذانه، وهو العدوّ اللدود للحسين وأهل بيته، منذ القديم، يوم وقف في حرب الجَمَل يُشعل فتيل الحرب ضدّ الإمام عليّ عليه السلام، لكنّه فشل واندحر وأُسِرَ وذَلَّ، ومَنّ عليه الإمامُ فيمن مَنّ عليهم من أهل تلك الحرب.

وهو ـ وإن استفاد من حكم معاوية ـ إلاّ أنّه لا يكنّ لمعاوية ولا لآل أُميّة ودّاً، بعد أن أصبح ذيلاً لهم، ويراهم منتصرين في صفّين، بينما هو اندحر أمام عليّ وانكسر في وقعة الجمل.

والآن، يريد أن يضرب بسهم واحد هدفين، فكتب إلي معاوية:

[254 ص197] إنّي لستُ آمنُ أن يكونَ حُسينٌ مُرصِداً للفتنة، وأظنُّ يومكم من حسين طويلاً [3] .

ولكنّ معاوية أذكي من مروان، فهو يعلم أنّ تحرّشه بالحسين لا يصلح لتحقيق مآربه، فكتب إلي الحسين في بعض ما بلغه عنه:

[ص198]: إنّي لأظنّ أنّ في رأسك نزوةً، فوددتُ أنّي أدركتها، فأغفرها لك [4] .

وهكذا يُحاول معاوية، أن «يتحلّم» لكيْ يمتَصَّ من ثورة الإمام وحركته شيئاً مّا.

ويظهر من الكتاب الثاني، أنّه أحسَّ بخطورة حين كتب إلي الإمام بما يتهدّده، بما نصّه:

[254 ص198] (أمّا بعد، فقد انتهتْ إليَّ أُمور أرغبُ بك عنها، فإن كانت حقّاً لم أُقارّك عليها، ولعمري) [5] إنّ من أعطي الله صفقة


يمينه وعهده لجدير بالوفاء.

(وإن كانت باطلاً، فأنت أسعد الناس بذلك، وبحظّ نفسك تبدأ، وبعهد الله تفي، فلا تحملني علي قطيعتك والإساءة بك، فإنّي متي أُنكرك تنكرني، وإنّك) متي تكدني أكدك.

وقد اُنْبِئتُ أنّ قوماً من أهل الكوفة قد دعوكَ إلي الشقاق، (فاتّقِ شقّ عصا هذه الأُمّة، وأن يرجعوا علي يدك إلي الفتنة).

وأهل العراق من قد جرّبتَ، قد أفسدوا علي أبيك وأخيك (وقد جرّبتَ الناس وبلوتهم، وأبوك كان أفضل منك، وقد كان اجتمع عليه رأي الّذين يلوذون بك، ولا أظنّه يصلح لك منهم ما كان فسد عَليه).

فاتّقِ الله، واذكر الميثاق (وانظر لنفسك ودينك (ولا يستخفنّك الّذين لا يُوقنون) [6] .).


پاورقي

[1] ذکر ذلک أبو عمر ابن عبد البرّ في الاستيعاب، بهامش الإصابة (1:373).

[2] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:137).

[3] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:137).

[4] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:137).

[5] ما بين القوسين من صدر کتاب معاوية نقلناه عن أنساب الأشراف للبلاذري (ترجمة معاوية) ولم يذکر ابن عساکر إلاّ ما بعده وکذلک کلّ ما بين الأقواس منقولة عن البلاذري، ولاحظ التعليقة التالية.

[6] لفقنا الکتاب من ما أورده ابن عساکر خارج الأقواس، وما ذکره البلاذري داخلها، وأنا أعتقد أن الکتاب نسخة واحدة وإنّما الاختصار من الرواة. ولاحظ مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:137).