بازگشت

السلم والحرب


إذا أفاض الرسول صلّي الله عليه وآله وسلّم في ذكر فضائل أهل البيت: عليّ وفاطمة والحسن والحسين، عليهم السلام، فهو العارفُ بها وبهم، والمعلّم الذي يُريد أنْ يُعرّف أُمّته بهؤلاء الّذين سيخلفُونه من بعده هُداةً لا تضلُّ الأُمّة ما تمسّكت بهم.

وقد صرّح الرسول بذلك، عندما ذكرهم بأسمائهم، وقال:

[158] ألا، قد بيّنتُ لكم الأسماء، أنْ تضلّوا [1] .

ولقد أعلن الرسولُ عن فضلهم في كلّ مشهد وموقف، وبلّغ كلّ ما يلزمُ من التمجيد بهم، وإيجاب مودّتهم وحبّهم، والنهي عن بغضهم وإيذائهم، فأبلغَ ما هو مشهور مستفيض، من دون نكير.

أمّا أن يُعلنَ الرسولُ صلّي الله عليه وآله وسلّم عن أنّه: «سلم لمن سالموا، وحربٌ لمن حاربوا» فهذا أمرٌ عظيم الغرابة!

فهل هم في معركة؟!

أو يتوقّع الرسولُ أن تُشَنَّ حربٌ ضدّ أهله؟! فيُعلن موقفه منها!

وهاهم أهله يعيشون في كنفه، وفي ظلّ تجليله واحترامه، ويغمرهم بفيض تفضيلاته، وإيعازه للأُمّة بتقديسهم وتكريمهم!

فمن الغريب حقّاً أنْ يجمع عليّاً وفاطمة، والحسنَ والحسين، ويقول لهم:

[135] أنا سلمٌ لمن سالمتُم، وحربٌ لمن حاربتم.

وفي مرضه الذي قُبض فيه:

[134] حَنا عليهم وقال: «أنا حَرْبٌ لمن حاربكم، وسِلْمٌ لمن سالمكم».


ووجه الغرابة: أنّ الإنسان يكادُ يقطع بأنّه لم يَدُرْ في خَلَدِ أيّ واحد ممّن عاصر الرسول وآمن به، أو صحبه فترة وسمعَه يؤكّد ويكرّر الإشادة بفضل أهل البيت وتكريمهم وتفضيلهم وتقديمهم، حتّي آخر لحظة من حياته في مرض موته!

لم يَدُرْ في خَلَد واحد من الصحابة المؤمنين بالرسالة المحمّدية أنْ يشنّ حرباً علي آل الرسول، أو يضرمَ ناراً علي بابهم! أو يشهر سيفاً في وجه أحدهم؟! أو يحرق خباءهم وفيه النساء والأطفال؟

فلذلك لم يُوجّه رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم خطاباً بهذا المضمون إلي الأُمّة، لأنّهم كانوا يذعرون، لو قال لهم: سالموا أهل بيتي، ولا تُحاربوهم!

لكنّها الحقيقة التي يعلمها الرسولُ من وحي الغيب، ولابُدّ أن يقولها لآله حتّي يكونوا مستعدّين لها نفسّياً، ولا ينالهم منها مفاجأةٌ، ولا يُسْقَط في أيديهم. فلذلك وجّه الخطاب إليهم بذلك خاصّة، في كلّ النصوص، وكأنّه دعمٌ معنوي منه، لمواقفهم، وحثّ لهم علي المضيّ في السبيل التي يختارونها، وهكذا كان:

فما ان أغمض النبيُّ عينيْه، حتّي بدت البغضاء ضد أهل البيت:

فكانت لهم مع ابنته الزهراء فاطمة مواقفُ أشدّ ضراوةً من حروب الميادين، لأنّها حدّدتْ أُصول المعارضة، ومعالمها، وكشفتْ عن أهدافها.

وقد جاءت صريحةً في خطاباتها الجريئة التي أعلنتها في مسجد رسول الله فطالبت أبا بكر بحقوق آل محمّد من بعده: من مقام زوجها في الخلافة، ونحلة أبيها في فدك، وإرثها منه كما كتبه الله وشرّعه في القرآن.

فقامتْ عليها السلام تُحاكمه في مسجد رسول الله، أمام الأُمّة، معلنةً لمطالبها بمنطق الأدلّة المحكمة، من القرآن الكريم، والسُنّة الشريفة، وبالوجدان والضمير، ومُنادية بلسان أبيها الرسول وذاكرة وصاياه بحقّها.

فقوبلت بالنكران والخذلان.


فصرّحتْ وهي تُشهد الله، بأنّها لهم قالية، وعليهم داعية غاضبة تذكّرهم بحديث أبيها ـ المتمثّل علي الأذهان ـ القائل: «فاطمةٌ بَضْعَةٌ مِنّي، فَمَنْ أغْضَبَهَا أغْضَبَني» [2] ذلك الحديث الذي لم يملك أحد تجاهه غير القبول والتسليم والإذعان.

وتموت فاطمة عليها السلام شهيدة آلامها وغُصّتها.

ثمّ حروبٌ أُثيرت ضدّ عليّ عليه السلام:

في وقعة الجمل، حيث اصطفّت مع عائشة فئة ناكثة بيعتها له تُحارب الإمام إلي صفّ الزبير وطلحة، يطالبون بدم ليس لهم.

وفي صفّين، حيث تصدّت الفئة الباغية لحقٍّ قد ثبت للإمام عليّ عليه السلام وأقرَّ به الصحابةُ أنصاراً ومهاجرين، وفضلاء الناس التابعين، وإلي صفّه كبير المهاجرين والأنصار «عمّارُ» الذي بشّره الرسولُ صلّي الله عليه وآله وسلّم بالجنّة، وقال له: «تقتلك الفئة الباغية» فقتلته فئةُ معاوية.

وفي النهروان، حيثُ واجهه «القُرآنيّون» الّذين لم يتجاوز القرآن تراقيهم، الّذين مرقوا من الدين كما تمرق الرمية من السهم، فكانوا هم الفئة المارقة.

وفي كلّ المواقف والمشاهد، وقفَ الحسنان إلي جنب أبيهما أمير المؤمنين عليه السلام.


وحُوربَ الحسنُ عليه السلام عسكرياً، ونفسيّاً، حتّي قضي.

وحُوربَ الحسينُ عليه السلام، حتّي سُفك دمه يوم عاشوراء.

إنّ الرسول صلّي الله عليه وآله وسلّم أعلن موقفه من كلّ هذه الحروب في حديثه لهم: «أنا حربٌ لمن حاربكم».

فإنّما حُوربَ أهل البيت، لأنّهم التزموا بهدي الرسول.

وقد أدّي كلّ منهم ما لديه من إمكانات، في سبيل الرسالة المحمّدية، حتّي كانتْ أرواحهم ثمناً للحفاظ علي وجودها، كي لا تخمد جذوتها، ولا تنطمس معالمها.


پاورقي

[1] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:123).

[2] صحيح البخاري (5:36) باب مناقب فاطمة عليها السلام و (5:26) باب مناقب قرابة رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم.