بازگشت

بعد الرسول


وبعد الرسول - حيث ازدحمت الحوادث واختلفت النعرات - نراه يقف جنباً إلي جنب مع والده العظيم في قضية الحق ويعلنها في أوضح برهان.

والمسلمون هناك، يهتدون علي من يهتدون.

ومرة أخري نلتقي بالحسين (عليه السلام) وهو شاب يمثل شمائل أبيه المهيبة، ويقود الجيوش المزمجرة ضد طاغية الشام معاوية بن أبي سفيان.

وتتم علي مضاء عزمه، ومضاء سيفه، وسداد فكره، وسداد خططه انتصارات باهرة ضد الطغيان الأموي الذي أراد أن يرجع بالأمة الإسلامية إلي جاهليتها الأولي، وقد فعل.

.. ثم تُدَبَّرُ مؤامرة لئيمة لاغتيال الإمام علي (عليه السلام) وينتهي الأمر بمصرعه الفاجع، وتلقي الأمة بأبهض مسؤولياتها وأخطرها علي كاهل الإمام الحسن (عليه السلام) فيمارس الإمام الحسين جهاده المقدس في أداء أمانة الحق، ومسؤولية الأمة، ويحرض الشعب الإسلامي ضدَّ الباطل المحتشدة كل قواه في عرصات الشام، ويحذره من كل ما يُرتقب من مآسي وويلات علي يد الطاغية إن تمَّ له الأمر.

وينتهي دور الإمام الحسن فيُقتل بسمٍّ يدسه إليه طاغية الشام.

فتقع دفة الخلافة الإلهية بيد الحسين (عليه السلام) ويتابعه المسلمون الواقعيون الذين لم يشاهدوا في بني أمية إلاّ مُلكاً عضوضاً كلُّ همّه القضاء علي مقدسات الأمة ومشاعرها في آن واحد.

نعم، انتقلت الإمامة إلي رحاب الحسين (عليه السلام) في أوائل السنة الخمسين من الهجرة النبوية، ولنلقي نظرة خاطفة علي الوضع السائد في البلاد الإسلامية آنذاك.

في السنة الواحد والخمسين: حج معاوية إلي بيت الله الحرام ليري من قريب الوضع السياسي في مركز الحركة المناوئة لخلافته، حيث إن الحرمين كانا مقرا الصحابة والمهاجرين، وهم أبغض خلق الله لمعاوية لأنهم أشدهم خلافاً عليه.

فلما طاف بالبلاد المقدسة عرف أن الأنصار - بصورة خاصة - يبغضونه ويكرهون خلافته علي أشد ما تكون الكراهية والبغض.

وذات يوم سأل الملأ حوله: ما بال الأنصار لم يستقبلوني؟

فأجابه طائفة من زبانيته: إنهم لايملكون من الإبل ما يستطيعون استقبالك عليها.

وكان معاوية يعرف الحقيقة من برودة تلقي الأنصار مجيئه، فحينما سمع هذا الجواب الروتيني لمز وغمز وقال: ما فعلت النواضح - أراد الاستهزاء بساحة الأنصار، بأنهم كانوا ذات يوم من عمال اليهود في المدينة، أصحاب إبل تنضح الماء لبساتين اليهود، وكان في الحاضرين بعض زعماء الأنصار فأجابه - وهو قيس بن سعد بن عبادة - قائلاً:

أفنوها يوم بدر وأُحد وما بعدهما من مشاهد رسول الله حيث ضربوك وأباك علي الإسلام حتي ظهر أمر الله وأنتم كارهون. أما إن رسول الله عهد إلينا أنّا سنلقي بعده أثرة.

ثم جاش صدر قيس فاندلعت منه شرارة فيها ذكريات الماضي الزاهر، وعواصف هذا اليوم الأسود، فقال وأمعن في إيضاح سوابق بني أمية ولواحقهم، وشرح ما كان من وقوفهم ضد الدعوة النبوية - أول يوم - وما كان من إنكارهم حق عليٍّ (عليه السلام) بعد ذلك، وما كان من أمر معاوية - بالذات - مع إمام زمانه، وما جاء عن لسان النبي (صلي الله عليه وآله) من الأحاديث بشأن علي، الذي افترضه معاوية مناوئه الوحيد علي كرسي الحكم.

ولم يدر قيس ذلك اليوم ما الذي كان يحمله معاوية من بغض وكره - سوف يحدوان به إلي مالا تحمد عواقبه -.

ورجع معاوية يفكر في إجراء التدابير اللازمة ضد مناوآت الأنصار والمهاجرين. وأول خطة اتخذها هي التي سوف يُتلي عليك تفصيلها.

وعرف معاوية أن في البلاد الإسلامية كثرة واعية من المفكرين الذين محضوا عن تجارب الماضي القريب، ولمسوا حقيقة أمر الحزب الأموي الحاكم، كما آمنوا بقداسة الحق، وبوجوب متابعته، والدفاع عن نواميسه السامية مهما كلفهم الأمر.

وعرف كذلك أنه يستقر في مركز حركة هؤلاء الذين ناوأوه، عليّاً أولاً والحسن ثانياً، وهذا الإمام ثالثاً. ثم عرف أيضاً ما لهذا البيت العلوي من دعائم وطيدة، ومؤهلات كافية تنذر عرش الأمويين بالفناء العاجل.

فمن هنا بدأت خطته اللئيمة، ففكر في أن من يحب عليّاً وآل عليٍّ لا شك في أنه يستاء من مُلك بني أمية. إذاً فلنقلع حب الإمام أولاً من صدور الشعب المسلم، ولنستأصل مقاييس المسلمين التي يميزون بها الحق عن الباطل - الا وهي تمثل الإسلام الحق في بيت الرسالة -.

فأخذ يكتب إلي كل والٍ له في أطراف البلاد برسالة إليك نصها بالحرف:

أما بعد، انظروا إلي من قامت عليه البينة أنه يحب عليّاً وأهل بيته فأمحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه. ولا تجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة.

وهذه أول محنة واجهها أنصار عليٍّ الذين كانوا يشكلون الجبهة المناوئة للحزب الأموي الحاكم. وقد كانت جبهةً شديدةً عنيفةً جدّاً.

ثم راح معاوية في ظلمه يخطو خطوة أخري - أقسي من الأولي وأعنف كثيراً - فكتب إلي ولاته يقول: أما بعد، خذوهم علي الظنة، واقتلوهم علي التهمة.

ففكِّروا في هذه الكلمة: (اقتلوهم علي التهمة) فهل تعرفون أقسي منها في قاموس المجرمين وأعنف حكماً؟!

في مثل هذا الجو الرهيب كان يعيش الإمام الحسين (عليه السلام) وهو يتقلد منصب الخلافة الإلهية. ولا شك في أنه كان يؤلمه الشوك في طريق أصحاب الحق علي الظنة، وإبادتهم بالتهمة.

ولكنَّ الظروف التي كان يعيشها لم تكن بالتي تجيز له المقاومة المسلحة ضد العدوان الأموي الأرعن؛ لأن معاوية كان يعالج الأمر بالمكر والخدعة، ويخدّر أعصاب الأمة بالأموال الطائلة من ثروة الدولة التي إن لم تُعط الفائدة فهناك شيء كان يسميه بجنود العسل، ويقصد به الغدر بحياة الشخصيات عن طريق السم يديفه في مطعمه أو مشربه، كما فعل ذلك بالإمام الحسن (عليه السلام) بواسطة زوجته الغادرة، وكان يستعمله دائماً ضدّ أولئك العظماء الذين لا يخضعون لسلطان المال والمنصب.

إما إذا استعصي عليه الإغراء بالمال أو القضاء بالسم، فيأتي دور القوَّة التي كان يستعملها بدون رحمة في مناسبة وغير مناسبة.

وبهذه الوسيلة الأخيرة قضي علي الصحابي الكبير والزعيم الشيعي القدير: حِجْر بن عدي، حيث استدعاه هو وأصحابه إلي الشام، وقبل أن يصلوا إلي العاصمة أرسل سرية من شرطته فقتلت بعضهم ودفنت بعضهم أحياءً بغير جرم إلاّ أنهم كانوا أصحاب عليٍّ (عليه السلام) وقواد جيشه.

وكان مقتل حجر هذا منبِّهاً فعّالاً، للشعب الإسلامي الذي دعا إلي إعلان التمرد، حتي من بعض أصحاب الأمويين كوالي خراسان ربيع بن زياد الحارثي، حيث جاء المسجد ونادي بالناس ليجتمعوا، فلما اكتمل اجتماعهم قام خطيباً وذكر المأساة بالتفصيل وقال: إن كان في المسلمين من حمية شيء لوجب عليهم أن يطالبوا بدم حِجْرٍ الشهيد.

وحتي من مثل عائشة التي كانت بالأمس في الصف المخالف لعلي (عليه السلام) فإنها لما سمعت الفاجعة قالت: أما والله لقد كان لجمجمة العرب عز ومنعة، ثم أنشدت:



ذهب الذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرِب



ومشت في الأوساط السياسية رجة تبعتها اضطرابات جعلت معاوية يندم من سوء فعله لأول مرة.

ولكن لم يكن مقتل حِجْر بالوحيد من نوعه، فقد رافقه مقتل الصحابي الكبير المعترف به لدي سائر المسلمين عمرو بن الحمق، الذي حُمل رأسه علي الرمح لأول مرة في تاريخ الإسلام، حيث لم يُحمل فيه قبل ذلك اليوم رأس مسلم قط.

وتبع حادثة حِجْر وأصحابه الستة عشر حوادث مرعبة نشرت علي دنيا المسلمين التوتر والاضطراب.

ويمكننا أن نكشف عن بعض مظاهر هذا التوتر بما يلي:

لقد سيطر زياد ابن أبيه علي الكوفة والبصرة، ولقد كان متشيعاً قبل أن يُلحقه معاوية بنسبه، فكان يعرف أسرار الشيعة وخباياهم وزعماءهم وقادتهم. فلما استتب له الأمر راحَ يلاحقهم تحت كل حجر ومدر ويمعن فيهم القتل والتنكيل حتي ليَقول الرجل: أنا كافر لا أؤمن بنبيٍّ خير له من أن يقول: إني شيعي أؤمن بقداسة الحق وأكفر بالجبت والطاغوت.

فلما ضبط العراقيين إرهاب بني أمية رفع زياد كتاباً إلي البلاد الملكي هذا نصه بالحرف:

إني ضبطت العراق بشمالي، ويميني فارغة. فولني الحجاز أشغل يميني به..

ولما أذيع نبأ هذه الرسالة في المدينة المنورة اجتمع المسلمون في المسجد النبوي وابتهلوا إلي الله ضارعين: اللهم اكفنا يمين زياد.

ولسنا بصدد بيان أنه كفّ الله عنهم يمين زياد فعلاً، حيث أصابه الطاعون فمات ذليلاً، إلاّ أننا بصدد أن نعرف مدي الإرهاب المخيم علي الأوساط السياسية حتي أن الناس يجتمعون للدعاء ضد والٍ واحد، رهيب الجانب، مرعب السلطة.

وإذا سألت عن موقف السبط، فنحن لا يهمنا من هذا الاستعراض الخاطف للأوضاع السياسية في عهد معاوية إلاّ لنعرف موقف الإمام الحسين (عليه السلام) منها.

ونستطيع أن نلمس موقفه بصورة إجمالية، إذا مضينا نفكر في هذه القضايا الثلاث،التي سنتلوها تباعاً.

1- كانت الأنباء تتوالي علي المدينة بنكبات فجيعة، نزلت علي رؤوس المسلمين بسبب مدحهم للإمام علي (عليه السلام) وبسبب تشيُّعهم لأهل البيت (عليهم السلام) تماماً بعد إعلان معاوية حكمه الصارم:

كل من نقل فضيلة عن علي فَقَدَ الأمان علي نفسه وماله!. وكان ذلك في مستهل السنة الواحدة والخمسين بعد الهجرة النبوية. فدبر الإمام خطة جريئة نفذها بنفسه، فجمع الناس في محفل ضم من بني هاشم رجالاً ونساءً ومن أصحاب رسول الله، ومن شيعته أكثر من سبعمائة رجلٍ، ومن التابعين أكثر من مائتين، فقام فيهم خطيباً فحمد الله وأثني عليه، ثم قال:

(أما بعد، فإن هذا الطاغية (يعني معاوية بن أبي سفيان) قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد علمتم وشهدتم، وإني أريد أن أسألكم عن شيء، فإن صدَقت فصدِّقوني، وإن كذَبت فكذِّبوني، وأسألكم بحق الله عليكم وحق رسول الله وقرابتي من نبيكم لما سترتم مقامي هذا، ووصفتم مقالتي، ودعوتم أجمعين في أمصاركم من قبائلكم مَن أمنتم من الناس.

اسمعوا مقالتي، واكتبوا قولي، ثم ارجعوا إلي أمصاركم وقبائلكم، فمن أمنتم من الناس ووثقتم به فادعوهم إلي ما تعلمون من حقنا فإني أتخوف أن يدرس [1] هذا الأمر، ويذهب الحق ويُغلب (وَالله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)[سورة الصَّف: الآية 8]

ثم مضي الإمام في الخطبة القوية الهادرة، يذكِّر الجمع بعليٍّ (عليه السلام)، وفي كل مقطوعة يصبر هنيئة فيستشهد الأصحاب والتابعين علي ذلك، وهم لا يزيدون علي اعترافهم قائلين: اللهم نعم.. اللهم نعم.

حتي ما ترك شيئاً مما أنزل الله فيهم من القرآن إلاّ تلاه وفسره، ولا شيئاً مما قاله الرسول (صلي الله عليه وآله) في أبيــه وأخيــه وأمّه ونفسه وأهل بيته، إلاّ رواه، وفي كل ذلك يقول أصحابه: اللهم نعم. لقد سمعنا وشهدنا، ويقول التابعي: اللهم قد حدثني به من أصدِّقه وائتمِنه من الصحابة [2] .

أما وقد أشهدوا الله علي ذلك قال: (أنشدكم الله إلاّ حدثتم به من تثقون به وبدينه...).

وكانت هذه خطة مناسبة للحدّ من طغيان معاوية في سب علي (عليه السلام)، بل كانت خطة معاوية لسياسة بني أمية قاطبة الذين ارتأوا محو سطور في التاريخ هي أسطع ما فيه وأروع ما يحتويه، ألا وهي مآثر أهل بيت الرسالة.

ولم يكتف بنو أمية في محوها بالقوة فقط بل لعبت خزينة الدولة دوراً بعيداً في ذلك أيضاً.

فقد كان الحديث يُشتري ويُباع كأي متاع آخر، وكان المحدِّثون أوسع الناس ثروة أو أنكاهم نقمة. إن رضوا فلهم كل شيء، وإن أبوا فعليهم كل شيء.

ربما كان معاوية وهو الداهية المعروف ينتظر من الإمام الحسين ذلك الاستنكار البالغ، بيد أنه لم يكن يفكّر في أن الأمر سوف يدبّر علي هذا الشكل المرعب، وعلي أي حالٍ فقد كان الأمر مرتقباً.

ولكن حدث بعد هذا التظاهر الصارخ أمر لم يكن معاوية يحلم به أبداً.

2- إن عيراً لوالي اليمن كانت محملة بأنواع الأمتعة إلي البلاط الملكي لتوزع علي أصحاب الضمائر المستأجرة.

ومرَّت هذه العير بالمدينة فاستولي عليها الإمام (عليه السلام) وامتلكها حقّاً شرعيّاً له، ليصرفه في مواقعه اللازمة.

وكتب إلي معاوية رسالة أرغمت أنفه وأطارت لبه وهذا نص الرسالة:

(من الحسين بن علي..

إلي معاوية بن أبي سفيان.

أما بعد فإن عيراً مرّت بنا من اليمن تحمل مالاً وحُللاً إليك لتودعها خزائن دمشق، وتعلّ بها بعد نهل ببني أبيك، وإني احتجت إليها وأخذتها والسلام..).

وأول ما لفت نظر معاوية من هذه الرسالة تقديم الإمام الحسين (عليه السلام) اسمه واسم أبيه علي ذكر معاوية، ثم دعاؤه له باسمه الشخصي دون أن يشفعه بلقب (أمير المؤمنين) ويعتبر ذلك - في منطق القرون الأولي - تحدياً بليغاً لسلطة معاوية، بل يؤكد هذا في أن الكاتب قد خلع عن نفسه الرضوخ لسلطان الدولة الباطلة.

ثم جلب انتباهه موضوع أخذ اليد، وفيه أبلغ دليل علي التمرد علي السلطة الحاكمة.

بيد أن معاوية بدهائه عرف أن الظروف لا تقتضي إلاّ الإغماض عن أمثال هذه الأعمال، ولم يكن الإمام (عليه السلام) يريد أن يبتدئ بإعلان التمرد المسلح لأنه كان حريصاً علي حفظ دماء المسلمين كحرصه علي نشر الحقيقة.

فكتب إليه معاوية: في منطق مستعتب وبيّن أنه عارف بمكانته، وجليل شأنه، وانه لا يريد أن يمس ساحته بسوء. بيد أن خلفه من بعده سوف يكون له بالمرصاد.

ومضي الحسين (عليه السلام) في توطيد دعائم الحقيقة، ببث الوعي، وجمع الأنصار، ولازالت الأنباء تتوارد علي البلاط الملكي بشأن الإمام، وأنه يعد العدة لثورة فاصلة.

بيد أن معاوية كاد يتم الأمر بالخدعة قبل أن يدبر النقمة لعدم مؤاتاة الظروف للساعة المرتقبة، فكتب رسالة أخري إلي الإمام يستعتب ويؤنب، ويذكّر بالصلات الودية بينه وبين الإمام (عليه السلام).

ولكن الإمام الحسين (عليه السلام) كان يعلم بالفجائع التي كانت تنقضّ علي رؤوس الشيعة من محبي آل الرسول في كل بلد.

3- فكتب إليه برسالة أخري يسرد فيها أعماله واحداً تلو الآخر.

(.. أما بعد فقد بلغني كتاب تذكر فيه أنه انتهت إليك عني أمور أنت لي عنها راغب، وأنا بغيرها عنك جدير، وان الحسنات لا يهدي لها ولا يسدد إليها إلاّ الله تعالي.

وأما ما ذكرت أنه رقي إليك عني، فإنه إنما رقَّاه إليك الملاّقون المشّاؤون بالنميمة المفرّقون بين الجمع، وكذب المعادون، ما أردت حرباً ولا عليك خلافاً.

وإني لأخشي الله في ترك ذلك منك ومن الأعذار فيه إليك، وإلي أوليائك القاسطين الملحدين - حزب الظلمة - وأولياء الشياطين.

ألست القاتل حِجْر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلِّين العابدين، كانوا ينكرون ويستفضعون البدع، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولا يخافون في الله لومة لائم، ثم قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلظة والمواثيق المؤكدة جرأة علي الله واستخفافاً بعهده.

أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله (صلي الله عليه وآله) العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفــر لـونــه، فقتلته بعد ما أمنته وأعطيته من العهود ما لو فهمه الموصم لزلت قدمُه من رؤوس الجبال؟

أولست بمدَّعي زياد بن سمية المولود علي فراش عبيد ثقيف فزعمت أنه ابن أبيك وقد قال رسول الله (صلي الله عليه وآله): الولد للفراش وللعاهر الحجر، فتركت سنَّة رسول الله (صلي الله عليه وآله) تعمداً، وتبعت هواك بغير هديً من الله. ثم سلطته علي أهل الإسلام يقتلهم، ويقطع أيديهم وأرجلهم، ويسمِّل أعينهم ويصلبهم في جذوع النخل، كأنك لست من هذه الأمة، وليسو منك؟.

أولست قاتل الحضرمي الذي كتب إليك فيه زياد انه علي دين علي صلوات الله عليه، فكتبت إليه: أن اقتلْ كلَّ من كان علي دين عليٍّ، فقتلهم ومثّل بهم؟..).

إلي آخر الكتاب الذي كان سوط عذاب يُلهب متن معاوية ومن دار في فلكه من المنحرفين.

وهكذا عاش الإمام (عليه السلام) الصوت الوحيد الذي غدا يرعد أمام كل بدعة، والسوط الفارع الذي بات يسوِّي كل تخلف أو تطرف في المجتمع، فلطالما حرض ذوي الفكر والجاه، وأثارهم علي حكومة الضالين، بيد أنهم فضلوا مصالح أنفسهم علي مصالح الدين، ولم يحفظوا ذممهم، في حين راحت ذمة الإسلام ضحية كل فاجر.

ولطالما خاطر الإمام الحسين (عليه السلام) بوقوفه أمام اعتداءات بني أمية علي مصلحة الأمة الإسلامية، وعلي مقدسات الدين ونواميسه.

والواقع أننا لو أردنا أن نتصور الوضع الديني في عصر الإمام خالياً عنه وعن جهاده، لكنَّا نراه أحلك عصر مرّ به المسلمون، وأقساه وأعنفه. ولو كنَّا نتصور الإسلام وقد مرّ به ذلك العصر بدون أبي عبد الله (عليه السلام) لكنَّا نراه أضعف دين وأقربه إلي الانحراف.

فلم يكن هناك من قوة تستطيع الوقوف أمام المد الأموي الأسود، إلاّ شخص أبي عبد الله (عليه السلام) ومن دار في أفقه من الأنصار والمهاجرين، لأن الحروب التي سبقت عصر الإمام أعلنت عن تجارب سيئة جدّاً، واختبارات فظيعة لقوي الخير في المسلمين، وما كان من شتيتها موجوداً لفّته زوابع الترهيب، وأعاصير الترغيب، فراحت مع التي راحت أولاً.

وبقي المحامي والنصير الأول والأخير للإسلام، وهو الإمام الحسين (عليه السلام) الذي استطاع بسداد رأيه، ومضاء عزمه، وسبق قدمه، وسمو حسبه ونسبه، وما كان له من مؤهلات ورثها من جده رسول الله وأبيه علي أمير المؤمنين صلوات الله عليهما استطاع بكل ذلك أن يشكل جبهة قوية نسبيّاً أمام الطغيان الأموي الوسيع.

وكان ذلك شأنه في عصري معاوية ويزيد.

وها نحن قد استعرضنا جانباً موجزاً من عصر معاوية، وسوف أستعرض شيئاً قليلاً عن عصر يزيد، في الفصل الأخير، وسوف لا نذهب في سرد القضايا تفصيلاً، بل نجعلها موجزةً لسببين:

أولاً: اشتهار نهضته العظيمة في عهد يزيد حتي كاد يعيها كل شيعي مؤمن.

وثانيا: لأن ذلك يحتاج إلي موسوعة علمية كبيرة تحلل القضايا السياسية والدينية التي رافقت نهضة الحسين (عليه السلام) ليظفر من ذلك بأروع أمثلة الجهاد وأرفعها.

وهكذا يحق لنا أن ندع البحث أبتراً، لندخل بحوثاً أخري، نتكلم فيها حول السمات الشخصية لسيد الشهداء الحسين(عليه السلام)، تاركين جانب الدين والسياسة لمجال أفسح، وفي بحث أوسع.


پاورقي

[1] يمحي ويضمحل.

[2] هذه المقطوعة من قول الراوي للحديث.