بازگشت

علي الاكبر


ولما لم يبق مع الحسين إلاّ أهل بيته عزموا علي ملاقاة الحتوف ببأس شديد وحفاظ مر ونفوس أبيّة، واقبل بعضهم يودّع بعضاً [1] ، وأول من تقدّم أبو الحسن علي الأكبر [2] وعمره سبع وعشرون سنة فانه ولد في الحادي عشر من شعبان سنة ثلاث وثلاثين من الهجرة وكان مرآة الجمال النبوي ومثال خُلُقه السامي وانموذجاً من منطقه البليغ واذا كان شاعر رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) يقول فيه:



واحسن منك لم تَر قطُّ عيني

وأجمل منك لم تلد النساء



خلقت مبرَّءاً من كلِّ عيب

كأنَّك قد خلقت كما تشاء



فمادح الأكبر يقول: [3] .



لم ترَ عينٌ نظرت مثله

من محتف يمشي ومن ناعل



يغلي نهيء اللحم حتي إذا

انضج لم يغلِ علي الاكل



كان إذا شبَّت له ناره

اوقدها بالشرف القابل



كما يراها بائس مرمل

او فرْدُ حي ليس بالآهل



لا يؤثر الدنيا علي دينه

ولا يبيع الحقَّ بالباطل



أعني «ابن ليلي» ذا الندي والسدي

أعني ابن بنت الحَسَب الفاضل



فعل الأكبر هو المتفرّع من الشجرة النبويّة الوارث للمآثر الطيّبة، وكان حريا بمقام الخلافة لولا انها منصوصة من إله السماء، وقد سجّل سبحانه أسماءهم في الصحيفة النازل بها جبرئيل (عليه السلام) علي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) ، بان علي السجاد هو الإمام بعد أبيه.



ورث الصفات الغرِّ وهْي تراثه

من كلِّ غِطريف وشهم اصيد



في بأس حمزة في شجاعة حيدر

بإبا الحسين وفي مهابة أحمد



وتراه في خلق وطيب خلائق

وبليغ نطق كالنبيِّ محمّد [4] .



ولما يمم الحرب عزَّ فراقه فاستأذن أباه وبرز علي فرس الحسين تسمي «لاحقاً».

ومن جهة أنَّ ليلي ام الأكبر بنت ميمونة ابنة أبي سفيان [5] لذا صاح رجل من القوم: يا علي إن لك رحماً بأمير المؤمنين «يزيد» ونريد ان نرعي الرحم فان شئت آمناك، قال (عليه السلام) : ان قرابة رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) أحق أن ترعي [6] ثم شد يرتجز معرِّفاً بنفسه القدسيّة وغايته السامية:



أنا علي بن الحسين بن علي

نحن وربُّ البيت أولي بالنبي



تالله لا يحكم فينا ابن الدعي [7] .

أضرب بالسيف احامي عن أبي



ضــرب غلام هاشمـيٍّ قـرشي

ولم يتمالك الحسين (عليه السلام) دون أن أرخي عينيه بالدموع [8] وصاح بعمر بن سعد: ما لك؟ قطع الله رحمك كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) وسلّط عليك من يذبحك علي فراشك [9] ، ثم رفع شيبته المقدّسة نحو السماء وقال: اللهم اشهد علي هؤلاء فقد برز اليهم اشبه الناس برسولك محمّد خَلْقاً وخُلُقاً ومنطقاً [10] وكنا إذا اشتقنا الي رؤية نبيّك نظرنا إليه، اللهم فامنعهم بركات الأرض وفرّقهم تفريقا ومزّقهم تمزيقا واجعلهم طرائق قدداً ولا ترض الولاة عنهم أبداً، فانّهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا يقاتلونا، ثم تلا قوله تعالي: (إنَّ اللهَ اصْطَفَي آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبراهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَي العَالَمِيْنَ - ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْض وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [11] .

ولم يزل يحمل علي الميمنة ويعيدها علي الميسرة ويغوص في الاوساط فلم يقابله جحفل الاّ ردَّه ولا برز إليه شجاع إلا قتله:



يرمي الكتائب والفلا غصَّت بها

في مثلها من بأسه المتوقِّد



فيردّها قسراً علي اعقابها

في بأس عرّيس العرينة ملبد



فقتل مائة وعشرين فارساً وقد اشتدّ به العطش فرجع الي ابيه يستريح ويذكر ما أجهده من العطش [12] فبكي الحسين وقال: وا غوثاه ما اسرع الملتقي بجدّك فيسقيك بكأسه شربةً لا تظمأ بعدها وأخذ لسانه فمصّه ودفع اليه خاتمه ليضعه في فيه [13] .



ويؤوب للتوديع وهو مكابد

لظما الفؤاد وللحديد المجهد



صادي الحشا وحسامه ريّان من

ماء الطلا وغليله لم يبرد



يشكو لخير أب ظماه وما اشتكي

ظمأ الحشا إلا الي الظامي الصدي



كلٌّ حشاشته كصالية الغضا

ولسانه ظمأ كشقة مبرد



فانصاع يؤثره عليه بريقه

لو كان ثَمَّة ريقه لم يجمد



وَمُذْ انثني يلقي الكريهة باسماً

والموت منه بمسمع وبمشهد



لفَّ الوغي وأجالها جول الرحي

بمثقَّف من بأسه ومهنَّد



يلقي ذوابلها بذابل معطف

ويشيم أنصلها بجيد أجيد



حتي إذا ما غاص في اوساطهم

بمطهَّم قبَّ الاياطل اجرد



عثر الزمان به فغودر جسمه

نهب القواضب والقنا المتقصِّد



ورجع «علي» الي الميدان مبتهجاً بالبشارة الصادرة من الامام الحجة عليه السلام بملاقاة جدّه المصطفي (صلي الله عليه وآله وسلم) ، فزحف فيهم زحفة العلوي السابق وغيّر في وجوه القوم ولم يشعروا أهو «الأكبر» يطرد الجماهير من اعدائه، أم أن «الوصي» عليه السلام يزأر في الميدان، أم أن الصواعق تتري في بريق سيفه، فأكثر القتلي في أهل الكوفة حتي أكمل المائتين.

فقال مرّة بن منقذ العبدي: عليَّ آثام العرب إن لم أثكل أباه به فطعنه بالرمح في ظهره وضربه بالسيف علي رأسه ففلق هامته واعتنق فرسه فاحتمله الي معسكر الأعداء وأحاطوا به حتي قطّعوه بسيوفهم إرباً إرباً [14] .



ومحا الردي يا قاتلَ اللهُ الردي

منه هلالَ دجي وغرة فرقد



يا نجعة الحيَّيْن هاشم والندي

وحمي الذماريْن العلي والسؤدد



كيف ارتقت همم الردي لك صعدة

مطرورة الكعبين لم تتأوَّد



أفديه من ريحانة ريّانة

جفَّت بحرِّ ظما وحرِّ مهنَّد



بكر الذبول علي نضارة غصنه

إن الذبول لآفة الغصن الندي



لله بدرٌ من مراق نجيعه

مزج الحسام لجينه بالعسجد



ماء الصبا ودم الوريد تجاريا

فيه ولاهب قلبه لم يخمد



لم انسه متعمما بشبا الظبي

بين الكماة وبالأسنَّة مرتدي



خضبت ولكن من دم وفراته

فاخضر ريحان العذار الأسود



ونادي رافعاً صوته: عليك مني السلام ابا عبدالله، هذا جدي قد سقاني بكأسه شربة لا اظمأ بعدها، وهو يقول: إن لك كاساً مذخورة، فأتاه الحسين (عليه السلام) وانكبّ عليه واضعاً خدّه علي خدّه وهو يقول: علي الدنيا بعدك العفا ما اجرأهم علي الرحمن وعلي انتهاك حرمة الرسول، يعز علي جدّك وابيك ان تدعوهم فلا يجيبونك وتستغيث بهم فلا يغيثونك.

ثم أخذ بكفّه من دمه الطاهر ورمي به نحو السماء فلم يسقط منه قطرة! وفي هذا جاءت زيارته: «بأبي أنت وامي من مذبوح ومقتول من غير جرم، بأبي انت وامي دمك المرتقي به الي حبيب الله بأبي أنت واُمي من مقدم بين يديك أبيك زفرة! [15] .

وحرائر بيت الوحي نظرن إليه محمولا قد جللته الدماء بمطارف العز حمراء وقد وزع جثمانه الضرب والطعن فاستقبلنه بصدور دامية وشعور منشورة وعولة تصكُّ سمع الملكوت وامامهن عقيلة بني هاشم «زينب الكبري» ابنة فاطمة بنت رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) [16] صارخة نادبة فألقت بنفسها عليه تضم اليها جمام نفسها الذاهب وحمي خدرها المنثلم وعماد بيتها المنهدم.



لهفي علي عقائل الرسالة

لمّا رأينه بتلك الحالة [17] .



علا نحيبهُنَّ والصياح

فاندهش العقول والأرواح



ناحت علي كفيلها العقائل

والمكرمات الغرُّ والفضائل



لهفي لها إذ تندب الرسولا

فكادت الجبال أن تزولا




پاورقي

[1] مقتل الخوارزمي: 2/26.

[2] نصوص المؤرّخين علي انه أکبر من من السجّاد عليه السلام وسيأتي في الحوادث بعد الشهادة اعتراف زين العابدين به في المحاورة الجارية بينه وبين ابن زياد.

[3] في مقاتل الطالبيين: ص32: انها قيلت في علي الأکبر.

[4] هذه الأبيات للحجة آية الله الشيخ عبدالحسين صادق العاملي.

[5] الاصابة لابن حجر: 4/178 ترجمة أبي مرة.

[6] سر السلسلة لابي نصر في النسب، ونسب قريش: ص57 لمصعب الزبيري.

[7] تاريخ الطبري: 6/256، واعلام الوري للطبرسي: ص145، ومثير الأحزان: ص35.

[8] مثير الأحزان لابن نما: ص35 والارشاد للمفيد.

[9] مقتل الخوارزمي: 2/30.

[10] مثير الأحزان لابن نما واللهوف ومقتل الخوارزمي.

[11] آل عمران: 33 ـ 34.

[12] مقاتل الطالبيين لابي الفرج: ص47 طبع الحجر، ومقتل العوالم: ص96، وروضة الواعظين: ص161، ومناقب ابن شهرآشوب: 2/222 طبع ايران، ومثير الأحزان لابن نما: ص35، واللهوف: ص64 طبع صيدا، ومقتل الخوارزمي: 2/30.

[13] مقتل الخوارزمي: 2/31، ومقتل العوالم: ص95.

[14] مقتل الخوارزمي: 2/31، ومقتل العوالم: ص95، ومناقب ابن شهرآشوب: 2/222، والارشاد للمفيد، وتاريخ الطبري: 6/222.

[15] کامل الزيارات: ص239، هي صحيحة السند، علمها الصادق عليه السلام أبا حمزة الثمالي، وسيأتي فيما يتعلّق بالليلة الحاديثة عشر نصوص أهل السنة علي احتفاظ النبي صلّي الله عليه وآله وسلّم بدم الأصحاب وأهل بيته.

[16] في تاريخ الطبري: 6/256، والبداية لابن کثير: 8/185 قال حميد بن مسلم: لما قتل علي الأکبر رأيت امرأة خرجت من الفسطاط تصيح وا ابن أخاه فجاءت وانکبت عليه فأخذ الحسين بيدها وردها الي الخيمة فسألت عنها قيل هذه زينب ابنة فاطمة بنت رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم.

[17] من ارجوزة آية الله الشيخ محمد حسين الاصفهاني قدّس سرّه.