بازگشت

قميص عثمان و حيلة معاوية بن ابي سفيان


ساهمت المكانة المقرّبة لعثمان بن عفان من الخليفة الثاني علي تعيين معاوية بن ابي سفيان والياً علي بلاد الشام بعد وفاة اخيه يزيد بن ابي سفيان .

وبقي معاوية والياً حتّي وصول عثمان إلي السلطة ، الذي بدا و منذ بداية خلافته بجمع اقربائه حوله ، وقرّب بني اُمية خاصة ، حتي انه اعطي اُمور الدولة الإسلامية لمروان بن الحكم ، وادخل اباه المدينة ، مع ان رسول الله (ص) منعه من الدخول إليها، ولم يخالف هذا الامر الخليفة الاوّل و الثاني ، ولكن ّ عثمان ادخله معززاً مكرّماً واعطاه مائة الف درهم .

وساعد تسلّط بني اُمية علي بيت المال ، وإنفاق عثمان بسخاء علي اقربائه و الموالين له في ازدياد قوّة الاُمويين ، ونفوذ حزبهم بين الناس ،و قد رحّب ابوسفيان بهذا التصرف من عثمان ببيت مال المسلمين فقال له يوماً عندما دخل عليه :

«بابي انت واُمي ! انفق ولا تكون كابي حجر، وتداولوها يابني اُمية تداول الولدان بالكرة ، فوالذي يحلف به ابوسفيان ما من جنّة ولانار».

وواجهت هذه السياسة المعارضة من اصحاب رسول الله (ص)؛ فعندما ارسل عثما الوليد بن عقبة إلي الكوفة ليكون عامله عليها، الفي ابن مسعود علي بيت المال فاستقرضه مالاً. وقد كانت الولاة تفعل ذلك ثم ترد ما تاخذ، فاقرضه عبدالله ما ساله ، ثم إنه اقتضاه إياه ، فكتب الوليدفي ذ لك إلي عثمان فكتب عثمان إلي عبدالله بن مسعود: إنّما انت خازن لنا فلا تعرض للوليد فيما اخذ من المال ، فطرح ابن مسعود المفاتيح ؛و قال : كنت اظن اني خازن للمسلمين ، فاما إذا كنت خازناً لكم ، فلا حاجة لي في ذلك ».

وفي الشام استغل ّ معاوية سنوات تعيينه حاكماً عليها من قبل عثمان افضل استغلال ، مستفيداً من الصلاحيات الواسعة التي خوّله إيّاها الخليفة الثالث ، في إدارة البلاد، و خاصّة في جمع الاموال والتصرف بها حيث لعبت سياسته المالية دوراً كبيراً في التفاف القبائل العربية في الشام حوله بعد ان اغري رؤساءها بالاموال التي كان ينفقها عليهم ، بالإضافة إلي المنزلة المقرّبة منه والتي تصاحبها تلبية طلباتهم في كل ّ مناسبة او عند الحاجة .

واستطاع معاوية ايضاً، ان يجمع حوله مجموعة من الشعراء و الاُدباء، بعد ان بذل لهم الاموال والهدايا، ويرغّبهم بالانتماء لحزبه الاُموي ؛ فقد بعث إلي ابي الاسود الدؤلي الذي كان من اصحاب الإمام علي (ع) هدية فيها حلوي ، محاولة منه لجذبه إليه ، فعندما راتها ابنة ابي الاسود قالت : ممّن هذا يا ابه ؟!

فقال : من معاوية بعث بها ليخدعنا عن ديننا، فقالت :

ابالشهد المزعفر يابن حرب نبيع عليك احساباً ودينا

معاذ الله كيف يكون هذاومولانا امير المؤمنينا

ولج ّ معاوية في خداع اهل الشام ليحاربوا الإمام عليّاً(ع) عندما استغل ّمقتل عثمان في تنفيذ مخطّطه للوصول إلي الملك والسيطرة علي الخلافة و جعلها في بني اُميّة .

وبرع في تنفيذ حيلته عندما استخدم قميص عثمان ـ الذي نقل إليه من المدينة إلي الشام ـ كوسيلة للوصول إلي غايته ؛ فقد كان يصعد المنبر و يبكي علي عثمان حزناً لمقتله ، ويبكي معه اهل الشام ثم يحثّهم علي الانتقام من الإمام علي (ع) لانه قتله .

وقد نجحت هذه الحيلة حيث جعل اهل الشام يحاربون تحت رايته ، بالإضافة إلي اساليب اُخري من الدهاء والمكر استخدمها معاوية في حربه مع الإمام علي (ع) منها:

1 ـ إن ّ معاوية لم يطالب بالخلافة لنفسه ، او هو طامع بها، او يريد ان تكون لبني اُمية خاصّة ، وإنّما اعلن نصرته للخليفة المظلوم عثمان بن عفان الذي قتل و لم ينصره احد، واعلن ايضاً، ليس عنده ايّة عداوة مع الإمام علي (ع) و لا يريد منه شيئاً إلاّ ان يسلمه قتلة عثمان حتي يقتص ّمنهم ، وبعد ذلك تكون الخلافة للمسلمين ليختاروا من يشاءوا، وكان معاوية يتّهم خصومه او من يريد تصفيته جسدياً بانهم من قتله عثمان ،او ممّن لم ينصره ، و الغريب في الامر ان معاوية لم ينصره ، وتركه محاصراً حتي قتل ، مع ان جيش الشام كان تحت سيطرته .

واستنكر المسلمون نصرة معاوية لعثمان بعد مقتله ، امثال :ابي الطفيل عامر بن واثلة الكناني الذي قال له معاوية حين دخل عليه :

«انت من قتلة عثمان ؟ فقال ابوالطفيل : لا، ولكني ممّن حضره فلم ينصره ، قال : وما منعك من نصرته ؟ قال ابوالطفيل : لم ينصره المهاجرون والانصار. قال معاوية : الحق ّ كان حقّه واجباً، وكان يجب عليهم ان ينصروه . قال ابوالطفيل : فما منعك يا امير المؤمنين من نصرته و معك اهل الشام ؟ قال معاوية : اوما طلبني بدمه نصرة له ؟ فضحك ابوالطفيل وقال : انت و الله و عثمان كقوله :

لا اعرفنّك بعد الموت تندبني وفي حياتي ما زوّدتني زادي

2 ـ نجح معاوية نجاحاً باهراً في جعل الولاء للقومية العربية بدلاً من الولاء للدين الإسلامي ، ممّا جعل عرب الشام المسيحيين يقاتلون تحت إمرته ضد جيش الإمام علي (ع)، تجمعهم مع معاوية العروبة ، وخاصّة ان معاوية اعطاهم الحرية في ممارسة دينهم ، و قرب قسماً منهم إليه ؛حتي جعل احدهم ويدعي (سرجون ) من كبار مستشاريه .

3 ـ عظّم معاوية امر الخليفة عند اهل الشام ، وانه منصوب من الله سبحانه و تعالي ، و الاعتراض علي الخليفة هو اعتراض علي امر اللهسبحانه وتعالي ، واكد معاوية لاهل الشام ، ان الإمام عليّاً (ع) هو الذي قتل خليفة الله في ارضه عثمان بدليل انه يحتفظ بقتلته .

4 ـ برع معاوية في سياسته باستخدام الحلم عن خصومه و مناوئيه كوسيله لتثبيت نفسه في السلطه ، حتي انه كان يردّ الإساءة بالإحسان في الوصول إلي غايته ، وقد ساهم هذا الاُسلوب في انتماء عدد كبير من الشخصيات المهمّة إلي الحزب الاُموي ، بعد ان كانوا معادين لهذا الحزب .

فعندما بعث معاوية إلي رجل من الانصار، خمسمائة دينار فاستقلّها الانصاري ، و قال لابنه : خذها وامض إلي معاوية ، واضرب بها وجهه وردّها عليه ، واقسم علي ابنه ان يفعل ذلك ، فجاء ابنه إلي معاوية ، ومعه الدراهم ، فقال : يا اميرالمؤمنين ، ان ّ عند ابي حدّة و سرعة وقد امرني كيت وكيت ، وقد اقسم علي ّ. فوضع معاوية يده علي وجهه و قال : افعل ما امرك ابوك ، وارفق بعمّك ، وارجع معاوية الدنانير مضاعفة للانصاري ، و اثارت هذه الحادثة غضب يزيد الذي اعترض علي هذه السياسة الحليمة لابيه عن خصومه تحسّباً منه ان يقال بين الناس : إن ّ معاوية ضعيف اوجبان .

وكانت هذه الحيلة الاخلاقية من اخطر الاساليب التي استخدمها معاوية في بداية حكمه لتلبّسه بالعفو والرحمة التسامح مع خصومه ،حتي إذا استقامت له الاُمور، و استتبت له الاوضاع امر بالسيف في خصومه ، حتي قتل الصحابي حجر بن عدي الكندي و جماعة من اصحابه لانهم اعترضوا علي ظلمه .

5 ـ استمرّ معاوية في حث ّ اهل الشام علي طاعته و تعظيمه ، كما كانوا يفعلون مع ملوك الروم من الاحترام والسجود لهم ؛ لذلك فإن معاوية كان يلبس لباس الملوك بينهم .

6 ـ حشد معاوية كافة وسائل الإعلام في زمانه ، لتشويه شخصية الإمام علي (ع)، حتي كان بعض اهل الشام عندما يسالون عن الإمام علي (ع) يقولون ما نحسبه إلاّ لصّاً او قاطع طريق ، وقد تعجب بعضهم عندما سمعوا ان الإمام (ع) قُتل في المحراب ، وهو يصلّي ، إذ كان معاوية و اصحابه يبثّون الإشاعات ان الإمام عليّاً (ع) لا يصلّي .

ولم تثن ِ هذه الحيل والاساليب الخبيثة الإمام عليّاً (ع) عن مواجهة معاوية ، وإعلان الحرب ضده ؛ حتي يستسلم امام السلطة المركزية ويعزل نفسه عن ولاية الشام .

ولكن معاوية رفض ان يسلّم الولاية للخليفة المنتخب والذي له الحق ّ في عزل الولاة و تنصيبهم وكانت حرب صفين نتيجة لعناد معاوية وطمعه في كرسي الخلافة ، وانتصر الإمام علي (ع) في هذه الحرب ،واستعد معاوية للهرب ، لولا حيلة عمرو بن العاص ، عندما اشار علي معاوية ان يامر الجيش برفع المصاحف فوق اسنّة الرماح ، حتي يوقف القتال ، و ساعده الاشعث بن قيس الموالي لبني اُمية في إحداث الفرقة و الاختلاف في جيش الإمام علي (ع) ممّا ادي إلي ظهور الخوارج ، والذي قتل احدهم و يدعي عبدالرحمن بن ملجم الإمام (ع) وهو يصلّي في محراب مسجد الكوفة في سنة اربعين للهجرة .

ويفرح معاوية عندما يصل إليه خبر مقتل الإمام علي (ع)، و يمهّد الاُمور للاستيلاء علي الخلافة ، وتحقّق الحلم الذي راود اباه اباسفيان و اُمه هند ـ آكلة الاكباد ـ ليتسلّط علي رقاب المسلمين ، ويعيد لهم الخمور و الفسق و الفجور علي عهد ابنه يزيد الذي وصل الحكم بسبب دهاء ابيه وغدره .

ادّعي معاوية بعد تمكّنه من محاربة جيش العراق ، وحصول الصلح بينه و بين الإمام الحسن (ع) انه احق ّ بالخلافة من غيره لقرابته من عثمان ،و ان بني اُميّة يستحقّون هذا المنصب ؛ لانهم طالبوا بدمه فهم احق ّ بقيادة الاُمّة من غيرهم .

ولكن ادّعاءه هذا لم يصمد امام النظريات الإسلامية الاُخري ، مثل النص ّ و التعيين عند الشيعة الإمامية ، او الشوري عند اهل السنّة ، فاضطرّإلي اختراع مذهب الجبر الذي يتلائم مع تعظيمه للخلافة ، والذي روّج له معاوية كثيراً ليثبته في عقول المسلمين ، واستمر الاُمويون علي هذا المذهب حتي نهاية حكمهم و سقوط آخر خليفة اُموي .

واباح لهم هذا المذهب سفك دماء المسلمين ، وخاصة من يعترض علي ظلمهم ؛ مدّعين ان من يعترض علي الخليفة الاُموي فقد اعترض علي اوامر الله سبحانه و تعالي لان ّ الخليفة منصّب من الله والمعترض عليه كافر و يستحق القتل .

ولما استقبل معاوية وفداً من اهل العراق صرّح لهم عن فكرة مذهبه في الحكم والصلاحيات المخوّلة له حيث قال :

«الارض لله وانا خليفة الله، فما اخذت فلي ، وما تركته للناس ،فبالفضل مني ».

وعندما دخل الكوفة في سنة احدي واربعين هجريه ، اعلن من علي منبر الكوفة وبكل ّ صراحة عن مذهب الجبر في سياسته معهم ، وانه وصل للخلافة بقوّة السيف وبالقتال والحروب التي خاضها ضدّهم حتي نصره الله عليهم فقال :

«قاتلتكم لاتامّر عليكم ، فقد اعطاني الله ذلك ، و انتم كارهون ».

وكانت الرزيّة العظمي التي اصابت المسلمين عندما استخدم معاوية مذهب الجبر في تثبيت ولاية العهد لابنه يزيد؛ فقد اعلن ان الناس مجبورون علي مبايعة يزيد للخلافة من بعده ، معلناً بان ّ الله سبحانه وتعالي اعطاه ذلك ، فقال في احدي الخطب لتثبيت ولاية العهد:

«إن ّ لله الملك ويعطي الملك لمن يشاء، وقد اعطاه ليزيد؛ فعلي المسلمين مبايعته والتسليم له لان ّ امره قضاء من القضاء، وليس للعبادالخيرة من امرهم ».

وحاول معاوية ان يدعم مذهبه باخبار الرواة المحدثين في زمانه ،حتي يتم له خداع الناس بشرعية مذهبه ، واحقيّته بالخلافة من غيره ،فبذل اموالاً طائلة كعادته ؛ فجعلهم يختلقون الاحاديث الكاذبة عن الرسول الكريم (ص) لدعم مذهبه ، واحقية بني اُمية ، و بطلان خلافة الإمام علي (ع) والائمة الاطهار (ع) من بعده .

وقد اغرت دراهم معاوية سمرة بن جندب ؛ فبذل له معاوية مائة الف درهم حتّي يروي ان هذه الآية : (وَمِن َ النَّاس ِ مَن يُعْجِبُك َ قَوْلُه ُ فِي الْحَيَاة ِالدُّنْيَا وَ يُشْهِدُ اللّه َ عَلَي مَا فِي قَلْبِه ِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَام ِ- وَإِذَا تَوَلَّي سَعَي فِي الاَرْض ِلِيُفْسِدَ فِيهَا وَ يُهْلِك َ الْحَرْث َ وَالنَّسْل َ وَاللّه ُ لاَ يُحِب ُّ الْفَسَادَ).

وبذل له معاوية ـ ايضاً ـ مائة الف درهم علي ان يروي هذه الآية : (وَ مِن َ النَّاس ِ مَن يَشْرِي نَفْسَه ُ ابْتِغَاءَ مَرْضَات ِ اللّه ِ) انّها نزلت في عبدالرحمن بن ملجم ، عندما قتل الإمام عليّاً (ع) فلم يقبل سمرة بذلك ،فبذل له مائتي الف درهم فلم يقبل ، فبذل ثلاثمائة الف درهم ، فلم يقبل فبذل له اربعمائة الف فقبل وروي ذلك ».

وببذل الاموال والهدايا دعم الرواة والفقهاء الموالون للحزب الاُموي ، حكم معاوية خاصة ، وحكم بني اُمية عامة ، واخذوا يندّدون بمن يحاول الثورة ضدّ حكومته ، وينسبون إليه مخالفة الجماعة وخلع الطاعة و الكفر بالاُمة ، ويعطون لمعاوية صلاحية حكم الإعدام بهم .

وفئة اُخري من الفقهاء والمحدّثين ، لم تدعم معاوية وبني اُمية باختلاق الاحاديث بل اعترفت بظلم بني اُمية ، ولكنّها منعت الناس من الخروج ضدّهم ، ولم تؤيّد هذه الفرقة اي ثورة او عمل عسكري مسلّح ضد بني اُمية ، وطلبت من الناس الصبر والسكينة ، مقابل ظلم بني اُمية ،مثل الحسن البصري الذي كان يقول :

«إنّما الوالي الظالم نقمة فلا تقابل نقمة الله بالسيف ، و عليكم بالصبر و السكينة ».

وفئة ثالثة تري ان الظالم عندما يتجاهر بالفسوق و العصيان ،و يرتكب المحرّمات ويقتل النفس المحترمة ، ويتلاعب بالشريعة الإسلامية لصالح اهوائه و لذّاته النفسية ، فمثل هذا لاولي لابدّ للاُمة من القيام بوجهه ، و إعلان الجهاد المقدّس ضدّه ، حتي يتحقّق النصر وإنقاذ الاُمة منه ، والفوز بالشهادة التي وعد الله المؤمنين بها، وقد كان قائد هذاالاتجاه و زعيمه في مواجهة بني اُمية الإمام الحسين (ع) الذي رفض مذهب الجبر عند الاُمويين ، و دعا الاُمة الإسلامية إلي الانضمام تحت رايته في سبيل الدفاع عن الدين الإسلامي ، فلم ينصره إلاّ ثلّة من اصحاب النفوس الحرّة الكريمة الذين رفضوا الظلم ، وبذلوا انفسهم و ارواحهم في سبيل نصرة الإسلام ، و رفع كلمة الحق ّ، وحصلوا علي الشهادة التي فازوابها في الدنيا والآخرة .