بازگشت

التقدم نحو الشام


بعد يوم وليلة من الابتهالات والتضرع حول قبر الحسين [1] مستغفرين الله وطالبين اليه أن يمنحهم نعمة الشهادة، غادر التوابون كربلاء عبر الفرات الي الانبار ومنها الي القيارة وهيت. ومن هذه الاخيرة كتب سليمان بن صُرد الي أمير الكوفة عبد الله بن يزيد جواباً علي رسالته كما سبق ان أشرنا. ولقد تجنب التوابون كما هو واضح السير عبر الصحراء، واتخذوا طريق الجزيرة. ولعل غايتهم من وراء ذلك كانت تزويد جيشهم بقوات اضافية من الجزيرة وبلاد الشام، حيث كانت تتواجد المعارضة القيسية بزعامة الكلابيين أصحاب قرقيسيا [2] خاصة وأن بعض العناصر التوابية تراجعت الي الكوفة [3] .


بعد أن فتر حماسها وأدركها الخوف عند تواتر الاخبار عن جيش كبير للامويين زاحف من دمشق، فآثرت السلامة والعودة. ويبدو ان عددها كان محدوداً فلم يؤثر علي الخطة العامة للتوابين. ولكن هذا لم يمنع حاجة هؤلاء الملحّة الي المساعدات المادية والعسكرية لمجابهة نظام راسخ في دمشق وجيوش علي مستوي رفيع من التنظيم. ولهذا جرت اتصالات بين سليمان بن صُرد وبين زفر بن الحارث الكلابي صاحب قرقيسيا عند اقتراب التوابين من أبواب المدينة وكان المسيّب بن نجبه، نائب سليمان والرجل القوي [4] في الحركة رسول سيده الي الامير الكلابي [5] وكان هذا الاخير قد أمر باغلاق المدينة تحسباً للظروف، فلما قابله المسيّب وعرّفه بنفسه وشرح له أبعاد تحركهم هذا، أبدي تعاطفاً ملحوظاً معهم واستعداداً للتجاوب مع ما يطلبونه من مساعدات، دون أن ينسي تسويغ موقفه باغلاق الابواب في وجههم: «انا لم نغلق ابواب هذه المدينة الا لنعلم ايانا تريدون ام غيرنا، وما بنا عجز عن الناس وما نحب قتالكم وقد بلغنا عنكم صلاح وسيرة جميلة» [6] .


خرج موكب التوابين من قرقيسيا مزوداً بما يلزمه من احتياجات اقتصرت علي بعض المواد الغذائية، لان زفر رغم تعاطفه معهم، ورغم عداوته الشرسة للامويين [7] ، لم يمدهم بالمتطوعين ربما لانه وجد في حركتهم من المغامرة والتهور، ما يجعل أي فرصة للنجاح معها مستحيلة، او ربما لخروجه منذ أمد غير بعيد من حرب مدمرة مع الامويين في مرج راهط. ولهذا لم يرد استنفاذ طاقاته مرة أخري بدون جدوي.

وفي اثناء ذلك، وفي الوقت الذي كان يواكب فيه الزعيم الكلابي جماعة التوابين خارج المدينة [8] حملت اليه استخباراته معلومات غير سارة عن وجود عبيد الله بن زياد في (الرقّه) علي رأس جيش ضخم وبصحبته خمسة من كبار قادة الامويين وأشد أعداء الحزب الشيعي ضراوة وهم: الحصين بن نمير السكوني، شرحبيل بن ذي الكلاع الحميري، أدهم بن محرز الباهلي، ربيعه بن مخارق الغنوي، جبله بن عبد الله الخثعمي [9] .


تهيّب زفر الموقف الخطير، وخاف علي ضيوفه المتهالكين علي الشهادة، والمتدافعين لقتال عدو ليسوا في حجمه. فأخذ يلحّ عليهم بالتروي والرجوع الي قرقيسيا والعمل علي تشكيل جبهة واحدة ضد المروانيين من بني أمية [10] «ان شئتم دخلتم مدينتنا وكانت أيدينا واحدة، فاذا جاء هذا العدو قاتلناهم جميعاً» [11] ولكن هذه المعلومات عن الجيش الاموي الضخم لم تستثر التوابين الذين أصروا علي متابعة المسيرة، ورفضوا نصيحة زفر، كما رفضوا من قبل نصيحة أمير الكوفة عبد الله بن يزيد. فقد رد سليمان علي الامير الكلابي قائلاً: «قد أرادنا أهل مصرنا علي مثل ما أردتنا عليه وذكروا الذي ذكرت، وكتبوا الينا بعدما فصلنا، فلم يوافقنا ذلك فلسنا فاعلين» [12] .

ولابد هنا لاي متتبع لاخبار حركة التوابين، الا ان يستوقفه ذلك الصمود الرائع لهذه الحركة العظيمة، ولا بد ان تنتزع اعجابه تلك الشخصيات القيادية المرتفعة،


بايمانها المثالي، ونضالها الاسطوري الفريد. انها شخصيات من طراز جديد ومن معدن آخر لا نجد لها مثيلاً الا في كتب الاساطير. شخصيات اتقنت جيداً صناعة الموت، وتعدت قوانين الشهادة المعروفة، لتكتب بدمائها شرائع جديدة، ليست لدنياها وانما للتاريخ. أليس مثيراً أن تقوم حركة أساسها المغامرة وعنوانها الفداء، فتمر عليها سنوات خمس - أكثرها كمنظمة سرية تعمل في الخفاء - دون أن يخبو بريقها أو تفقد شيئاً من حماسها المتأجج، حتي في المواجهة المباشرة مع الموت؟.

غير أن رفض سليمان لرغبة زفر بالانكفاء الي قرقيسيا والتحصن فيها ضد الامويين، واصراره علي التقدم لاكمال المهمة التي التزم بها مع رفاقه في مسيرتهم التكفيرية، لم يحولا دون متابعة الامير الكلابي تحذيراته للتوابين من الخطر الداهم الذي يتهددهم، وتقديم نصائحه وخبراته بكل اخلاص لهم.. وهي توجيهات علي جانب من الاهمية، خاصة ما يتعلق بجغرافية المنطقة واستراتيجيتها ومواقع الماء فيها.. وكان آخر ما توجه به زفر للتوابين بعد أن أدرك عقم محاولاته في حملهم علي التراجع: «اني للقوم (أي الامويين) عدو، وأحب أن يجعل الله عليهم الدائرة، وأنا لكم وادّ أحب أن يحوطكم الله بالعافية».


ان القوم قد فصلوا من الرقة فبادروهم الي عين الوردة [13] فاجعلوا المدينة في ظهوركم ويكون الرستاق والماء والمادة في أيديكم وما بيننا وبينكم فأنتم آمنون منه. فاطووا المنازل فوالله ما رأيت جماعة قط أكرم منكم، فأني أرجو أن تسبقوهم، وان قاتلتموهم فلا تقاتلوهم في فضاء ترامونهم وتطاعنوهم فانهم أكثر منكم ولا آمن أن يحيطوا بكم فلا تقفوا اليهم فيصرعوكم ولا تصغوا اليهم فاني لا أري معكم رجالة ومعهم الرجالة والفرسان وبعضهم يحمي بعضاً، ولكن ألقوهم في الكتائب والمقانب ثم بثوها فيما بين ميمنتهم وميسرتهم واجعلوا مع كل كتيبة أخري الي جانبها، فان حُمل علي احدي الكتيبتين رحلت الاخري فنفست عنها. ومتي شاءت كتيبة ارتفعت ومتي شاءت كتيبة انحطت، ولو كنتم صفاً واحداً فزحفت اليكم الرجالة فدفعتم عن الصف انتفض وكانت الهزيمة» [14] .


پاورقي

[1] ابن الاثير: 4/75.

[2] البصيرة حالياً في سوريا، عند مصب الخابور علي الفرات.

[3] ابن کثير: 8/252 - 253.

[4] الطبري: 7/74.

[5] الطبري: 7/72.

[6] ابن الاثير: 4/75.

[7] الطبري: 7/73.

[8] الطبري: 7/73.

[9] الطبري: 7/73، ابن الاثير: 4/75.

[10] الفتوح لابن الاعثم الکوفي. نسخة اسطنبول (مخطوطة).

[11] ابن الاثير: 4/75.

[12] الطبري: 7/73.

[13] رأس عين تنبع علي بضعة أميال الي الشمال من قرقيسيا علي نهر الفرات، ابن الاثير: 4/76، جون جلوب: امبراطورية العرب 134.

[14] الطبري 7/73 - 74، ابن الاثير: 4/76.