بازگشت

معاوية و تحويل الخلافة الي ملك وراثي


بعد تنازل الحسن، سقطت آخر معاقل الخلافة الراشدية، وبدأت مرحلة جديدة في تاريخ الاسلام مختلفة تماماً في أبعادها ومناهجها عن المرحلة السابقة. وغدت دمشق مركز الحكم وعاصمة الخلافة الاموية التي أرسي قواعدها معاوية. ولقد كان هذا الاخير يمتلك طموحاً بعيداً، فانصرف بكل ما أوتي من جهود الي بناء مجتمع جديد، مطبوع بشخصيته المكيافيلية، ومتأثر برواسبه القبلية الي أبعد حدود التأثر.

كانت مشكلة الحكم من أهم ما التفت اليه معاوية، ولم يقعده بلوغ الخلافة وتحقيق أحلامه في السلطة عن التفكير بها ومحاولة الوصول الي حل جذري لها. وقد رأي في تجارب الخلفاء الذين سبقوه، والازمات التي مرت بها الخلافة، مسوغاً لاحداث تغييرات أساسية في نظام الحكم، بتحويله من نظام قائم علي الشوري الي ملكي أوتوقراطي أو بمعني آخر من حكم اسلامي ديني الي سياسي دنيوي [1] .

وكانت أبرز جوانب هذه المشكلة برأي معاوية، ما


يمكن ان يتمخض عن هذه التغييرات من معارضة، ربما تؤدي الي حرب أهلية. فالحسن منافسه لا زال في المدينة ووراؤه حزب كبير، لن يقبل بأي اجراء يجعل من الخلافة ملكاً متوارثاً لبني أمية، فضلاً عن ان ذلك مناقض للمعاهدة التي عقدت بين الحسن ومعاوية [2] وكذلك فان الاحزاب الاخري ستنفر من هذه الفكرة وستقابلها بالرفض.

ولكن معاوية لا تقلقه كثيراً هذه التصورات فهو يعرف جيداً ماذا يريد، ولديه من اخلاص جنوده الشاميين ما يدفعه لتنفيذ مخططاته مهما كان السبيل الي ذلك. بدأ أولاً بتصفية الحسن فأزاح بهذا منافساً رئيسياً من طريقه [3] وانتشر رجاله في أقاليم الدولة يبشرون بفكرة الوراثة ويمهدون لقبول الناس بيزيد خليفة بعد أبيه. وكانت مهمة صعبة أمام هؤلاء، لم تقتصر علي الاقناع بالمبدأ فقط، ولكن أيضاً حول صلاحية الشخصية المرشحة لولاية العهد التي لم تكن بنظر الناس مؤهلة لتولي منصب حساس كالخلافة.


علي أن ولاية العهد رغم ما أثارته من استهجان في أوساط المسلمين، فقد تمكن معاوية بواسطة أجهزته من أخذ البيعة ليزيد بغير صعوبة فيما عدا اقليمين كان يعرف هو سلفا موقفهما وهما: العراق والحجاز. الاول لرفضه الخلافة الاموية أساساً والتزامه بقضايا مختلفة تماماً، تحركها عوامل سياسية واقليمية واضحة. والثاني كانت لديه نفس الاعتبارات تقريباً مع فارق واحد يعطي له أهمية خاصة بالنسبة لمعاوية. فهو مهد الاسلام ومركز العاصمة الاولي للخلافة وملتقي كبار رجالات الاسلام الذين تمتعوا بالاحترام والتأييد الشعبي الواسع.

واذا كان العراق الذي افتقر حينئذ الي القيادات الفعلية، قد أرغم بمعظمه علي البيعة تحت وطأة السلطة الحديدية التي كان علي رأسها زياد بن أبيه، فان الحجاز كان له موقفاً أشد صلابة عندما رفض ثلاثة من زعمائه الكبار البيعة ليزيد وهم: الحسين بن علي وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير [4] .

كان هؤلاء - وهم جميعاً أبناء صحابيين كبار، تولي اثنان منهم (عمر وعلي) الخلافة والثالث (الزبير) نازع علياً عليها وقتل في معركة الجمل - يحظون بمكانة عالية


في الحجاز لا سيما الحسين الذي كان اكثرهم قدرة علي تحريك الناس ضد معاوية والامويين. ومن أجل ذلك قرر معاوية أن يجابه الموقف بنفسه في الحجاز ويخوض معركة ولاية العهد مباشرة، فذهب الي المدينة علي رأس ألفي فارس وألقي في مسجدها خطبة أشاد فيها بشخصية يزيد المؤهلة - بنظره - لتولي الخلافة، ثم غادرها الي مكة حيث انتقل اليها الزعماء الثلاثة ليبحث معهم مسألة ولاية العهد وليأخذ البيعة منهم طوعاً أو كرهاً. وكان هؤلاء قد كلفوا ابن الزبير محاورته باسمهم فرد عليه وأنكر محاولاته في خرق الشرعية والخروج علي سنة الأوائل من الخلفاء. وكان معاوية حاداً في جوابه لابن الزبير اذ قال له مهدداً «أقسم باللّه لئن رد علي أحد منكم كلمة في مقالي هذا لا ترجع اليه كلمة غيرها حتي يسبقها السيف الي رأسه فلا يبقين رجل الا علي نفسه» [5] وكان أيضاً مناوراً كعادته حيث جمع الناس في المسجد وخطب فيهم: «ان هؤلاء - ويقصد بهم الثلاثة الممتنعين - قد رضوا وبايعوا ليزيد، فبايعوا علي اسم الله» [6] .

وكانت مداهمة معاوية لهؤلاء الزعماء واحراجهم


باعلان بيعتهم دون أن يأخذ منهم تصريحاً بذلك نهاية المطاف بالنسبة للجدل الذي أثير حول ولاية العهد. ولم يكن أمام زعماء الحجاز الا التسلح بالصبر والانضمام الي فريق الساخطين الذي أخذ حجمه يزداد يوماً بعد آخر، بانتظار الظروف الملائمة للتعبير بالوسائل السلبية عن الرفض المطلق لنظام الوراثة في الحكم الذي ابتدعه معاوية.


پاورقي

[1] لويس: العرب في التاريخ 89.

[2] کان من بنودها: ان يکون الامر للحسن بعد معاوية. فان حدث شيء للحسن فلأخيه الحسين، وليس لمعاوية ان يعهد به الي احد: صلح الحسن 253 - 254. خالد محمد خالد: ابناء الرسول في کربلاء 87.

[3] المسعودي: مروج الذهب 2/427.

[4] ابن الاثير: 2/252.

[5] الخضري: محاضرات في تاريخ الامم الاسلامية 1/89.

[6] ابن الأثير: 2/252.