بازگشت

الاحوال السياسية منذ اغتيال علي إلي كربلاء...


بين الحسن ومعاوية

بويع الحسن بالخلافة بعد اغتيال ابيه. وكأي حاكم جديد يتولي السلطة، أعلن برنامجه السياسي في مسجد الكوفة، وكانت أبرز خطوطه مشكلة الصراع مع معاوية، ذلك الصراع الذي وجد الحسن نفسه منقاداً اليه تلقائياً لاعتبارات عقائدية وسياسية.

وعلي عكس ما يعتقد البعض من أن هذا الخليفة كان عازفاً عن استئناف الحرب مع معاوية، وأنه حين سار لقتال هذا الاخير كان تحت ضغوط من جماعته الكوفيين [1] فالحقيقة الثابتة أن الحسن واجه هذا الامر بمنتهي الجدية والحزم، وكان أول ما فعله بعد وصوله الي الحكم هو الاهتمام بجيشه، فدفع رواتب جنوده [2] وعمل علي اعدادهم اعداداً لائقاً لحرب مصيرية مقبلة. وهذا الجيش


هو نفسه الذي أعده علي قبل اغتياله للزحف به الي الشام. ولعل بعض المؤرخين قد خلطوا بين ما اشاروا اليه من تردد الحسن في مجابهة هذه المشكلة وبين حذره الذي غلب علي تصرفاته. فالتردد شيء والحذر شيء آخر. وهذا الموقف كان نابعاً في المقام الاول من عدم ثقته بالزمرة السياسية التي حاطت به وكان لا بد من الاعتماد عليها في مطلق الاحوال [3] فهي مركز الثقل في الكوفة بما تمتلكه من رجال وأموال، وهي في الواقع تقرر الموقف الذي تريد [4] علي ضوء ما تراه منسجماً مع مصالحها وامتيازاتها في المدينة.

فالحسن كما نعرف عاش عن كثب تجربة الحرب في صفين وما صاحبها من مؤامرات، وخبر جيداً أساليب معاوية في امتلاك قلوب هذا النوع من الرجال [5] الذي كانت مصالحه فوق المبادئ وفوق المثل. ولم يكن


مفاجئاً أن يتحول هؤلاء الذين عرفوا بالاشراف فيما بعد الي مطية للنظام الاموي يقاتلون في صفوفه، نفس الحزب الذي كانوا من أركانه أيام علي والحسن.

فالحسن اذا لم يساوره أدني تردد او تخاذل في موقفه من الحرب مع معاوية، ولكنه كان شديد الحذر من جماعته، غير واثق من ولائهم واقتناعهم بفكرة الحرب. ولا بد لنا هنا من أن نتصور أية مهمة مستحيلة كانت بانتظار الحسن ليخوضها بجيش مفكك العناصر، مضطرب الولاء، موزع الانتماءات قبلياً وعشائرياً.

بهذه التركيبة العجيبة من المقاتلين التي لم يدخلها سوي قلة مؤمنة ومخلصة، سار الحسن لقتال الجيش الشامي القوي والانضباطي - الذي وصف معاوية عناصره يوماً بأنهم «أطوع جند وأقلهم خلافاً» [6] وهو يدرك جيداً ان المتاعب لن تأتيه من أعدائه فقط، بل من الانتهازيين داخل جيشه أيضاً الذين يظهرون غير ما يسرون [7] ، فكان ذلك يزيد من شجونه ويزيد الامور تعقيداً.


وكان معاوية قد أدرك بدوره نقطة الضعف هذه في جيش الحسن فاستغلها ببراعة وأخذت مناوراته ودسائسه تفعل فعلها في أوساط المترددين وهم كثرة، وتمكن من تأليب كبار القواد عليه وتخذليهم عنه بشتي المغريات.

ولعل من أقسي ما تعرض له الحسن تواطؤ قائده وابن عمه عبيد الله بن عباس مع معاوية وتسلله الي معسكره ليلاً ومعه القوة الاساسية من الجيش [8] وأخذت الأوضاع تتحرج اكثر فأكثر في جبهة الحسن الممزقة حتي وصل الامر الي حد بأن تجرأ عليه بعض جنده فهاجموه في فسطاطه [9] ، وكمن له رجل متطرف من بني أسد اسمه الجراح بن سنان فأصابه بجرح بليغ في فخذه [10] فتراجع الحسن حينئذ الي المدائن لينشغل في مداواة جراحة. كل هذا في الوقت الذي كان فيه معاوية ناشطاً في محاولة استقطاب المزيد من رجالات الحسن [11] وفي تصعيد حملاته النفسية في صفوف أعدائه.


وتحت تأثير هذه الظروف المأساوية المؤلمة، ولما آل اليه وضع الجيش العراقي، وفي غمرة هذا الجو المشحون بالتشاؤم في امكانية الصمود والامل بالنصر، استجاب الحسن أخيراً وهو مرغم لعروض معاوية من أجل الصلح بعد أن أبدي هذا الاخير استعداده للموافقة علي جميع ما اشترط عليه [12] .

أثارت قضية الحسن ولا تزال الكثير من الجدل. فمن مبالغ متطرف في تقدير مواقفه واجلالها، الي منتقد ظالم اكتفي بالنظرة السطحية الي مجريات الاحداث وتغاضي عن كل الايجابيات. وبالنتيجة كانت شخصية الحسن عرضة لتقويم خاطئ وغير منصف. والحق أنه وجدت هناك أسباب لا ينبغي لأحد تجاهلها في هذا المجال لأنه كان لها الدور المؤثر في عملية الصراع الذي دار بين الحسن ومعاوية او بين العراق والشام باتخاذه بعداً اقليمياً بدأ في صفين وتركز بعد تنازل الحسن ثم تعمق في كربلاء وتحول الي صراع تقليدي علي مدي بعيد من الزمن. ومن هذه الاسباب:

1 - فقدان القيادات الشعبية المخلصة التي برزت


مع علي، القادرة علي تحريك الجماهير وضبطها، ابتداء بعمار بن ياسر وانتهاء بالاشتر النخعي، فقد أفلت الزمام في جيش الحسن لافتقاده الي القيادات الفعلية، وهذا الشيء نفسه سيتكرر مع مسلم بن عقيل في الكوفة.

2 - أدرك الحسن ان موازين القوي غير متكافئة بينه وبين أعدائه خاصة بعد التخلخل الذي أصاب جيشه وظهور الانتهازية فيه. من هنا رجّح خسران المعركة عسكرياً ووجد ان المخاطرة بجيش ضعيف وممزق ستؤدي الي ضرب الحزب الشيعي بكامله وانهيار البقية الباقية من رجالاته المخلصين. وكان هذا بدون شك تقديراً سليماً وبعد نظر من جانب الحسن. وعلي ذلك سنجد ضمن ما اشترطه علي معاوية بعد توقيع الصلح اعلان العفو العام، لانه لم يشأ أن يدع تلك النخبة [13] من الحزب في مواجهة معاوية دون أية ضمانات.


پاورقي

[1] الخربوطلي: تاريخ العراق في ظل الحکم الاموي 68.

[2] الاصفهاني: مقاتل الطالبيين 34.

[3] راجع صلح الحسن للشيخ راضي آل ياسين 83 وما بعدها.

[4] راجع صلح الامام الحسن للسيد محمد جواد فضل الله 51 وما بعدها.

[5] کان من أبرز هؤلاء: الاشعث بن قيس، عمرو بن حريث، معاوية بن خديج، المنذر بن الزبير، شبث بن ربعي، اسحق بن طلحة، وعمر بن سعد.

[6] راجع کتاب تاريخ العرب السياسي (بيضون - زکار): 82.

[7] السيد محسن الامين: أعيان الشيعة 4/22.

[8] الاصفهاني: مقاتل الطالبيين: 40 - 42.

[9] الدينوري: الاخبار الطوال: 23.

[10] اليعقوبي: 2/251.

[11] أعيان الشيعة: 4/42.

[12] الطبري: 6/93.

[13] کان من ابرزها: حجر بن عدي الکندي، وقيس بن سعد بن عبادة، وسليمان بن صرد وغيرهم.