بازگشت

الحكم بعد محمد


كان موت الرسول بعد سنوات قليلة من وضعه الاسس الاولي لدولة الاسلام، مفاجأة أذهلت، ربما الشخصيات التاريخية التي عاصرته وعاشت قريبة منه. فبموته شغر مركز الحكم الاول دون اعداد للرجل الذي يمكن أن يشغله، من الناحية الرسمية علي الاقل، لان أكثر من مرشح في الواقع اتجهت اليهم الانظار بعد الخروج من هول المفاجأة، بعضهم كان يطرح نفسه مدفوعاً باعتبارات قبلية، وبعضهم لسابقته في الاسلام والجهاد في سبيله. وهكذا وجد المسلمون أنفسهم بعد وفاة الرسول مباشرة في مهب أزمة سياسية كادت تعصف بالبنيان الذي كان لا يزال حديث العهد. فالحكم في الدولة الاسلامية الناشئة ارتبط ارتباطاً وثيقاً بشخصية الرسول، وعلي ذلك لم تطرح في حياته مسألة الخلافة، حتي اذا غاب المؤسس حدث فراغ كبير في جهاز الحكم وأخذت تباشير لازمة تنذر بالانفجار والرسول لا زال مسجي في بيته.

هل كانت هناك وصية من الرسول حول خلافته؟

انه تساؤل أثار كثيراً من الجدل ولا زال... ورغم


ان البعض يؤكد وجود مثل هذه الوصية [1] التي تشير الي أن الرسول كان يعد علياً لخلافته فان هذا برأيهم ورأي آخرين غيرهم، أقل ما تفرض الاعتقاد به تصرفات النبي اذ كان من غير المعقول الا يعالج مسألة الحكم قبل موته او ألا يجلو عنها الغموض علي الاقل.

والواقع ان عدة مؤشرات يمكن أن تضيء لنا الطريق في بحثنا لهذه المسألة، وكلها توحي بأن الاعداد للخلافة كان لا ينفصل عن تصرفات النبي واجراءاته النظرية والتطبيقية، وان ثمة مخططاً واضحاً كان يرمي الي اختيار علي بمعرفة الزعماء الكبار من المسلمين. وقد أدي ذلك الي ظهور أول تكتل سياسي في المدينة، اتخذ موقفاً موحداً من الخلافة، ضم أبا بكر وعمر وأبا عبيدة.

ويبدو أن النبي كان يسمع اعتراضات هؤلاء وغيرهم بشأن اعداده لعلي تتناول أكثر ما تتناول تأخره عنهم في السن كثيراً. فيأتي جواب النبي في تركيبة الجيش الذي أرسله لغزو الاطراف الجنوبية من بلاد الشام [2] وضم عدداً من كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وابي عبيده وسعد بن ابي وقاص وغيرهم من شيوخ المسلمين والمهاجرين والانصار،


وكان هؤلاء جميعاً تحت قيادة اسامة بن زيد الحدث السن والاقل شأناً بينهم في مركزه السياسي ومكانته القبلية [3] .

وليست من قبيل الصدفة أن يُستثني علي من الدخول في هذا الجيش وما كان بقاؤه الي جانب النبي - وهو في آخر أيامه - الا تحسبا للظروف.

وقد حدث بعد اشتداد وطأة المرض علي النبي ما أكد اصراره علي خروج اسامة بالجيش مع انه لم يكن هناك ضرورة ملحة لهذا الاصرار، سوي أن ذلك كان محاولة أخيرة لا يصال علي الي الخلافة بابعاد كبار الطامحين اليها عن المدينة. وقد أدرك هؤلاء هدف النبي فترددوا في تنفيذ أوامره وآثروا عدم الابتعاد عن المسرح السياسي في ظل ظروف دقيقة كهذه [4] .

ونحن لن نتوغل هنا في تفاصيل أحداث الازمة السياسية التي سيطرت علي المدينة، وتطاحن الاحزاب فيها من أجل الاستيلاء علي السلطة، فأمر ذلك معروف ومتداول بين مختلف فئات الناس. ذلك أن غايتنا هي البحث في جذور حركة التشيع سياسياً ثم ظهور الحزب


الشيعي الذي قاد معظم حركات المعارضة في الاسلام، وفجر أشد الثورات عنفاً ضد النظام الاموي ثم العباسي.

ان الفراغ الذي أحدق بالدولة الفتية أثناء مرض النبي لم يشل الحركة السياسية في المدينة التي غدت دون حكومة وبلا امام. ففي حين لازم علي بيت الرسول مطمئناً علي ما يبدو بأن سير الامور سيتجه لمصلحته [5] ، نشط السياسيون الذين كانوا يترصدون الاحداث عن كثب وبدأوا يتحركون بسرعة، ولعلهم أدركوا ان السرعة هي التي تقرر الامور في مثل هذه المواقف.

وعندما مات النبي كان الوضع شديد التوتر، والناس موزعة بين تكتلات ثلاثة:

1 - أسرة النبي وجمهور المسلمين وبعض كبار الصحابة أمثال: الزبير وسلمان وابو ذر والمقداد فضلاً عن شخصيات أخري كأبي سفيان وخالد بن سعيد الاموي والبراء بن عازب الانصاري [6] وكان علي مرشحهم للخلافة.


2 - بعض زعماء الانصار الذين اجتمعوا في سقيفة بني ساعده مع نفر قليل بزعامة كبير الخزرج سعد بن عبادة الذي كان يحاول اعلان ترشيحه للخلافة.

3 - تكتل (أبو بكر، عمر، ابو عبيدة) من المهاجرين وكانوا جميعاً مرشحين للخلافة.

ولقد كان تكتل الانصار في الواقع سبّاقاً في اثارة المشكلة حين سارع الي التجمع في سقيفة بني ساعدة فور العلم باحتضار الرسول، وكان ابرزهم سعد بن عبادة الذي جيء به وهو مريض، وصوته يتهدج الي درجة أن ابنه كان ينقل ما يقوله الي الحاضرين [7] وهنا تحرك تكتل المهاجرين الثاني (ابو بكر، عمر، ابو عبيدة) وخطط بذكاء مستفيداً من الظروف الي أبعد الحدود، ومعتمداً علي سلبية تكتل المهاجرين الاول المنشغلين بموت الرسول، وعلي ضرب اتفاق القبيلتين [8] التي يتألف منها تكتل الانصار خاصة وأن ترشيح سعد الخزرجي لم يلق تجاوباً لدي زعماء الأوس [9] ، وأوجد بعض المزاحمة في قبيلة الخزرج نفسها من جانب بشير بن سعد الانصاري، فضلاً


عن ان بعض «الانصار قالت لا نبايع الا علياً» [10] .

وما لبث التصدع أن أصاب جبهة الانصار بظهور أول موقف تراجعي أعلنته طائفة منهم بقولها: «منا أمير ومنكم أمير». وكان ذلك أول الوهن كما عبّر عنه سعد بن عبادة [11] ، وهو لا شك قد لامس الحقيقة، لان جدلاً عنيفاً تفجر في السقيفة حينئذ، ولم يخفف من حدته الا محاولات عمر لاشغال الرأي العام بقضية موت النبي [12] ، ثم ظهور أبي بكر [13] حيث ألقي خطبة عرض فيها دور المهاجرين في نصرة الرسول وسابقتهم في الاسلام [14] وأعلن انه ورفاقه الجماعة التي ينبغي ان يكون لها هذا الأمر [15] ، دون أن يتجاهل دور الانصار ونصيبهم في الدولة الناشئة [16] .


ويبدو ان خطبة ابي بكر فعلت فعلها في نفوس المجتمعين في السقيفة، وكان حينذاك عمر بذكائه الشديد وشخصيته القوية يبذل جهداً فائقاً في استغلال الموقف الذي بدأ يتحول تدريجياً لصالح المهاجرين. فقد أصبح الآن باستطاعة ابي بكر ان يطرح رجلاً من تكتله للخلافة وفعل ذلك حين قال: «هذا عمر وهذا أبو عبيدة، فأيهما شئتم فبايعوا» [17] ولكن عمر أبي الاستجابة لدعوة ابي بكر وأصر علي أن يكون هذا الاخير هو الخليفة. وثار الجدل من جديد، وفي غمرة ذلك تقدم عمر من أبي بكر قائلاً: «من ذا ينبغي له أن يتقدمك أو يتولي الامر عليك، ابسط يدك نبايعك» [18] وبذلك خرج ابو بكر من السقيفة أول خليفة في الاسلام حائزاً علي تأييد الانصار واثنين من زعماء المهاجرين الكبار.

وكانت خلافة ابي بكر أشبه ما تكون بانقلاب سياسي ناجح، فجّره تمرد الانصار في السقيفة، وحوّله تكتل المهاجرين الي مصلحته، دون أن يتاح لفئة مهمة من المسلمين في أن تمارس حقها المشروع في عملية الاختيار. فالظروف التي تمت فيها البيعة، لم تكن في مطلق الاحوال ملائمة


لتقرير مسألة خطيرة كالخلافة، حين تمخض عنها تشريع عرفي، بأن السلطان لمن غلب، وكان لا بد من أن تعكس سلبياتها طويلاً علي تلك المؤسسة.

كانت حادثة السقيفة، برغم الاجماع الذي حظي به أبو بكر، وبيعة مختلف الاحزاب له فيما بعد، نقطة البداية في تاريخ الحركة الشيعية [19] ذلك أن اختيار ابي بكر وابعاد علي لم تستسيغهما جماعة هذا الاخير والمؤيدين له.. وقد ترك أعمق الاثر في نفوس هؤلاء الذين التفوا منذ ذلك الحين حول علي وأيدوا قضيته في الخلافة، ثم تحولوا الي حزب سياسي عرف بالحزب الشيعي (لمشايعته علياً) او العلوي نسبة اليه.



پاورقي

[1] صحيح البخاري 5/137.

[2] ابن هشام: 2/601.

[3] اليعقوبي: 2/113.

[4] اليعقوبي: 2/127، الطبري: 3/211.

[5] الطبري: 3/204.

[6] مرتضي العسکري: عبد الله بن سبأ وأساطير أخري: 87.

[7] طبري: 3/207.

[8] الاوس والخزرج.

[9] اسيد بن حضير وعويم بن ساعدة. طبري: 3/209 ابن قتيبة: الامامة والسياسة 1/9.

[10] طبري: 3/198.

[11] طبري: 3/208.

[12] طبري: 3/197.

[13] طبري: 3/195.

[14] ابن قتيبة: الامامة والسياسة: 1/6.

[15] لن تعرف العرب هذا الامر الا لهذا الحي من قريش: ابن هشام.

[16] ابن قتيبة: الامامة والسياسة: 1/6.

[17] الطبري: 3/209.

[18] الطبري: 3/209.

[19] احمد صبحي: نظرية الامامة عند الشيعة الاثني عشرية، 28 - 29.