بازگشت

اعداد لتقبل المصيبة


و عندما أعادها مرتين أو ثلاثا، و عنده مولي لأبي ذر الغفاري و هو يعالج سيفه و يصلحه، قال الامام زين العابدين عليه السلام، الذي كان في خيمة مجاورة لخيمة والده و عنده عمته زينب تمرضه (فعرفت ما أراد، فخنقتني العبرة، فرددت دمعتي، و لزمت السكوت، و علمت أن البلاء قد نزل) [1] أراد الامام عليه السلام بذلك أن يضعهم أمام الأمر الواقع، و قبل حقيقة موته و موت أصابه و أهل بيته لكي يستعدوا لذلك و يتصرفوا بحكمة و اتزان اذا ما قتلوا، و ربما كانت زينب معنية أكثر من غيرها لمرض الامام زين العابدين عليه السلام و عدم ظهوره أمام السلطة كرجل صحيح مؤهل للقتال أو العناية بالأطفال والنساء، و الا لكان قد قتل، كما حاول ابن زياد ذلك بالفعل عندما جلب الأساري الي قصره.

لا شك أن فورة عاطفية و موجة طاغية من الحزن ستتبع سماع زينب والنساء الأخريات بالنبأ الصاعق و رؤيتهن أن الأمر بسبيله الي أن يتم، و يقتل الحسين و أصحابه عليه السلام غير أن شدة المصاب، و دقة الظرف الذي كن يمررن به و ما يقتضيه من العناية بالصغار، اقتضي أن تتمتع هذه المرأة بقدرة استثنائية تستطيع معها كبح جماح حزنها و ألمها، و الالتفاف الي من كان بمعيتها من النساء و الأطفال و الظهور بجلد و قوة ألمها، والالتفاف الي من كان بمعيتها من النساء والأطفال والظهور بجلد و قوة أمامهم، حتي تعينهم علي اجتياز المحنة والوصول سالمين الي بيوتهم في طريق العودة الطويل الذي تخللته محطتان لدي الطاغيتين ابن زياد و يزيد.

لم تستطع زينب، عند سماعها الأبيات الشعرية التي رددها أخوها الحسين عليه السلام أن تسيطر علي مشاعرها، فكان ذلك المشهد الحزين بين يدي أخيها عليه السلام والذي لم تسعتطع احتماله فسقطت مغشيا عليها، ثم بعد أن أفاقت من وطأة تلك المشاعر الثقيلة، التي أرهقتها و أفقدتها شعورها، أخذ الامام عليه السلام - و كأنه ليس هو الذي سيقتل - يهدي ء من روعها، و يقدم لها توصياته الأخيرة و يعدها للأمر الجلل، و يريها أن ذلك ما دام أمرا لا مفر منه، فان عليها أن تتذكر كلماته و تتمسك بها لكي تستطيع الحافظ علي مجموعة النساء والأطفال و تخفف عنهم آلامهم و متاعبهم ريثما تعود بهم الي المدينة حيث بيوتهم و مسقط رؤوسهم.

ويستمر الامام زين العابدين عليه السلام في سرد ذلك المشهد الحزين (فأما عمتي،


فانها سمعت ما سمعت، و هي امرأة، و في النساء الرقة والجزع، فلم تملك نفسها أن و ثبت تجر ثوبها، و أنها لحاسرة حتي انتهت اليه، فقالت: واثكلاه، ليت الموت أعدمني الحياة. اليوم ماتت فاطمة أمي و علي أبي و حسن أخي. يا خليفة الماضي، و ثمال الباقي.

فنظر اليها الحسين عليه السلام فقال: يا أخية، لايذهبن حلمك الشيطان. قالت: بأبي أنت و أمي يا أباعبدالله، استقتل، نفسي فداك، فرد غصته، و ترقرقت عيناه، و قال: لو ترك القطا لغفا لنام.

قالت: يا ويلتي، أفتغصب نفسك اغتصابا، فذلك أقرح لقلبي، و أشد علي نفسي، و لطمت وجهها، و أهوت الي جيبها فشقته، و خرت مغشيا عليها.

فقام اليها الحسين، فصب علي وجهها الماء، و قال لها: أخية اتقي الله، و تعزي بعزاء الله، و اعلمي أن أهل الأرض يموتون، و أن أهل السماء لا يبقون، و أن كل شي ء هالك الا وجه الله الذي خلق الأرض بقدرته، و يبعث الخلق فيعودون، و هو فرد وحده.

أبي خير مني، و أمي خير مني، و أخي خير مني. ولي و لهم و لكل مسلم برسول الله اسوة.

فعزاها بهذا و نحوه، و قال لها: يا أخية، اني أقسم عليك فأبري قسمي، و لا تشقي علي جيبا، و لا تخمشي علي وجها، و لا تدعي علي بالويل و الثبور اذا أنا هلكت.. ثم جاء بها حتي أجلسها عندي، و خرج الي أصحابه) [2] .

لقد تجسمت المصيبة، و غدت واضحة أمام عيني زينب، عندما أدركت الآن بشكل واضح أن الحسين عليه السلام سيموت، و قد أسمعها هو أبيات تؤكد لها ذلك.

و كان ذلك أمرا مفاجئا لم تستطع تحمله و قد أدركت حجم تلك المصيبة التي حملها ذلك الأمر المفاجي ء، و كان جواب الحسين عليه السلام تأكيدا آخر علي أنه سيموت عندما طلب منها أن تتجلد و تتعزي بعزاء الله، فقد رأت الآن أنه بسبيله الي أن يقتل علي أيدي تلك الطغمة المحتشدة لقتاله و حربه، و عندما استوضحته أمر ذلك ترقرقت عيناه بالدموع.


ولا شك أن هذا موقف انساني كبير يدل علي عظمة الحسين عليه السلام و سمو مشاعره و وجدانه، و هو موقف لا يعرفه القاسي الغليظ الذي تجرد قلبه من الرحمة و من كل احساس انساني طبيعي، فهل يملك انسان مرهف الحس، يفيض قلبه حبا لكل الناس، حتي لأعدائه أن لا يحزن علي أطفال و نساء سيتركهم بين أيدي أعدائه القساة الحاقدين؟ و هل يملك أن لا تترقرق عيناه، بل و تفيضان بالدموع، و هو يفارق أناسا عاش معهم ورعاهم و تنسم أنفاسهم و أحب صورهم؟.

لا شك أنها مشاعر انسانية خالصة اقتضاها حبه لمن سيفارقهم، و لم يكن مبعثها خوفه علي حياته هو خاصة.

و لا شك أن دموع الحسين عليه السلام و قوله لها: لو ترك القطا لنام، هي التي فجرت مشاعرها الي أقصي حد، حتي لطمت وجهها وخرت مغشيا عليها و قد صب الحسين عليه السلام الماء بعد ذلك علي وجهها و أيقظها من اغماءتها، و قد استنفذت و امتصت صورة العاطفة الأولي والحزن الأول، ثم بعد أن هدأت، و بدأت تفكر بالواقع الذي كانت علي وشك أن تواجهه، بدأت هنا مرحلة أخري، و هي مرحلة اعدادها بشكل واقعي لتقبل فكرة قتله و بقائها راعية وحيدة للنساء و الأطفال.

و كان ذلك هو الوقت المناسب لكي تنفس عن مشاعر الحزن الطافحة في ذلك الوقت المبكر، بدل أن تتملكها في وقت متأخر، و قد تفقد السيطرة عندها علي الجمع المحزون المكروب من النساء و الأطفال و قد يلحقهم من ذلك ضرر أكثر من الذي لحقهم، اذ قد لا تستطيع في غمرة الحزن أن تتصدي لأعدائها و تحفظ النساء و الأطفال و تمنع أعداء الامام زين العابدين عليه السلام من النيل منه أو الحاق الأذي به، و هي مهمة كبيرة و خطيرة بلا شك، تدرك زينب خطرها و أهميتها بشكل واضح، بحكم قربها و اطلاعها علي مجريات الأمور في بيتها و معرفتها من آلت اليه الامامة بعد الحسين عليه السلام.

و لعل مهمة الحفاظ علي حياته لا تبدو مهمة للبعض بقدر ما بدت لزينب و هي تعلم حقا أنه الامام المرتقب و أنه أمل هذه الأمة المظلومة المضطهدة.


پاورقي

[1] المصادر السابقة.

[2] نفس المصادر السابقة.