بازگشت

قانون دولة الظلم


و عندما قدم ابن زياد الكوفة و هو متلثم، ظن الناس أنه الحسين عليه السلام فأقبلوا يسلمون عليه، (و قالوا: مرحبا بك يا ابن رسول الله، قدمت خير مقدم، فرأي من تباشيرهم بالحسين عليه السلام ما ساءه) [1] فهو لا يتحمل أن يزاحمه أحد في ملكه و حكومته، و بعد أن أقطعه يزيد الكوفة و جعله واليا مطلقا عليها من قبله.

و قد علموا فيما بعد، عندما دخل القصر، أن من سلموا عليه لم يكن سوي عبيدالله بن زياد (فدخلهم من ذلك كآبة و حزن شديد، و غاظ عبيدالله ما سمع منهم) [2] .

و في أول خطبة له فيهم لم يعد الي توجيه تهديداته القوية التي اعتاد توجيهها من قبل، و انما مزج اللين بالشدة، و لعله خاف أنه اذا ما كان عنيفا معه منذ الوهلة الأولي، فربما بكون رد فعلهم عنيفا أيضا، و ربما تمكنوا منه فقتلوه أو طردوه في أحسن الأحوال، و هكذا فانه خطب فيهم قائلا: (فان أميرالمؤمنين، يقصد يزيدا، أصلحه الله و لاني مصركم و ثغركم، و أمرني بانصاف مظلومكم و اعطاء محرومكم، و بالاحسان الي سامعكم و مطيعكم و بالشدة علي مريبكم و عاصيكم، و أنا متبع فيكم أمره و منفذ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم و مطيعكم كالوالد البر، و سوطي و سيفي علي


من ترك أمري و خالف عهدي، فليبق امرؤ علي نفسه، الصدق ينبي ء عنك لا الوعيد) [3] .

و عندما لم يجد رد الفعل السلبي الغاضب، و كأول تدبير وقائي، عمد الي (أخذ العرفاء و الناس أخذا شديدا، فقال: اكتبوا الي الغرباء، و من فيكم من طلبة أميرالمؤمنين، و من فيكم من الحرورية و أهل الريب الذين رأيهم الخلاف و الشقاق، فمن كتبهم لنا فبري ء، و من لم يكتب لنا أحدا، فيضمن لنا ما في عرافته، ألا يخالفنا منهم مخالف، و لا يبغي علنيا منهم باغ، فمن لم يفعل برئت منه الذمة، و حلال لنا ماله، و سفك دمه، و أيما عريف وجد في عرافته من بغية أميرالمؤمنين أحد لم يرفعه الينا، صلب علي باب داره، و الغيت تلك العرافة من العطاء، و سير الي موضع بعمان الزاره) [4] .

ان هذه التعليمات المشددة التي آثرنا نقلها كاملة هنا، تبين ان النظام الحاكم كان قد طور جهازه الاداري بحيث تتاح له فرصة تعيين موظفين مأجورين تابعين له مباشرة دون الرجوع الي رؤساء قبائلهم (عرفاء أو مختارين أو رؤساء محلات أو شرطة أو عيون، الخ) يقومون بضبط محلاتهم و مناطقهم و أماكن عملهم لمصلحة الدولة..

و كان من جملة تلك الأعمال تنظيم قوائم بأسماء كل المطلوبين و الغرباء و المشتبه بهم و هذا الأمر يتطلب ان يكون لكل عريف أو نقيب مجموعة من الشرطة أو العيون المتطوعين لقاء هدايا أو أجور معينة، و يتطلب أن يكون هذا العريف نفسه عينا للدولة في منطقته، تعلم عن طريقه كل ما تريد معرفته، و هو أسلوب متطور في قياس ذلك الزمن، و قد رأينا انه قد لجأ اليه عندما كان في البصرة، و قد أرسي ذلك الأسلوب من قبل معاوية و زياد.

و ما كان أحد ليلجأ اليه بالشكل الذي لجأ اليه من قبل لو كانت الدولة الاسلامية قد اخذت مسيرتها الصحيحة منذ البداية و ابتعدت عن خط الانحراف، و كانت الرقابة الطبيعية قد نمت - لا من قبل أناس مأجورين مرتزقة، يعملون وفق هواهم و مصالحهم و انما من قبل الناس أنفسهم؛ رقابة ذاتية، يري فيها كل مسلم نفسه مسؤولا عن الأمة كلها فيأخذ دوره الايجابي للحفاظ عليها و علي مكاسبها التي تتحقق في ظل الاسلام.


غير أن الدولة التي تريد تعزيز سلطانها و بسط نفوذها علي أساس غير اسلامي، و تدرك أنها غير شرعية حتي و لو ادعت ذلك، و تدرك مدي المعارضة الشعبية الواسعة التي تواجهها، تري أن الأسلوب الامثل لالزام الناس بالطاعة و الخضوع هو تشديد الرقابة عليهم، و قمع المعارضين باشد الاساليب وحشية و دموية و اللجوء الي أسلوب الرشوة و العطاء الكيفي، و هو ما فعلته الدولة الأموية بالضبط و أصبح سنة للدول التي جاءت بعدها.

و قد لجأ ابن زياد الي الدهاء و المكر اللذين طالما لجأ اليهما والده من قبل؛ فهو قد علم قبل مقدمه الكوفة أن أغلب الناس كانوا يميلون الي الحسين عليه السلام، و من لم يكن يميل اليه لم يظهر ذلك أمام الثورة الشعبية التي ظهرت بعد هلاك معاوية، فحينما دخل الكوفة، و ظن الناس أنه الحسين عليه السلام و رحبوا به، ثم شتموه بعد أن علموا من هو، رأي أن لا يؤاخذهم علي موقفهم ذاك و ان يتناسي كل موقف مناوي ء، له و لدولته... لأنه ان آخذهم في ذلك الوقت المبكر، فربما كان يفتح جبهة للحرب لم يكن عليه أن يفتحها الآن، و ما عليه الا أن يسكت و يطمئنهم الي أنه لم يعرف أحدا قد شتمه أو رفضه أو أراد الحاق الأذي به، و هكذا قال في صبيحة اليوم التالي عندما جلس علي المنبر و خطب في الناس: (اني لأعلم أنه قد سار معي و أظهر الطاعة لي من هو عدو للحسين حين ظن أن الحسين قد دخل البلد و غلب عليه، و و الله ما عرفت منكم أحدا) [5] .

لقد تبرع بتسجيل نقطة لصالحهم أراد التملق لهم بها و فتح باب الرجعة أمامهم... و أوجد لهم عذرا مقبولا لدي الدولة، انهم فعلوا ما فعلوه معه لأنهم ظنوا أن الحسين عليه السلام قد دخل الكوفة و استتبت له الأمور، و لو لم يكن الأمر كذلك لما مال احد اليه.!!

بهذا المنطق الملتوي الذي كان جديرا بمعاوية و زياد خاطبهم.

و بذلك طمأنهم و أتاح لهم الانتقال الي صفه، و هو ما تم له في النهاية.

ان أسلوب الدسيسة و المراقبة و التجسس، طالما نجح في كشف العديد من أعداء الدولة الأموية، و كان أسلوبا قديما متبعا في أنظمة الحكم الغابرة... و قد رأينا


خبرة معاوية بأساليب السياسات الفرعونية القديمة و كيف كانت الملوك تسوس رعيتها و تضبط شؤونهم، و لطالما لجأ أولئك الغابرون الي اعتماد المراقبين و الجواسيس و نشرهم بين الناس لرصد أقوالهم و تحركاتهم و نقلها اليهم.

و هو أسلوب لا يزال سائدا حتي اليوم و قد تطورت أنظمته و أساليبه الي حد بعيد.. غير أننا اذا ما لا حظناه في مطلع العهد الأموي نري أنه قد تطور بشكل هائل قياسا لما كان عليه في السابق، خصوصا و أنه لم يعتمد في الحكم الاسلامي الذي أراد الرقابة أن تكون ذاتية، و أن يقوم هذا المجتمع بنفسه برد كل منكر، و يقوم كل فرد بمراقبة نفسه و تقويمها و عرضها علي مبادي ء الاسلام في عملية (جهاد أكبر) مستمرة لا تنتهي الا بانتهاء حياة الانسان نفسه.

و قد دعا ابن زياد (مولي لبني تميم فأعطاه مالا، و قال له: انتحل هذا الأمر، و أعنهم بالمال و اقصد لهاني ء و مسلم و انزل عليه) [6] ، و قد نفذ الرجل مهمته بمهارة خبير متمرس و وصل اليها و أخبر زيادا بالامر، و واجه هاني ء بذلك أمام ابن زياد الذي استدرجه الي الجنود أمامه بعد أن آمنه، ثم نكل به و ضربه و حبسه، و قتله بعد أن قتل مسلم في نهاية المطاف.

و قد أتيحت لمسلم و هاني ء فرصة قتله في بيت ناني ء، الا أنهما أبيا ذلك لأسباب دينية بحتة، حيث روي أن مسلما نقل حديثا عن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم مفاده أن الغدر ليس من شيم المؤمنين؛ و قد أوضحنا ذلك في كتابنا «مسلم بن عقيل».

و قد رأينا حواره المتشنج مع مسلم و ادعاءاته الباطلة بأحقية يزيد و شرعية حكمه و شتمه أميرالمؤمنين و آل البيت عليهم السلام في كتب التاريخ و كما ذكرها الطبري.

و قد رأينا كيف أنه أقدم علي جريمة قتلهما بعد أن استتبت له الأمور و أيقين بخضوع أهل الكوفة و انصرافهم عن قضية مسلم، و كانت استجابتهم له قبل ذلك ربما


بدافع اعتقادهم بضعف الدولة الأموية التي مثلها أمامهم النعمان بن بشير الوالي الضعيف، و انهم اذ رموا به - أي بابن زياد نفسه -فقد تخاذلت الأغلبية منهم، كما ساعد علي ذلك قيام (الاشراف) بمهمة تخذيل الناس عن مسلم [7] و كما سنوضحه فيما بعد بصورة أكثر تفصيلا - بعون الله


پاورقي

[1] الطبري 281 / 3.

[2] المصدر السابق.

[3] المصدر السابق.

[4] المصدر السابق 281 / 3.

[5] المصدر السابق 282 / 3.

[6] ابن کثير 155 / 8 و الکامل في التاريخ ابن الأثير 389 / 3 و روي الطبري أن ابن ‏زياد اصدر اليه تعليمات مفصلة و قال له: (خذ ثلاثة آلاف درهم، ثم اطلب مسلم بن عقيل، و اطلب لنا أصحابه، ثم أعطهم هذه الثلاثة آلاف؛ فقل لهم: استعينوا بهاعلي حرب عدوکم، و أعلمهم انک منهم، فانک لو أعطيتها اياهم اطمأنوا اليک و وثقوا بک، و لم يکتموک شيئا من أخبارهم، ثم أغد عليهم ورح، ففعل ذلک، و ملاحظات ابن ‏زياد هذه ملاحظات خبير متمرس بامثال هذه المهمات التي يبدو أنه قام بالعديد منها فيما سبق... الطبري 283 / 3.

[7] و لخص ابن الأثير 394 - 393 / 3 دور الاشراف بتخذيل الناس عن مسلم عندما حاصر ابن ‏زياد في القصر... (فلما بلغ ابن ‏زياد اقباله تحرز في القصر و أغلق الباب و أحاط مسلم بالقصر و امتلأ المسجد و السوق من الناس، و ما زالوا يجتمعون حتي المساء. و ضاق بعبيدالله أمره و ليس معه في القصر الا ثلاثون رجلا من الشرط و عشرون رجلا من الأشراف، و أهل بيته و مواليه. و أقبل أشرف الناس يأتون ابن ‏زياد من الباب الذي يلي دار الروميين، و الناس يسبون ابن ‏زياد و أبيه فدعا ابن ‏زياد کثير بن شهاب الحادثي و أمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج فيسير و يخذل الناس عن ابن عقيل و يخوفهم، و أمر ابن الأشعث أن يخرج فيمن اطاعه من کنده و حضرموت فيرفع راية أمان لمن جاءه من الناس و قال مثل ذلک لابن شور الذهلي و شبث بن ربعي التميمي و حجار بن ابجر العجلي و شمر بن ذي الجوشن الضبابي و ترک وجوه الناس عنده استئناسا بهم لقلة من معه.

و خرج أولئک النفر يخذلون الناس، و أمر عبيدالله من عنده من الأشراف أن يشرفوا علي الناس من القصر فيمنوا أهل الطاعة، و يخوفوا أهل المعصية ففعلوا فلما سمع الناس مقالة أشرافهم أخذوا يتفرقون.