بازگشت

نظام جديد لملك جديد


بعد اقامته في خراسان سنتين من 53 حتي 55 ه، ولي البصرة و عاد بألفين من الجنود النجادية، نظم البصرة بنظام الاخماس و لجأ الي نظام العرفاء و الامناء و النقباء و الشرطة لضبط البصرة التي كانت توجد فيها حركة قوية للخواج.

و عندما دعا معاوية الناس الي بيعة يزيد ابنه و جعله وليا للعهد بعد ذلك بسنة و بعد وفاة زياد كان ابن زياد من أول الداعين الي ذلك و المندفعين اليه بحماس منقطع النظير و لعله كان يريد بذلك ازالة الأثر الذي تركه موقف زياد السلبي من مبايعة يزيد و معارضته لها.

و سنري كيف أن جهود معاوية قد أثمرت معه، اذ اندفع بعد أن أصبح يزيد رئيسا للدولة، الي أقصي حد ممكن لتثبيت عرضه مستعملا أكثر الوسائل دموية و وحشية لهذا الغرض، اذ كان الأمر في نظره يستحق ذلك، و كان عليه أن يبدو بمظهر الحريص الموالي لسيده المحب له، و قد قبض ثمن ذلك مسبقا و وعد بثمن آخر؛ دفعة أخري تضاف للدفعة الواسعة التي منحت له من قبل.

و كان يري الافادة من اقطاعيته الواسعة لأقصي حد ممكن، فرغم ما تظاهر به من جد و حماس في خدمة الدولة، الا انه كشأن أي حاكم لا يحمل تصورا اسلاميا صحيحا و لا ينطلق من رغبة الأمة و ارادتها و اختيارها، حاكم مستبد مطلق جعل سيفه و سوطه بديلين عن القانون الصحيح، تلوح له المتع الدنيوية السفلي هدفا بحد ذاتها، فما دام قد أخضع الجميع بهذا السيف فهو يري أن من حقه أن يجني ثمار نصره، مكاسب دنيوية عاجلة.

غير أنه أدرك أنه كان مرصودا من قبل الأمة الواعية المدركة، و أنه سيكون محل نقدها و سخطها اذا ما تمادي و أفرطي في سلوكه الفاحش، و كان له بيزيد عبرة، رغم أن قوة مركز يزيد التي أعدها معاوية من قبل تجعله بعيدا عن التعرض للنقد و التجريح، خصوصا و أنه بدا بعد الاقدام علي الجريمة التي ارتكبت في الطف بحق الامام


الحسين و أصحابه عليهم السلام، أقوي مما كان في السابق، رغم أن الثورة حملت معها بذور الموت للنظام كله و جعلت الأمة تدرك فداحة خسارتها اذا تستسلم للنظام الأموي ذلك الاستسلام المهين، و تفكر بجدية للخلاص منه بعد ذلك، و يظل تفكيرها الجدي قائا أمام كل نظام منحرف بعد ذلك، و ان ادعي الاسلام و حكم باسمه.

و قد عمر ابن زياد (البيضاء)، و هو قصر بناه في البصرة، و كان فيها تصاوير الحيوانات كالاسد و الكلب و الكبش، و يزعمون أنه لما تم بناؤها أمر و كلاءه ألا يمنعوا أحدا من دخولها و يسمعوا رأي الناس بشأنها، و لعله أراد أن يتباهي امام جماهير البصرة بما أبدعه مجتمع الترف الذي تصدر سدة الحكم [1] و قد زعم أنه انفق عليها ألف ألف أرسلها اليه يزيد. [2] .

و بتعميره (البيضاء) و تزيينه ياها برسوم الحيوانات في بيئة لم تشتهر بالبناء و الرسم، كان ابن زياد يحسب أنه قد حقق أمنية كبيرة، و أصبح من حقه أن يلفت الأنظار المشدوهة بهذا الأمر الذي كان يريد أن يمتاز به و يسجل به تفوقا علي الآخرين، و لا نحسب أنه كان الوحيدة في هذا الأمر، فظاهرة الترف كانت قد بدأت تشيع قبل ذلك بأعوام عديدة، و بدأ افراد حتي ممن حسبوا علي الصحابة باقتناء الدور و القصور و الظهور بأبهة لم تكن مألوفة عند العرب خصوصا.

أما في أيام يزيد، فقد كان عمال الدولة و رجال الحاشية و الحكم يتسابقون في


التشبه بحياة سيدهم، كما بينا ذلك في مكان آخر من هذه الدراسة، و كان الولاء ليزيد يبدو في بعض وجوهه، أن يعيشوا حياة يزيد (و غلب علي يزيد و عماله ما كان يفعله من الفسوق، و في أيامه ظهر الغناء بمكة و المدينة، و استعملت الملاهي و أظهر الناس شرب الشراب) [3] و هو أمر طبيعي أن يفعل الجميع ذلك ممن لم يتحصنوا بحصانة الاسلام، ما دام (خليفة المسلمين) نفسه قد تمادي فيه لأبعد حد.

كان ابن زياد صاحب لهو و رهان علي الخيل كما روي لنا الطبري عن عيسي بن عاصم الأسدي قال: (ان ابن زياد خرج في رهان له، فلما جلس ينتظر الخيل اجتمع الناس و فيهم عروة بن أدية، أخو أبي بلال، فاقبل علي ابن زياد فقلا: خمس كن في الأمم قبلنا، فقد صرن فينا (أتبنون بكل ربع ءاية تعبثون و تتخذون مصانع لعلكم تخلدون و اذا بطشتم بطشتم جبارين) [4] و خصلتين أخريين لم يحفظهما جرير [أحد ناقلي الخبر]، فلما قال ذلك ظن ابن زياد أنه لم يجتري ء علي ذلك الا و معه جماعة من أصحابه، فقام و ركب و ترك رهانه، فقيل لعروة: ما صنعت؟ تعلمن و الله ليقتلنك، فتواري، فطلبه ابن زياد، فأتي الكوفة فأخذ بها، فقدم به علي ابن زياد، فأمر به فقطعت يداه و رجلاه، ثم قتله و أرسل الي ابنته فقتلها) [5] .

كان ذلك سنة 58 أي قبل هلاك معاوية و استخلاف يزيد بسنتين، و من الرواية السابقة نعلم أن ابن زياد صاحب رهان و لهو، و أنه كان يعد حلبات لسباق الخيل تجتمع فيها الناس، و هو أمر ربما بدا شائعا و ربما رافقته ضروب من الملاهي الأخري، و تدل الرواية علي خوف ابن زياد و جبنه عند ما هرب من ابن أدية الخارجي حينما تصور أن معه جماعة من أصحابه.

كما تدل علي قسوته المتناهية و ولعه بالتمثيل بجثث ضحاياه، و اقدامه حتي علي قتل النساء.

و كان صاحب شراب رغم تظاهرة بغير ذلك، و قد رأينا كيف أنه كان من حاشية يزيد قبل تولية علي خراسان و البصرة، و يزيد كما هو معلوم مشهور بالادمان علي الشراب، كما رأينا كيف كان يجلس مع يزيد بعد مقتل الامام عليه السلام و يزيد ينشد أبياتا


من الشعر، يحث فيها ساقية علي أن يسقيه شربة تروي مشاشه و يسقي ابن زياد شربة مثلها، فهو صاحب السر و الأمانة و مساعدة لتسديد مغنمه و جهاده، فقد (جلس ذات يوم علي شرابه و عن يمينه ابن زياد، و ذلك بعد قتل الحسين، فأقبل علي ساقيه فقال:



اسقني شربة تروي مشاشي

ثم مل فاسق مثلها ابن زياد



صاحب السر و الأمانة عندي

و لتسديد مغنمي و جهادي



ثم أمر المغنين فغنوا به) [6] .


پاورقي

[1] و قد روي الجاحظ في البيان و التبيين 18 - 4 قال: (لما بني عبيدالله بن زياد البيضاء، کتب رجل علي باب البيضاء: «شي‏ء و نصف شي‏ء، و لا شي‏ء. الشي‏ء: مهران الترجمان، و نصف شي‏ء هند بنت أسماء [و هي زوجته ثم زوجة الحجاج فيما بعد] و لا شي‏ء: عبيدالله بن زياد....) و لعل الرجل کان يعني أمورا عديدة، اذ يري دناءة نسب ابن ‏زياد و سيطرة مهران عليه سيطرة تامة... و ورد في الهامش أن البيضاء دار عمرها عبيدالله بن زياد بن أبيه بالبصرة، يزعمون أنه لما تم بناؤها أمر وکلاءه، الا يمنعوا أحدا من دخولها و أن يتحفظوا کلاما ان تکلم به أحد، فدخل فيها أعرابي - و کان فيها تصاوير - ثم قال: لا ينتفع بها صاحبها، و لا يلبث فيها الا قليلا، فأتي به ابن ‏زياد و أخبر بمقالته، فقال له: لم قلت هذا؟ قال: لأني رأيت فيها أسدا کالحا، و کلبا نابحا و کبشا ناطحا، فکان الأمر کما قال، و لم يسکها الا قليلا حتي أخرجه أهل البصرة الي الشام، و لم يعد اليها، معجم البلدان.

[2] الطبري 374 / 3.

[3] العقد الفريد 82 - 5.

[4] سورة الشعراء 130 - 128.

[5] الطبري 254 / 3.

[6] مروج الذهب 82 / 3.