بازگشت

بين لذة الحكم و الخوف من فقدان الامتيازات


كانت لذة الحكم و الامتيازات التي يتحيها السلطان المطلق هي الحلم النهائي الكبير الذي يحلم به ابن زياد، و قد رأي أن الاستسلام للسلطان يهون بجنب تحقيق حلمه ذاك، فما قيمة أن يخضع ليزيد و هو يري جميع الناس خاضعين له...؟ ان تفكيره الذي ينصب علي المتطلبات الدنيوية و حسب، و لا يحسب أي حساب لسلطان آخر، هو السلطان الوحيد و الباقي بعد فناء كل شي ء، و هو الله سبحانه و تعالي، قد دار في محيط دنيا سيده الذي لم يعرف الله بدوره أيضا. و من هنا كان حرصه علي السلطان و ما يتيحه له من حياة مرفهة، و من هنا كان خوفه الدائم من زواله، لأنه عندها سيفقد كل رصيده في الحياة التي عاشها و سيواجه أمرا، ان لم يكن متيقنا منه حتي الآن، فانه محتمل جدا و هو الحساب العسير أمام الله، و رغم أنه يحاول أن يتناسي هذا و ينكره الا أن هاجسا ما يظل يقلقه خصوصا و أنه يتظاهر بعبادة الله و يحكم في جهاز للحكم جعل من الاسلام عطاء شرعيا له وادعي وحدانية الله و خلافة رسوله صلي الله عليه وآله وسلم.

(قال عبيدالله بن زياد، و كان خطيبا، علي لكنة كانت فيه: «نعم الشي ء الامارة لو لا قعقعة البرد و التشزن للخطب» [1] .


و كان محقا - من وجهة نظره - بهذه المخاوف لأن الامارة أتاحت له امتيازا علي سائر الناس، فهو لم يحكم في ظل دولة اسلامية حقه ليكون له ما لهم و عليه ما عليهم و انما كان يحكم في ظل دولة الظلم و الانحراف، و كان يحكم مساحة واسعة صنعت قبيل انتهاء حكم يزيد (العراق و سجستان و خراسان و البحران و عمان).

و هو أول من عرف العرفاء [2] و دعا النقباء، و نكب المناكب [3] و حصل الدواوين، و مشي بين يديه بالعمد [4] و وضع الكراسي، و عمل المقصورة، و لبس الزيادي، و ربع الارباع بالكوفة، و خمس الأخماس بالبصرة، و أعطي في يوم واحد للمقاتلة و الذرية من أهل البصرة و الكوفة، و بلغ بالمقاتلة من أهل الكوفة ستين ألفا، و مقاتلة البصرة ثمانين الفا، و الذرية مائة ألف و عشري الفا، و ضبط زياد و ابنه عبيدالله العراق بأهل العراق) [5] .

(و أخبرنا مسلمة أن النجارية الذين قدم بهم عبيدالله بن زياد البصرة الفان، كلهم جيد الرمي بالنشاب) [6] .

و يصح اعتبار ابن زياد، من وجهة نظر غير المسلمين و أولئك الذين لا يتبنون النظرية الاسلامية في الحياة و الحكم حتي و ان كانوا متجنسين به رسميا، رجل دولة من الطراز الأول، فهو قد استحدث أساليب تضمن بقاء النظام القائم و استمراره.

و كان معني الاكثار من المقاتلة و استخلاص الحرية لحمايته الشخصية و لضبط الأمور في البصرة و تربيع الارباع في الكوفة و تخميسها في البصرة أيضا، ما يدل علي مواهب و استعدادات للقيادة الجيدة و ارساء نظام حكم مستمر و مستقر، أما علي أي شي ء يقوم نظام الحكم هذا و لماذا تراد استمراريته فهو ما ينبغي مناقشة هؤلاء به، فنحن كما قلنا لا نتناول دولة جاهلية في أيام الرومان أو الفرس و لا نتناول دولة علمانية حديثة، تلجأ الي هذه الأساليب و غيرها لغرض تقوية نفوذ هذه الدولة و سلطانها و جيشها، و هو ما يبدو بحد ذاته هدفا و غاية لزعيم هذه الدولة و أركان حكومته، و انما


نتناول دولة يفترض أن تكون في كل توجاتها و غاياتها و أساليبها دولة اسلامية حقا، و هذه نقطة دقيقة ينبغي الالتفات اليها منذ البداية اذا ما أريد بحث أمثال هذه المواضيع.

يراد ابن زياد تقوية الدولة، لكن هل الدولة الاسلامية المحمدية الحقة؟ أم الدولة الفرعونية...؟ و هل حارب أعدائها و استعد لهم بجيش قوي لأنهم أعداء الاسلام أم لأنهم أعداء رئيس الدولة و أعداء حاشيته و عماله و مزتزقته؟.

هل حارب الحسين عليه السلام و قتله لأن الحسين عليه السلام لم يكن يجسد الخط الرسالي الحقيقي للاسلام و لجده رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم أم لأنهم كان يريد ازالة دولة الظلم و الانحراف و اعادة الأمور الي مجاريها؟

و حتي الخوارج الذين حاربهم ابن زياد، هل فعل ذلك لأنه كان يختلف معهم عقائديا و يخشي منهم علي الاسلام أم لأنهم أعداء دولته؟

و هل تلك (البطولات) التي سيتحدث عنها كل أولئك المنخدعين بشخصيته و مواقفه، و التي أبداها بمواجهة الخوارج كانت نتاج غيرة حقيقية علي الاسلام أم نتاج خوف من زوال سلطته هو و امتيازاته التي حصل عليها في ظل تلك السلطة؟

لقد اتخذ اجراءات عديدة لحمايته الشخصية من أعدائه المحتملين.

انه قسم البصرة و الكوفة وفق نظام مستحدث يكفل اقامة توازن فيهما يضمن سيطرته التامة عليهما و من ثم سيطرة سيده قائد و زعيم دولة الظلم و الانحراف.

علينا أن نفتش عن الدوافع من وراء أعماله قبل أن نكون مبهورين بتلك الأعمال علي اعتبار أن أية دولة ستلجأ اليها لتقوية نظامها و الحفاظ علي أمنها و وحدتها.

و كان ابن زياد حريصا علي تحسين صورته الشخصية و لو علي حساب الدولة التي يحكم فيها كقائد مرموق و علي حساب الأمة المظلومة التي سلبت مكاسبها في ظل دولة الظلم.

كان يري نفسه أهم من بضعة ملايين من المسلمين، بل من كل ملايين المسلمين الذين كانوا تحت حكمه و حكم سيده، و لم يكن يتحرج من تنصيب موظفيه مهما كان سلوكهم و استهتارهم معلنا، و لعله و جد في استهتار قائد الدولة نفسها مبررا لتنصيب أحد المشهورين بشرب الخمر أو من الذين يدمنون الشراب واليا علي دام هرمز و هي بلد بولاية خوزستان، لمجرد أنه كان نديما لأبيه زياد فيما مضي و كان زياد عنه راضيا، و هذا ما توضحه الرواية:


(لما ولي عبيدالله بن زياد بعد موت أبيه، أطرح حادثة بن بدر [7] و جفاه، فقال له حادثة: مالك لا تنزلني المنزلة التي كان ينزلني أبوك؟ أتدعي أنك أفضل منه أو أعقل؟ قال له: ان أبي كان برع في الفضل بروعا لا تضره صحبة مثلك، و أنا حدث أخشي أن تحرقني بنارك [8] فان شئت فاترك الشراب و تكون أول داخل و آخر خارج.

قال: و الله ما تركته لله فكيف أتركه لك؟

قال: فتخير بلدا أوليكه؟ فاختار سدق [9] من أرض العراق - فولاه اياها -. فكتب اليه أبو الأسود الدؤلي و كان صديقا له: [10] .



أحار بن بدر قد وليت ولاية

فكن جرذا فيها تخون و تسرق



و باه تميما بالغني، ان للغني

لسانا به المرء الهيوبة ينطق



و ما الناس الا اثنان اما مكذب

يقول بما يهوي و أما مصدق



يقولون أقوالا و لا يحكمونها

فان قيل يوما حققوا لم يحققوا



فدع عنك ما قالوا و لا تكثرت بهم

فحظك من مال العراقين سدق



فوقع في أسفل كتابه: لا بعد عليك الرشد. [11] .

و واضح من تهكم أبي الأسود الدولي أو أنس بن أنيس أن المجتمع كان يرصد حالات المخالفة التي يقوم بها رجال السلطة الكبار أمثال يزيد و ابن زياد و يراقب تصرفاتهم و لكن لا يملك منعها أو الحد منها و يكتفي بموقف التفرج منها.

ان جيلا قديما مثل جيل أبي الأسود عاصر الرسول صلي الله عليه وآله وسلم و عاش في عهد أميرالمؤمنين عليه السلام لا يستطيع أن يفهم كيف أن سكيرا يصر علي عصيانه - رغم معرفته بذلك - يولي علي بلد اسلامي لأن به شرابا وصف له، و يتم الأمر و كأنه مسألة عادية


كانت تتم من قبل في دولة الاسلام الأولي، و أن الأمر لا يدعو برمته الي القلق أو التذمر بأي حال من الأحوال.

و لنتذكر ثانية أننا نتحدث عن دولة (اسلامية) يحكمها (خليفة) ينوب عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم نفسه، أو هكذا يفترض فيه أن يكون.


پاورقي

[1] البيان و التبيين 135 - 134 / 1 و البرد جمع بريد واصل البريد الدابة ثم جعل للرجل، و في هامش النسخة «و انما قال هذا لأن الوالي لا يدري بما يأتيه (البريد) من خير أو شر، فهو يجزع لرؤيته و يخاف».

[2] العرفاء: جمع عريف، و هو القيم بأمر القوم و سيدهم.

[3] المناکب: جمع منکب و هو عريف القوم.

[4] العمد: جمع عمود.

[5] العقد الفريد 270 / 5.

[6] الطبري 244 / 3.

[7] و کان شاعرا أدبيا ظريفا يعاقر الشراب و يصحب زيادا.

[8] و روي المبرد انه قال له: (فمتي قربتک فظهرت رائحة الشراب منک لم آمن أن يظن بي) الکامل في الأدب 215 / 1.

[9] قال له حادثة: توليني رام هرمز فانها أرض عذاة (الأرض الطيبة)، و سدق فان بها شرابا وصف لي، فولاه اياهما. الکامل في الأدب 215 / 1.

[10] و ذکر المبرد في الکامل ان الذي قالها أنس بن أنيس 215 / 1.

[11] العقد الفريد 374 - 373 / 2 و الکامل في الأدب 214 / 1.