بازگشت

بين معاوية و ابن زياد


محاورات و مداولات لقد انتدب يزيد ابن زياد لمهمة التصدي للحسين عليه السلام و قمع الثورة التي بدأت تلوح ضد النظام الأموي المنحرف، و كان يعلم أنه سيستجيب له استجابة ذليلة، و سيعمل علي ارضائه كما يعمل العبد علي ارضاء سيده، و قد وضعه أمام محك صعب اختبر فيه اخلاصه و طاعته التي لم تكن موضع شك في أي حال من الأموال.

كان ابن زياد بنظر معاوية رجل الدولة الناجح الذي يمكن أن يقف خلف ابنه يزيد و يدعم ملكه بعد أن يودعه هو و يتركه وحيدا لادارة شؤون أكبر أمة و أكبر دولة في ذلك الحين.

و لم يكن عبثا أن يرسله زياد اليه، فهو كان يريد أن يعهد اليه معاوية بامارة من اماراته العديدة الممتدة علي أكثر بقاع الأرض.


و قد رويت لنا قصص عديدة نري من مجملها أن معاوية أراد منذ البداية مساومة ابن زياد و شراءه بعقد لا رجعة فيه.

روي لنا الطبري عن مسلمة بن محارب و محمد بن ابان القرشي، قالا:

(لما مات زياد، وفد عبيدالله الي معاوية فقال له: من استخلف أخي (يقصد زياد) علي عمله بالكوفة؟ قال: عبدالله بن خالد بن أسيد، قال: فمن استعمل علي البصرة؟ قال: سمرة بن جندب الفزاري: فقال له معاوية: لو استعملك أبوك استعملتك.

فقال له عبيدالله: أنشدك الله أن يقولها الي أحد من بعدك: لو ولاك أبوك و عمك وليتك.

فلما قال له عبيدالله ما قال ولاه خراسان، ثم قال له حين ولاه:

«اذا عزمت علي أمر فأخرجه للناس، و لا يكن لأحد فيه مطمع، و لا يرحض عليك و أنت تستطيع، و سار عبيدالله الي خراسان في آخر سنة ثلاث و خمسين و هو ابن خمس و عشرين سنة من الشام، و عليه عمامة و كان وضيئا، و الجعد بن قيس ينشده مرئية زياد). [1] .

و ربما كان ابن زياد يري أن معاوية سيجعله مكان أبيه حتما و ربما لم يكن عنده شك بذلك، الا أن جواب معاوية جعله يدرك أن بالامكان اهماله، و هو ما جعله يتنازل الي الحد الذي يستعطف فيه معاوية لتوليته و تكليفه بالامارة، و هذا ما أتاح لمعاوية أن يجعله متفانيا في خدمته و ارضائه بشتي السبل.

و لعل الذي يؤيد هذا الرأي ما رواه الاندلسي عن ابن دأب قوله:

(لما قدم عبيدالله بن زياد علي معاوية بعد هلاك زياد، فوجده لاهيا عنه، انكره، فجعل يتصدي له بخلوه ليسبر من رأيه ما كره أن يشكر به عمله، فاستأذن عليه بعد انصداع الطلاب و اشغال الخاصة و افتراق العامة، و هو يوم معاوية الذي كان يخلو فيه بنفسه، ففطعن معاوية لما أراد، فبعث الي ابنه يزيد و الي مروان بن الحكم و الي


سعيد بن العاص، و عبدالرحمن بن الحكم و عمرو بن العاص، فلما اخذوا مجالسهم أذن له، فسلم و وقف واجما يتصفح وجوه القوم ثم قال: أما بعد يا أميرالمؤمنين، فقد عسف بنا ظن فرع، و فزغ صدع، حتي طمع السحيق، و بئس الرفيق، و دب الوشاة بموت زياد فكلهم متحفز للعداوة... و قد شمر عن أعطافه ليقول: جني زياد بما استلحق به، و ولي علي الدنية من مستلحقه، فليت أميرالمؤمنين سلم في دعته، و أسلم زيادا في صنعته، فكان ترب عامته و واحد رعيته، فلا تشخيص اليه عين ناظر و لا أصبع مشير، و لا تزلق عليه السن كلمته حيا و نبشته ميتا، فان تكن يا أميرالمؤمنين حابيت زياد بولاء رفات، و دعوة أموات فقد حاباك زياد بجد هصور و عزم جسور، حتي لانت شكائم الشرس، و ذلت صعبة الأشوس، و بذل لك يا أميرالمؤمنين يمينه و يساره، تأخذ بهما المنيع و تقهر بهما البزيع، حتي مضي و الله يغفر له، فان يكن زياد أخذ بحق فانزلنا منازل الأقربين يا أميرالمؤمنين، نمشي الضراء و ندب الخفاء، و لنا من خيرك أكمله، و عليك من صوبنا أثقله، و قد شهد القوم، و ما ساء في قربهم ليقروا حقا، و يردوا باطلا، فان للحق منارا واضحا، و سبيلا قصدا، فقل يا أميرالمؤمنين بأي أمريك شئت، و لا نستكثر بغير حقنا...

فنظر معاوية في وجوه القوم كالمتعجب، فتصفحهم بلحظة رجلا رجلا، و هو متبسم، ثم اتجه تلقاءه و عقد حبوته و حسر عن يده و جعل يومي بها نحوه، ثم قال معاوية:

قد صفقت يداي في أبيك صفقة ذي الخلة من ضوارع العضلان، عامل اصطناعي له بالكفر لما أوليته، فما رميت به الا انتصل، و لا انتضيته الا غلق جفنه، و زلت شفرته، و لا قلت الا عاند، و لا قمت الا قعد، حتي اخترمه الموت، و قد أوقع نجتره، و دل علي حقده، و قد كنت رأيت في أبيك رأيا حضره الخطل، و التبس به الزلل، فأخذ مني بخط الغفلة، و ما أبري ء نفسي، ان النفس لأمارة بالسوء، فما برحت هناة أبيك تحطب في جبل القطيعة حتي انتكث المبرم، و انحل عقد الوداد، فيا لها توبة تؤتنف من حوبه أورثت ندما أسمع بها الهاتف و شاعت للثامت، و اراك تحمد من أبيك جدا و جسورا، هما أوفيا به علي شرف التقحم، و غمط النعمة فدعهما فقد اذكرتنا منه ما زهدتنا فيك من بعده، و بهما مشيت الضراء، و دببت الخفاء، فاذهب اليك، فأنت نجل الدغل و عترة النغل و الأخرش.


فقال يزيد: يا أميرالمؤمنين، ان للشاهد غير حكم الغائب، و قد حضرك زياد، و له مواطن معدودة بخير، لا يفسدها التظني، و لا تغيرها التهم، و أهلوه أهلوك، التحقوا بك و توسطوا شأنك، فسافرت به الركبان، و سمعت به أهل البلدان، حتي اعتقده الجاهل، و شك فيه العالم، فلا يتحجر يا أميرالمؤمنين ما قد اتسع و كثرت فيه الشهادات، و أعانك عليه قوم آخرون.

فانحرف معاوية الي من معه فقال: هذا، و قد نفس عليه ببيعته (يقصد رفض زياد بيعة يزيد)، و طعن في امرته، يعلم ذلك كما أعلمه، يا للرجال من آل أبي سفيان! لقد حكموا و بذهم يزيد وحده.

ثم نظر الي عبيدالله فقال: يا ابن أخي، اني لأعرف بك من أبيك، و كأني بك في غمرة لا يخطوها السابح، فالزم بان عمك، فان لما قال حقا.

فخرجوا، و لزم عبيدالله يزيد يرد مجلسه و يطأ عقبه أياما، حتي رمي به معاوية الي البصرة واليا عليها، ثم لم تزل توكسه أفعاله حتي قتله الله بالخازر. [2] .

و ربما كانت هذه واحدة من مسرحيات معاوية العديدة التي اعتاد حبكها بمهارة منقطعة النظير و اخراجها اخراجا فنيا عالي الأداء، و هي لا تقل عن مسرحية استخلاف يزيد التي حشد لها كل طاقات الدولة و امكاناتها.

فهو كان يدرك مكامن الخطر علي يزيد من بعده، و يدرك أنها قد تكون في العراق أو في الحجاز أو حيث يكون الامام الحسين عليه السلام بالدرجة الأولي، أو ابن الزبير كمنافس محتمل مكشوف العداوة طالب للامارة و الملك، أو من منافسين محتملين قد يبدون أمام الأمة أكثر لياقة من يزيد و ان لم يعبروا عن طموحهم بهذا الشأن مثل مروان بن الحكم أو سعيد بن العاص أو عبدالرحمن بن الحكم أو عمرو بن العاص أو حتي ابن زياد نفسه الذي كان يري نفسه أكثر مؤهلات من يزيد..

و لم تكن هناك جرأة علي الدم أكثر من تلك التي امتكلها زياد و ابنه، كما صدقت فيه فراسة معاوية فيما بعد. و قد أراده أن يكون خادما مطيعا دائم الولاء ليزيد يشد به ازره ضد أية قوي معارضة، سواء كانت من خصومه المعروفين أو من المحتملين حتي من أصدقاء اليوم الذين يشكلون حاشيته و مستشاريه و خاصته.


و لنستعرض المسرحية باختصار.

ابن زياد يلاحق (عمه) معاوية الذي تظاهر بالانشعال عنه متعمدا، ليكتشف حقيقة نواياه بشأن توليته أحد مناصب الدولة، و ينجح بعد محاولات في ذلك.

و معاوية يحضر مجلسه ذاك ابنه يزيد و بعض خاصته و هم مروان بن الحكم و سعيد بن العاص و عبدالرحمن بن الحكم و عمرو بن العاص، و يشير لابن زياد لكي يعرض قضيته.

يبدأ ابن زياد الكلمة التي كان يبدو أنه قد أعدها بعناية فائقة، و أكد فيها علي دوافع معاوية لاستلحاق زياد بنسبه التي كانت المصلحة الشخصية في مقدمتها، و لو لم يكن الأمر كذلك لقرب أولاده و أنالهم ما أناله من مراكز و مناصب و عز، و أشاد بزياد والده، كأحد الذين أقاموا صروح الدولة الأموية القائمة، و أياديه حتي علي معاوية نفسه.

و يبدو أن معاوية كان يحتمل ما سوف يقوله ابن زياد، و لعله دس عليه من يتسمع منه ذلك و يأتيه بأخباره، فأعد ردا مناسبا تهجم فيه علي زياد، و اشار الي انه قد أخطأ باستلحاقه اياه، و ان زيادا قد الحق الضرر به أكثر مما أفاده.

و ان عبيدالله بسعيه هذا في مدح أبيه قد الحق بقضيته الضرر، أكثر مما أفادها و بشكل استفز معاوية و جعله يدعوه بنجل الدغل و عترة النغل.

كانت غضبة معاوية المفتعلة، ربما منعت الآخرين عدا يزيد - الذي أعد له أبوه دوره بعناية أيضا - من التدخل لتلطيف الجو.

من تدخل لصالح ابن زياد هو يزيد فقط، و قد أراد معاوية أن يثبت أن يزيد هو الوحيد الذي وقف الي جانبه في هذا الموقف الدقيق الذي امتنع فيه الآخرون عن مساعدته.

كانت غضبة معاوية تحذيرا لكل من أراد منافسة يزيد أو فكر بها، و كان وضعه ابن زياد الي جانب يزيد عندما أو صاه أن يلزمه تحذيرا آخر بالمزيد من حمامات الدم يدقم عليها ابن زياد بأوامر مباشرة من يزيد الذي كانت له اليد الوحيدة بابقائه و منحه المزيد من الامتيازات، و أنه لن يحجم حتما حتي عن التفوق في مجال سفك الدماء علي زياد نفسه.

و قد رأينا عهد معاوية المكتوب بعد ذلك و توصيته أن يقوم ابن زياد بالجريمة التي خطط لها قبل ذلك.


و لعل معاوية أراد لهذه الرواية أن تنتشر لتحسن صورة يزيد في أذهان الناس.. فرغم أن معاوية اشتهر بحلمه المعروف، الا أن يزيد كان يبدو هنا أنه أكثر حلما منه و أنه كان يعد مفاجآت عديدة ستبرز في المستقبل اذا ما أتيحت له فرصة الامساك بالحكم.

و هناك العديد من الحوادث التي حاول فيها معاوية اظهار يزيد و كأنه الرجل الوحيد الصالح لحكم الدولة الاسلامية.

و حسبنا من المسرحية كلها هذه الجملة الوحيدة من معاوية، عندما خاطب ابن زياد قائلا: (فالزم ابن عمك، فان لما قال حقا)، كان ثمن ما قاله يزيد ان يظل عبيدالله في خدمته عبدا مطيعا علي الدوام.


پاورقي

[1] الطبري 243 - 242 / 3 فيکون عمره عام 61 و هي السنة التي أقدم فيها علي جريمة قتل الحسين و أصحابه ثلاثة و ثلاثين عاما. لا کما ذکر بعض الباحثين أن سنة في ذلک العام کانت احدي و عشرين سنة..

[2] العقد الفريد 175 -172 / 4.