بازگشت

تنوع الاتجاهات


11- في مجتمع غير متجانس عرقيا و اجتماعيا و دينيا، مع ان الذين السائد هو الاسلام و الجنس السائد هم العرب، تبرز ظواهر صراع و اختلاف و عصبية، و يسهل النفاذ الي أدق مفاصل هذا المجتمع و عناصره بمساعدة العناصر الأخري التي لا يستطيع أحد أن يحكم بتوحد مصالحها و اتجاهاتها.

فقد ضم مجتمع الكوفة عرب اليمن و هم الأغلبية، كما أوضحنا من قبل، و عرب الجزيرة من القرشيين و البدو و نصف المتحضرين و المتحضرين العرب المسلمين و النصاري و اليهود، و منهم الفرس من المسلمين و غيرهم، و كانوا أكبر جالية سكنت الكوفة و ربما بلغ عددهم نصف عدد سكانها فيما بعد، و الانباط و السريان و غيرهم أيضا.

و كان من ضمن المسلمين أعوان الدولة الأموية و موالوها و حزبها، و الخوارج، و موالو آل البيت.

كانت الكوفة مركزا لأكبر تجمع في ظل الاسلام، شاركت فيه تلك الاعداد الهائلة لدوافع و أهداف مختلفة، و قد رأينا السبب الذي من أجله أقيمت الكوفة كحامية ضمت محاربي الاسلام و كيف توسعت و انضم اليها من رأي أن مصلحته تقتضي العيش في هذه المدينة التي بدا انها تحتاج الي خدمات عديدة، و أن جيوب أبنائها تحتاج الي أن تنفق ما ملئت به من ذهب أو فضة.

في مجتمع كهذا تتولد حالات هجينة و عادات غريبة و قيم غير مألوفة و انماط غير معروفة من السلوك و التعامل، في مجتمع شهد ازدهارا نسبيا في الحياة الاقتصادية و تغييرا في الحياة الاجتماعية، و كان بشكل عام لا يخضع لتوجهات الدولة و ارادتها، و لذلك رأت هذه الدولة ضرورة اخترافة و التغلب عليه، و قد فعلت ذلك بتشجيعه علي اظهار كل ممارساته السلبية كالعصبية و تبني مواقف دولة الظلم و الانخراط في وظائفها العامة كالعرافة و الشرطة مرتزقة و مأجورين.

و لو أننا تتبعنا طبيعة التركيبة الاجتماعية لأهل الكوفة - عند ورود مسلم اليها - لرأينا أن عموم الناس فيها من غير المؤثرين، و من الذين يميلون مع كل ريح و ينعقون


مع كل ناعق، و هم طبقة السذج و البسطاء و عوام الناس الذين لا يحملون أدني شعور بالمسؤولية و ينجرفون مع الاحداث و صناعها و يميلون مع أهوائهم و رغباتهم، ان من هؤلاء و رغباتهم، منهم طبقة، مستضعفة مسحوقة مضطهدة لا تتاح لها وسائل العيش الكريم أو وسائل التعبير عن احاسيسها و رغباتها و آرائها.

أما اشرف الناس و رؤساؤهم و الذين يقفون في قمة المجتمع و يطمحون باضافة شرف الي شرفهم بالتقرب من الطبقة الحاكمة العليا، و لأن هذا الشرف مرهون بموقفهم منها فعلا فهم يتسابقون الي خدمتها، و هؤلاء خليط من رؤساء القبائل و الشرطة و العرفاء و الحاشية و الاثرياء و أبناء الأثرياء و الوجهاء و قادة الجيش و أبناء المتنفذين و ذوي الجاه القديم و الصيارفة و المحتالين و اللصوص و الجواسيس و غيرهم.

ان أكثرهم شرفا وجاها يري أن مركزه أقل من مركز أي نديم لقائد الدولة أو صعلوك اصطفاه و كيله في الكوفة ليكون عينا له أو شرطيا في خدمته أو عريف يحصي علي الناس حركاتهم و سكناتهم.

كانت عروش الاشراف كارتونية ضعيفة تدافعت و تزاحمت تحت عرش واحد رأته جديرا بالخدمة هو عرش الحاكم، و عرشه فقط.

و هكذا جاء تساقطهم السريع بين براثنه و تسابقهم لخدمته دون أي حساب لمقومات الشرف الحقيقي الي يحث عليه الاسلام.

و رأس السلطة في الكوفة كما رأينا هو ابن زياد، و قد جاء خلفا للنعمان بن بشير خصيصا لقمع ثورتها ضد الدولة، و يكاد يكون (مهران)خادمه و مستشاره و مربيه و وزيره في نفس الوقت.

و لا ننسي هنا أن نشير الي وجود فئة مؤثرة واعية و قوية، غير أنها ربما تجبر علي الصمت في ظل أوضاع و ظروف استثنائية قاسية، و ربما كانت هذه من بين فئة العوام المسحوقين المضطهدين أو رؤساء القبائل أو الوجهاء المتنفذين، غير أنها كانت تتمع بقدر من الحس و الادراك و الوعي و العم مما جعلها قادرة علي تقييم موقف الدولة برمته و الوقوف منه الموقف المناسب، تلك الدولة التي سيطرت علي الأمة فسلبتها حقوقها و تصدت للأمة الحقيقين عليهم السلام و أعلنت الحرب عليهم،


و هكذا كانت هذه الفئة غالبا ما تلجأ الي اثارة الناس علي الحكم الظالم و تدعو لآل البيت عليهم السلام و نهجم في الحكم و الحياة.

و قد شهدنا نماذج عديدة من هؤلاء ذهبوا في ذلك الي حد الاستشهاد، رغم أن الدولة لم تستطع أن تفعل شيئا حيال الكثيرين منهم لاستسلامهم الظاهري لها و عدم ابداء العداوة المعلنة، و مع ذلك فانها لجأت الي اعتقال الآلاف منهم بعيد القضاء علي ثورة مسلم و توقع قدوم الامام الحسين عليه السلام الي الكوفة.

و لابد لنا - عند التحدث عن مجتمع الكوفة في عهد يزيد - من استعراض نماذج معينة من أعوان السلطة ممن كان لهم تأثير في مجري الأحداث التي تزامنت مع ثورة الحسين عليه السلام، لتكوين صورة واضحة عن أحداث تلك الفترة العصبية، و سنتناول بايجاز عبيدالله بن زياد، و عمر بن سعد و شمر بن ذي الجوشن.