بازگشت

الكوفة، المدينة المعسكر...


الخليط المتنافر و من المهم عند الحديث عن مجتمع الكوفة الذي يمثل أكبر شريحة من أهل العراق أن نشير هنا الي أن هذه المدينة التي ضمت هذا المجتمع كانت حديثة التكوين نسبيا، فقد بدأ الشروع بتخطيطها و انشائها سنة 17 ه أو قبيلها بقليل، فعمرها لم يتجاوز 43 سنة الا بقليل عند وقوع أحداث الثورة.

و تمتاز الكوفة التي تقع علي الفرات علي أرض زراعية خصبة، عن المدائن بخلوها من الذباب و الغبار و البعوض و تكاد تكون منزلا بريا بحريا.


و قد اختطها سعد بن أبي وقاص اثر معركة القادسية و انتصار المسلمين، و قد أريد لها أن تكون حامية و مقرا لجيش المسلمين الذي اتسع بشكل ملحوظ أثر تلك المعركة الكبيرة التي شجعت الكثيرين فيما بعد علي الالتحاق بقوي الفتوحات لما أفاء الله علي الجيش المنتصر من أموال و مكاسب، حتي قيل ان نصيب الجندي الواحد من في ء المدائن بلغ اثني عشر ألفا [1] .

بدأ بناؤها بالقصيب ثم باللبن علي أثر حريق شب في مجموعة من بيوتها، فلما (أذن للناس بالبناء، نقل الناس أبوابهم من المدائن الي الكوفة فعلقوها علي ما بنوا و أوطنوا الكوفة) الطبري 482 / 2 و كانت سعة طرقها (أربعين ذراعا، و ما يليها ثلاثين ذراعا، و ما بين ذلك عشرين، و بالأزقة سبع أذع، و في القطائع ستين ذراعا) [2] .

و قد خط سعد المسجد في البداية ثم بني قصر الكوفة الذي كان يدعي قصر سعد، من بقية أبنية الأكاسرة في الحيرة.

و من المعلوم أن أميرالمؤمنين عليه السلام رفض النزول به عند مقدمه الكوفة و اتخاذها عاصمة الدولة الاسلامية.

و قد أعاد زياد بناء المسجد و القصر فيما بعد.

و خلال الفترة الممتدة ين سنة 17 ه و حتي سنة 61 أصبحت الكوفة أكبر مدينة اسلامية يسكنها خليط كبير من الناس من مختلف الاجناس و الديانات.. و كانت تشرف علي طريقين رئيسيين يمتد أحدهما حتي أذربيجان مرورا بخراسان و السند و ما وراء النهر و يمتد الثاني حتي الساحل الهندي مرورا بالبصرة و الخليج و سر نديب (سيريلانكا)...

و قد تضاربت التقديرات في عدد سكان الكوفة و ضواحيها و توابعها، و تراوحت بين تسعة ملايين و أربعة ملايين...

و اذا ما علمنا أن الكوفة قد أصبحت مركزا لجيش المسلمين الثري و الواسع أدركنا السبب الذي جعل سواهم من غير المسلمين من المسيحيين و اليهود و غيرهم


يستوطنون تلك المدينة المهمة، فبريق الذهب الذي كان يتدفق عليها كان له أثره البالغ عليهم..

و هذا هو السبب نفسه الذي جعل أهل البلدان المفتوحة يفدون اليها بعد وصول المسلمين اليهم و دخول اعداد كبيرة منهم أنفسهم في الاسلام، لتشابك المصالح و فتح الطرق.

اختلاط جميع هؤلاء و هم من الأغلبية المسلمة في مدينة واحدة (الكوفة) لم يكن مألوفا من قبل، و قد سكن الكوفة في البداية الجيش الاسلامي اثر معركة القادسية، و كان أفراد ذلك الجيش ينتمون الي مختلف القبائل العربية التي كان أغلبها من اليمن و قد ذكر أن عدد أهل اليمن بلغ اثني عشر ألفا من قبائل قضاعة و غسان و بجيله و خثعم و كنده و حضرموت و الازد و مذحج و حمير و همدان و النخع...

و كان عدد أفراد القبائل العدنانية التي تضم تميم و بني العصر ثمانية آلاف، أما بني بكر، و هم بنو أسد و غطفان و محارب و نمير فكانوا أقل منهم عددا.

و نستطيع القول ان شرائح واسعة من كل قبيلة عربية حتي في أقصي الجزيرة و من كل مكان من الدولة الاسلامية قد استوطنوا الكوفة.

كما أن أن جيش سعد ضم عناصر كثيرة من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم و حتي من أولئك الذين شاركوا في معركة بدر. [3] .

كانت طبيعة تنظيم المدينة لغرض التعبئة و العطاء و الاحصاء تقتضي أن يجتمع أفراد القبيلة الواحدة مع بعضهم و مع أقرب القبائل اليهم و مع أحلافهم، فكان هناك شعور بالانتماء القبلي ربما طغي علي ما عداه في خضم ذلك المحيط الواسع من الناس و خصوصا في ظل الدولة الأموية التي عاملتهم علي أساس مواقفهم من معاوية أيام حكم أميرالمؤمنين عليه السلام، و لم تقف منهم موقفا عادلا منذ البداية.

و قد حاول سعد في البداية تقسيم المجتمع الكوفي المستحدث الي أسابع يضم


كل واحد منها مجموعة من القبائل المتقاربة و الحليفة بعد الاستعانة بذوي الخبرة من نساب العرب و ذوي رأيهم و خبرائهم، و هذا ما يوضحه الطبري:

(فصارت كنانه و حلفاؤها من الأحابيش و غيرهم و جديله سبعا

و صارت قضاعة و بجيله و خثعم و كنده و حضرموت و الأزد سبعا

و صارت مذحج و حمير و همدان و حلفاؤهم سبا

و صارت تميم و سائر الرباب و هوازن سبعا

و صارت أسد و غطفان و محارب و النمر و ضبيعة و تغلب سبعا

و صارت اياد وعك و عبدالقيس و أهل هجر و الحمراء سبعا) [4] .

و قد استمر هذا التقسيم حتي أيام زياد بن أبيه حيث عمد الي نظام آخر يجعله أكثر قدرة علي السيطرة علي الكوفة و هو نظام الأرباع، و لعل تطور الأوضاع فيما بعد لصالح الامويين و امتلاكهم القوة و النفوذ جعل زياد يطور التشكيلة الادارية لصالح الدولة و يطور نظام العرافة مقابل النظام القبلي لاقامة توازن يتيح له السيطرة التامة علي الجميع.

فقد جعل زياد الرابع الأول من أهل المدينة و عليهم عمرو بن حريث، و الربع الثاني من تميم و همدان و عليهم خالد بن عرفطه، و الرابع الثالث من ربيعة بكر و كنده و عليهم قيس بن الوليد بن عبد شمس و الربع الرابع من مذحج و أسد و عليهم أبو بردة بن أبي موسي [5] .

و الأمر الذي أكد عليه زياد هو جعل رؤساء هذه التجمعات من الموالين للدولة المندفعين لتنفيذ أوامرها دون نقاش أو تردد، و قد شارك قسم منهم في مذبحة الطف فيما بعد.

و لأن أعداد من سكن الكوفة من القبائل كانت كبيرة، و لم يكن سكنهم قد تم بشكل تدريجي بطي ء، فكان لابد من استحداث نظام يتيح لمسؤول السلطة التعرف علي أحوالهم و تنظيم عطائهم.


و في زمن سعد تم اعادة تعريف الناس، و قد روي عن عطية بن الحارث قوله (أدركت مائة عريف... كان العطاء يدفع الي أمراء الاسباع و أصحاب الرايات، و الرايات علي أيادي العرب، فيدفعونه الي العرفاء و النقباء و الأمناء، فيدفعونه الي أهله في دورهم) [6] و قد توسعت مهمات العرفاء و امتدت لتشمل ندب الناس للقتال و القيام بتسجيل المواليد الجدد و الوفيات و الاخبار عن المتخلفين عن القتال الي غير ذلك من المهمات الأخري.

و قد استعان العرب المسلمون في بداية أمرهم بذوي الخبرة من ذوي الأديان و الأجناس الأخري، فقد كتب عمر بن الخطاب الي أصحاب ثغور الكوفة و هي حلوان و ما سبذان و قرقيسياء و الموصل (ان يستعينوا بمن احتاجوا اليه من الأساوده، و يرفعوا عنهم الجزاء) [7] و كان الأمر نفسه بالنسبة للكوفة أيضا، و من المعلوم ان أناسا من الحمراء استجابوا للمسلمين فاعانوهم، أسلم بعضهم قبل القتال و أسلم بعضهم عند القتال (398 / 2 الطبري).

و قد تمت أكبر عملية مصاهرة في التاريخ بين القبائل التي استوطنت الكوفة من جهة و بينهم و بين أهل السواد من الكتابيين من جهة أخري (كان في النخع سبعمائة امرأة فارغة و في بجيلة الف، و صاهر هؤلاء الف من أحياء العرب و هؤلاء سبعمائة، و كانت النخع تسمي اصهار المهاجرين، و بجيله...) [8] .

و قد روي عن مسلم مولي حذيفة قوله: (تزوج المهاجرون و الانصار في أهل السواد، يعني في أهل الكتابيين منهم) [9] .


پاورقي

[1] طبقات ابن سعد، 4 / 6 و مختصر کتاب البلدان 166 و في الطبري 466 / 2 (فقسم سعد الفي‏ء بين الناس بعد ما خمسه، فأصاب الفارس انثا عشر الفا، و کلهم کان فارسا ليس فيهم راجل).

[2] الطبري، 479 / 2.

[3] سکن الکوفة سبعون بدريا و ثلثمائة من أصحاب الشجرة، ترجم ابن سعد حياة مائة و خمسين منهم - طبقات ابن سعد 43 - 4 / 6 - و کان في جيش سعد (بضعة و سبعون بدريا، و ثلاثمائة و بضعة عشر ممن کانت له صحبة، فيما بين بيعة الرضوان الي ما فوق ذلک، و ثلاثمائة ممن شهد الفتح و سبعمائة من أبناء الصحابة، في جميع أحياء العرب) الطبري 386 / 2.

[4] الطبري 481 / 2.

[5] خطط الکوفة 16 - 15.

[6] الطبري 433 - 482 / 2.

[7] المصدر السابق.

[8] المصدر السابق.

[9] المصدر السابق.